"لا تُزهر في أرضٍ لا تحتملك"
حين يتحول البقاء إلى استنزاف ويصبح الانتماء ضربًا من التوهّم، نجد أنفسنا نخوض معارك ليست دفاعًا عن مبدأ، بل هربًا من اعتراف مؤلم: "هذا المكان ليس لي."
نُجهد أرواحنا في التبرير، نُراكم التنازلات، ونُسكت حدسنا كلما صاح: "ارحل." نتشبث بأرض لا تُنبتنا، بعلاقات تبلّلنا بالخذلان، بوظائف تُسخّرنا، فقط لأننا نهاب الفراغ... نهاب أن نكون بلا عنوان، بلا "موقع"، بلا انتماء.
لكن، أي انتماء هذا إن جاء مشروطًا؟ إن اقتضى أن تخلع نفسك وتستعير قناعًا؟ أي مكانٍ هذا الذي لا يرى فيك إلا ما يحتاجه منك، لا ما أنت عليه فعلًا؟
المكان ليس دومًا وطنًا... أحيانًا زنزانة.
في كل علاقة لا تُبادلك، في كل منصب لا يُنصفك، في كل وسط لا يحتملك، ثمة دعوة خفية للرحيل تُقال بصمت، تُقال بالإهمال، تُقال بالنكران.
ولكن، كم من أرواح انطفأت فقط لأنها ظنّت أن الإصرار بطولة، بينما هو استنزاف ناعم للذات.
_من نبض الواقع... شواهد صامتة على هذا الاغتراب_
- رنا، في ربيعها الثامن والعشرين، تُكافح في شركة تُقيّمها بالأرقام لا بالجهد. صمتت كثيرًا، انتظرت طويلًا، فُضّلت عليها وجوه أقلّ عطاء. تأخرت في الانسحاب لأن الطموح خُدّر بالاعتياد. رحلت بعد أن فهمت: _الوفاء لمكان لا يراك، خيانة للذات.
- فؤاد، مغترب حمل وطنه في قلبه، وعاش في بيئة لا تحتمل اختلافه. لا تحارب من أجل أن يُحبّك من لا يعرف قيمتك. لا تُزهر في أرضٍ تسرق لونك، وتُطفئ عطرك، وتكسر ساقك إن نَمَوتَ أكثر من الحدّ المسموح.
_الانسحاب ليس استسلامًا، بل إنقاذ._ ليس من الشجاعة أن تبقى حيث تُستهلك. بل أن ترحل قبل أن تصبح ظلًا منك. أن تقول: "هذا لا يُشبهني... وسأرحل بكرامتي."
_اصنع المساحة التي تُشبهك. لا تنتظر دعوة من أحد لتكون نفسك. اصنع مكانًا يحتضن اختلافك، يقدّر طاقتك، ويمنحك ما تستحق دون أن تدفع من كرامتك ثمنًا.
احذر أن تُزهر في أرضٍ لا تحتملك. أن تبقى في علاقة بلا نبض، في بيئة بلا هواء، في دائرة لا تُسمح لك فيها بالكبر. بعض الأبواب لا تُطرق مرتين، وبعض الأماكن لا تستحق حتى نظرة الوداع.
انسحب، حين يُصبح وجودك مجرّد صراع... فالبقاء حيث لا تُزهر، موتٌ ببطء.
حاول الاندماج إلى حد الذوبان. كتم لغته، خفّف ملامحه، كبح رأيه. لكنه ظلّ غريبًا، لا لأنهم رفضوه، بل لأنه هو من تخلى عن نفسه. أدرك متأخرًا أن الانتماء الحقيقي يبدأ حين تصالح ذاتك، لا حين تُخفيها.
- جنى، عاشقة حالمة، أعطت دون حساب، وسُحقت دون رحمة. قدّمت كل ما تملك فقط لتُبقي على علاقة ميتة. لكنها لم تلاحظ أن البذل وحده لا يُبقي شيئًا حيًا… إن لم يكن الطرف الآخر على قيد الوفاء.
- مالك، إعلامي حرّ، فضّل الإقصاء على التنازل، اختار أن يُقصى بصمته لا أن يبيع ضميره بكلمة. أنشأ مساحة تشبهه، ولو كانت ضيقة. لأنه أدرك أن المكان الذي لا يسمع صوتك… لا يستحقك.
لا تطرق الأبواب التي تُغلق في وجهك كل يوم
لا تحاول أن تُشرح نفسك في مكانٍ يصرّ أن لا يفهمك. لا تنتظر دفئًا من جدران باردة. لا تضحِّ بذاتك لتُلائم قالبًا صُمّم لغيرك.
أحيانًا، الرحيل هو أنقى أشكال الصدق مع الذات. أن تختار الخروج من أماكن لا تحتملك، هو إعلان شجاع بأنك تستحق أكثر من "مجرد مساحة"
_الانسحاب ليس هروبًا... بل عودة_
أن تنسحب ليس ضعفًا، بل استعادة لما تبقّى منك. أن تقول "لا أريد هذا المكان"، هو ولادة جديدة لهويتك. الكرامة لا تُفصّل حسب رغبات الآخرين، بل تُرتدى كما هي… أو لا تُرتدى أبدًا.
_ابنِ موضعك بيدك، ولا تتسول القبول_
قد لا تجد الأرض التي تحضنك فورًا. قد تتعب. تتوه. لكن لا تزرع في تربة تلفظك، ولا تسقِ علاقة تُنبت شوكًا، ولا تكدّ في دربٍ لا يصل بك إليك.
اصنع مكانك من فكرتك، من نبضك، من عُمقك. وإن لم يحتملك العالم… احتمل نفسك كما هي، تكفيك.
لا تُزهر في أرضٍ لا تحتملك. لا تُقاتل من أجل مكان يستهلكك لتبقى. البعض لا يستحق معركتك، ولا حتى وجودك.
تذكّر: أنت لست عابرًا… بل جذرٌ عميق يبحث عن تربة تُنصفه. فإن لم تجدها، لا بأس... كن التربة. كن الوطن. كن السلام الذي لم يُمنح لك.
تابعوا آخر الأخبار من icon news على WhatsApp
تابعوا آخر الأخبار من icon news على Telegram
(يلفت موقع “iconnews ” انه غير مسؤول عن النص ومضمونه، وهو لا يعبّر إلا عن وجهة نظر كاتبه أو مصدره)
:شارك المقال على وسائل التواصل الإجتماعي