التسلط والنقد الذاتي... والانشقاق!

التسلط والنقد الذاتي... والانشقاق!

 

Telegram

 

 

 

 

أحمد أصفهاني

 

إفتتح سعاده سلسلة محاضرات الندوة الثقافية المركزية في 7 كانون الثاني سنة 1948، بمحاضرة أولى تناولت تفاصيل معركة التخلص من الانحراف والمنحرفين في الحزب السوري القومي الاجتماعي. كما تضمنت في الوقت نفسه نقداً ذاتياً للقوميين الاجتماعيين، سواء منهم "المهتمون بالمسائل الروحية الثقافية والأسس الفكرية" أو الصف الحزبي بصورة عامة. ذلك أن سعاده كان يتوقع خلال فترة غيابه القسري أن يكون هؤلاء"قد جعلوا همّهم الأول درس حقيقة مبادىء النهضة، ودرس الشروح الأولية الأساسية التي توضح الاتجاه والغاية والأهداف القومية الاجتماعية، إرساخاً للعقيدة وتدقيقاً في العمل".

 

وعبّر سعاده عن استغرابه عندما وجد أن أعضاء مسجّلين في الحزب "يتقوّلون في قضايا الحزب والعقيدة والحركة كما لو كانوا جماعة غرباء كلياً عن الحركة القومية الاجتماعية"، وأن النظامية الفكرية والروحية والمناقبية "كادت تنعدم في دوائر الحزب العليا بعامل الإهمال". أما في ما يتعلق بلبننة العقيدة والحزب، فقال: "والظاهر أنّ الحزب قَبِلَ انتشار "الواقع اللبناني" بحكم النظام فقط لأنني وجدت أنّ مجموع القوميين الاجتماعيين لم يتقيدوا بفكر واحد من هذه الأفكار. ولكن قبول هذا الخروج العقدي، وإن يكن في الظاهر فقط، يكون مسألة من المسائل الخطيرة". إن استعمال الزعيم مفردة "الظاهر" يوحي بأنه لم يكن جازماً في هذه المسألة، أو أن هناك جوانب أخرى لم يُفصح عنها. ونحن نعتقد بوجود عوامل أخرى ستتضح معنا في سياق البحث.

 

كثيراً ما كان سعاده يعود إلى دراسة تاريخ الحزب ومراجعته بعقل نقدي بناء، ويرى في ذلك وسيلة لتوجيه الصف الحزبي. يقول في المحاضرة الأولى: "ظهر، من الاختبارات التي مرّت في السنوات الثلاث أو الأربع الماضية، أنّ تاريخ الحزب، ضمن العوامل التي جبهها، لم يكن له أثر فاعل في التوجيه. وهذه الحقيقة تدل على أنه لم تكن هنالك عناية بتدريس تاريخ الحزب ـ تاريخ نشأته وانطلاقته الأولى ـ وكيف تغلّب على الصعوبات، وما هي القضايا التي واجهها وكيف عالجها". ومن الطبيعي أن مثل هذه الدراسة سيكشف الإيجابي والسلبي على حد سواء. وبكلام آخر، إنها عملية نقد ذاتي سيكون من أهم أهدافها استيعاب تجارب الماضي، بحيث يتم البناء على ما تحقق من إنجازات، وإصلاح ما بيّنت الأحداث خطأه أو خلله.

 

وقد نشر سعاده مقالاً بعنوان "شعب منقسم على ذاته ـ عبرة المستشفى السوري" في جريدة "سورية الجديدة" (البرازيل) بتاريخ 5 نيسان 1941 قال فيه: "يجب أن نكون جريئين فنعترف بأغلاطنا وندرس أسبابها جيداً، إذا كنا نريد أن نحافظ على كرامتنا القومية، وأن نتقدم مع الأمم الحيّة. أما نسيان الأغلاط وتجاهلها فلا نتيجة له غير البقاء حيث نحن". (الأعمال الكاملة ـ الجزء الرابع، صفحة 195). ومع أن الكلام موجه إلى الجالية السورية في المهجر، فإن منطق النقد الذاتي يسري على الحزب في كل مكان وزمان أيضاً.

 

لم يُتح لسعاده الوقت الكافي لترسيخ فكرة "النقد الذاتي" بوصفها أداة توجيه وتصحيح ومحاسبة. فما كاد أمر الحزب السري ينكشف سنة 1935 حتى أضطر إلى مغادرة الوطن سنة 1938... وما أن عاد سنة 1947 حتى اغتالته المؤامرة بعد سنتين. فترة زمنية قصيرة ومعقدة كان من الصعب، حتى على سعاده نفسه، أن يؤطر مهمة النقد والمحاسبة في صيغة إدارية. لكن الحزب السوري القومي الذي تركه في الوطن كان بإمكانه بين 1938 و1947 أن يتخذ خطوات معينة في هذا المنحى، لولا أن قيادته المركزية كانت في وارد أخر.

 

وهنا نعود إلى عبارة "بحكم النظام" التي استخدمها سعاده. نحن نرى أن الخلل يتعدى عامل "النظام" فقط، إذ أن قياديي الحزب بغالبيتهم العظمى آنذاك إما تورطوا مباشرة، وإما سكتوا خشية أو قناعة، وإما تربصوا لمعرفة اتجاهات الريح قبل ركوب الموجة المناسبة. طبعاً كانت هناك قلة رفعت الصوت عالياً، فدفعت الثمن إبعاداً وإهمالاً وفصلاً وانشقاقاً! إن غياب النقد الذاتي المؤطر والمنظم أدى ـ وسيؤدي لاحقاً كما سنرى ـ إلى ديكتاتورية مركزية (تفرّد سلطوي) خضع لها الصف الحزبي "بحكم النظام"، أولاً... لكن أيضاً بحكم قدرة القيادة (ممثلة حينها برئيس المجلس الأعلى نعمة ثابت) على إحكام قبضتها على مفاصل السلطة. ومن هنا تنشأ علاقة متشابكة بين: التسلط الديكتاتوري والنقد الذاتي والانشقاق. (إن تغييب الصف الحزبي أو منعه من القيام بالدور المنوط به سيكون موضوع بحث مستقل لاحقاً).

 

إذا راجعنا المحطات الرئيسية في تاريخ الحزب حتى هذه اللحظة يظهر لنا أن عرقلة عملية النقد الذاتي البناء، الساعية إلى تصحيح المسار، ستسفر عن تيارات غير نظامية. وفي مثل هذه الحالة تلجأ القيادة إلى خطوات سلطوية تستعدي الرأي الآخر وتشيطنه، وصولاً إلى إبعاده عن جسم الحزب... وفي أحيان كثيرة يحدث الانشقاق. سنة 1954 كاد الخلاف بين جورج عبد المسيح وعصام المحايري أن يفجّر الحزب، إلا أن "التسوية" أجّلت المحتوم إلى سنة 1957. بينما ساهمت معارك 1958 وانقلاب 1961 ـ 1962 في ترحيل الخلافات الداخلية إلى سنة 1974 ـ 1975... وهكذا دواليك إلى يومنا هذا. فالنزعة الفردية الطاغية لدى بعضهم لا تتقبل الاعتراف بخطأ ما أو تبنّي توجهات مغايرة. وفي كل الحالات والمراحل، كان القياديون يتعاملون مع النقد الذاتي بعقلية القيادة المتشبثة بالسلطة حتى لو أدى ذلك إلى الانشقاق أو ابتعاد قسم كبير من القوميين عن الحزب.

 

وللنقد الذاتي، بصورة عامة، آليات وغايات محددة. ليس الهدف منه التشفي والانتقام أو التملق والمحاباة، بل استيعاب الدروس والخروج بخلاصات تعيّن معالم الطريق نحو المستقبل. وعملية النقد التي يجب أن تجري ضمن أطر نظامية، عليها أن تعرض للجوانب الإيجابية كما للجوانب السلبية. والغاية النهائية منها أن يتحمل المسؤولون تبعات النتائج التي أسفرت عنها سياساتهم. وهنا تكمن العلة التاريخية التي نخرت الجسم الحزبي على مدى عقود. ذلك أن عقلية التسلط عند بعض القيادات لا تتعامل إلا بعدوانية شرسة مع النقد. وعندما تفشل في كبته من خلال إجراءات دستورية (ملتوية إذا تطلب الأمر!)، لا تتورع عن اللجوء إلى شق الحزب أو التهديد بشق الحزب. ومن الأمثلة الفاقعة: (1954 ـ 1957)، (1971 ـ 1975)، (1982 ـ 1987)... ولا ننسى أزمات العقود الثلاثة الأخيرة، وصولاً إلى 13 أيلول 2020!!

 

لكن ماذا عن دور الصف الحزبي؟ كيف نفسّر قبول معظم القوميين، في مراحل مختلفة، بسياسات وممارسات لا تتوافق مع العقيدة القومية الاجتماعية ولا مع المناقب القومية الاجتماعية؟ هل يكمن الخلل في البنية الاجتماعية للسوريين، أم في سوء تطبيق الدستور، أم في غياب بعض التشريعات التي تؤكد أن القوميين هم مصدر السلطات؟ وما هي الضمانات التي تكفل منع الانحراف السياسي والفكري والمناقبي "بحكم النظام"؟

 

كان من المفترض أن يُشكل "المؤتمر القومي العام" كل أربع سنوات قاعدة للحوار و"النقد الذاتي"، بمشاركة شريحة واسعة من الرفقاء ذوي الاختصاص والخبرة. فتنتج عن النقاشات خطط وبرامج عمل، تحولها القيادات المُنتخبة إلى مشاريع تنفيذية. لكن الذي حدث منذ عقود أن "الفوز" باللعبة الانتخابية طغى على كل الاعتبارات القومية المهمة. وانصبت الجهود على تأمين ذلك "الفوز" بغض النظر عن طبيعة الوسائل المستخدمة في ذلك. وهكذا ترسخت العقلية السلطوية، مقابل تراجع النقد الذاتي إلى مجرد ثرثرات عبر وسائل التواصل الاجتماعي... فأصيب الحزب بعوارض التشرذم والانشقاق! وتقزّم دور "المؤتمر القومي العام" إلى مجرّد سوق انتخابية خاضعة للبيع والشراء، بصفقات ومساومات تتم خلف الكواليس وتحت الطاولة، وعلى عينك يا تاجر أيضاً.

تابعوا آخر الأخبار من icon news على WhatsApp تابعوا آخر الأخبار من icon news على Telegram

نسخ الرابط :

(يلفت موقع “iconnews ” انه غير مسؤول عن النص ومضمونه، وهو لا يعبّر إلا عن وجهة نظر كاتبه أو مصدره)

:شارك المقال على وسائل التواصل الإجتماعي

 

Telegram