إلا أن التوحّد يختلف، إذ لا تظهر أعراضه إلا بعد عمر السنتين بالنسبة للآباء الذين لديهم معرفة بعلاماته، بينما يلاحظ غالبية الأهالي بوادره بشكل أوضح خلال السنوات الأربع الأولى.
وفي كثير من الأحيان، لا يتم التشخيص إلا عند تسجيل الطفل في الروضة، حين تجبر المدرسة الأهل على إحضار تشخيص طبي للطفل.
وهنا ينصدم الوالدان اللذان قضيا سنوات في حالة إنكار. فالخبر لم يأتِ بلا مقدمات:
لقد لاحظوا أن طفلهم لم يتكلم بعد، لا يلعب مع بقية الأطفال، شديد الانتقاء في طعامه، لا يجيب عند مناداته، ولا ينظر في عين من يحادثه.
كما أنهم سمعوا من أقرباء أو أصدقاء أنه ربما يكون مصابًا بالتوحّد… لكنهم أنكروا، وفسّروا كل هذه التصرفات بأسباب أخرى.
الإنكار… راحة مؤقتة وكلفة طويلة
الإنكار مرحلة طبيعية، وهو الأولى ضمن سلسلة من المراحل التي يمر بها الإنسان عند وقوع صدمة.
يلجأ الإنسان إليه ظنًا أنه يحمي نفسه من الألم، كأنه يخفي الحقيقة عن ذاته لعلها تختفي وحدها.
لكن الطفل لا ينتظر تعافي والديه من صدمتهما، بل يكبر يومًا بعد يوم وسط تحديات لا يجد من يسانده فيها.
التحرر من العبء الصامت
التسليم ليس استسلامًا، بل خطوة شجاعة تفتح الأبواب نحو الفهم والدعم. فبإنكارهم، يرسِل الوالدان –دون وعي– رسالة بعدم تقبّلهم لطفلهم. وإذا لم يتقبّلاه، فكيف ينتظران من العالم أن يتقبّله؟
حين يعترف الوالدان بأن طفلهما مختلف، تبدأ رحلة جديدة للتقرب إليه والدخول إلى عالمه، لأنها الطريقة الوحيدة لإخراجه تدريجيًا إلى عالمهما.
سيكتشفان أن الطفل نفسه كان يرشدهم بلغته الخاصة إلى ما يحتاجه:
• حين يغطي أذنيه في الأماكن الصاخبة، فهو يخبرهم بحساسية سمعه، والحل إبعاده عن الضوضاء أو تزويده بسماعات عازلة.
• حين يرغب في اللعب بالرمل أو السير حافيًا، فهذا يساعده على تهدئة النشاط العصبي ويمنحه شعورًا بالسكينة.
• حين ينجذب إلى السباحة والغوص، فذلك يعادل إحساسه الحسي بجسده الذي يفتقده بسبب فرط الحساسية.
• وقبل أي نوبة غضب، دائمًا ما يرسل إشارة بأنه بدأ يشعر بالضيق. إذا لم يُنتبه لها، تأتي النوبة كالريح العاصفة، ولا بد أن تمر.
الإنكار… مفهوم لكن إلى أي مدى !
الإنكار أمر مفهوم وطبيعي، لكن استمراره لسنوات طويلة دليل ضعف داخلي ورفض لإجراء تغييرات حياتية لازمة، كما أنه نقص في الإيمان. فلا رادّ لقضاء الله، وكل ما قدّره خير، وإن ظننا غير ذلك.
وجود طفل متوحّد في حياة والديه ليس خطأ ولا سببًا للتعاسة، بل هو رسالة حياتية.
هذه الرسالة لا تعني بالضرورة الوصول إلى شفاء تام، بل تعني أن يعمل الأهل على جعل كل يوم من حياة طفلهم سعيدًا، وأن يكتشفوا الحب المختلف بينهم وبينه.
فهي قدرات عليا في الإنسان، تدفعه لتشغيل قلبه وعقله لفهم طبيعة طفله المختلفة عنه، وتعلّمه لغة غير كلامية لم يسبق أن عرفها.
وبالتأكيد سيبذل الوالدان قصارى جهدهما في تدريبه وتعليمه –كما في تربية أي طفل، إذ لا توجد تربية سهلة عمومًا–. وقد يتحسّن كثيرًا أو قليلًا، لكن ذلك ليس هو الجوهر.
في النهاية، سيشعر الوالدان بالرضا لأنهما قدّما كل ما في وسعهما، ولأنهما أحبّا طفلهما كما هو، سواء تحسّن أم لا. يكفي أنه علّمهما أن الحب قد يكون مختلفًا مثله.
فالحياة ليست في وجهتها، بل في الرحلة ذاتها.
تابعوا آخر الأخبار من icon news على WhatsApp تابعوا آخر الأخبار من icon news على Telegramنسخ الرابط :