بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَٰنِ الرَّحِيمِ
*كَلمةُ الْمَرْجَع الرُّوحِيّ الشَّيْخ أَبُو يُوسُف أَمين الصَّايِغ إلى أبناء جبل العرب وسائر الموحدين الدروز* ,
والحمدُ للهِ على حُلوِ القضاءِ ومُرِّهِ، اتّباعًا لما أمرَ، ونحمدُهُ، والحمدُ غايةُ مَن شكرَ، ونسلِّمُ لأمرِهِ تسليمَ مَن ابتُليَ فصبرَ، والرِّضى بكلِّ قضاءٍ وقَدَرٍ.
وصلّى اللهُ على عبدِهِ ورسولِهِ سيّدِ البشرِ، وعلى أنبيائِهِ ورُسلِهِ ما اتّصلتْ عينٌ بنظرٍ.
وبعدُ، إيهِ يا سويداءَ الموحِّدينَ، أوضاحَ معالمَ، وجلائلَ آثارٍ ومآثرَ!
فقِفْ يا ذا البصرِ عندَ مواضعِ العِبَرِ، بمواقعِ آياتِ الكِبَرِ.. قِفْ ناجِ حرائرَ وأبطالَ جبلِ العربِ!
فها هنا جلالُ الخُلُقِ وثبوتُهُ، ونفاذُ العقلِ ورسوخُهُ، ومطالعُ الحقِّ وبيوتُهُ، وها هنا نتعلّمُ أنَّ بناءَ الأوطانِ مرهونٌ بكرامةِ الإنسانِ.. حيثُ ينطقُ الحجرُ بالتاريخِ، وتروي المآثرُ سيرَ الرِّجالِ، رجالٍ صدقوا فصارتِ المعالمُ شواهدَ، والمواقفُ مناراتٍ، واليومَ يستكملُ أبناؤُك المسيرَ، حماةً للثوابتِ، شركاءَ في صناعةِ الوطنِ والكرامةِ، أمناءَ على الأرضِ والهُويّةِ.
مَتَى يا عُريبَ الحيِّ يأتي بشيرُكمُ فتبتهجَ الدنيا ويجتمعَ الشملُ
صِلُوني على ما بي فإنّي لوصلِكمُ إذا لم أكُنْ أهلًا فأنتُمْ لهُ أهلُ
إخواني الموحِّدينَ أبناءَ جبلِ العربِ الأشمِّ،
نسألُ اللهَ الرحمةَ والمغفرةَ لشهداءِ الجبلِ الموحِّدينَ الأبرارِ، والعزاءَ والمواساةَ للأهلِ والأصدقاءِ وجميعِ الأحرارِ في هذه الفاجعةِ الداهيةِ، ونسألُهُ سبحانَهُ القادرَ على الباغينَ، الحافظَ للمستضعفينَ، المُقتدرَ على جبابرةِ الأرضِ، السميعَ لصرخةِ المقهورينَ، القديرَ على صولةِ المعتدينَ، البصيرَ بغدرِ المنافقينَ، المنتقمَ لجراحِ المظلومينَ المتألمينَ، النصيرَ للمؤمنينَ الثابتينَ، أن يُمدَّكم بثباتٍ من عندِه، ويُفرِّجَ كربَكم، ويبلسمَ جراحَكم. ويُلهِمَنا وإيّاكم وذوي الشهداءِ الصبرَ والسلوانَ..
واعلموا إخواني الموحِّدينَ، إنما الصبرُ استذكارٌ: {إنّا للهِ وإنّا إليهِ راجعونَ}، واليقينُ بأنَّ الدهرَ يومانِ، والدنيا حالتانِ، وليسَ للعبدِ إلّا اللهُ يرتجي، فلكلِّ شيءٍ غايةٌ وينقضي.
أيّها الإخوةُ الموحِّدونَ،
ونحنُ على مفترقِ طرقٍ آخرَ حاسمٍ في تاريخِنا، مفترقِ طرقٍ يتطلّبُ الاختيارَ السليمَ، وعدمَ إضاعةِ "البوصلةِ"، فهذه ليستْ مجرّدَ لحظةٍ سياسيةٍ أخرى لتسجيلِ المواقفِ، بل إنّهُ صراعٌ لإثباتِ جدارةِ هُويّتنا كمجتمعٍ درزيٍّ في الحاضرِ والمستقبلِ.
هي لحظةٌ تتطلّبُ استعادةَ الذاكرةِ – ذاكرةَ القِيَمِ المعروفيةِ الشريفةِ – بقصدِ استعادةِ الوعي، وبقصدِ استعادةِ الإرادةِ، فقد وصلْنا إلى لحظةٍ قد تخرجُ فيها مجتمعاتُ هذا الإقليمِ من دوائرِ صنعِ التاريخِ ودوائرِ المشاركةِ في صنعِ عالمِها وتحديدِ أحوالِهِ، لكي تجدَ نفسَها أداةً في لعبةِ الأممِ وصراعاتِها وموازينِ قواها.
واعلموا أيّها الإخوةُ، أنَّ للتاريخِ ضميرًا لا ينسى، فلنْ ينفصلَ الإنسانُ عن تاريخِه، ولنْ ينفصلَ التاريخُ مطلقًا عن الإنسانِ؛ كلاهما ذاكرةُ الآخرِ، وكلاهما ضميرُ الآخرِ.
وعلى ضوءِ ما تقدَّمَ، لعلَّ من الخيرِ أنْ نُضيءَ بعضَ المعالمِ على هذا الطريقِ:
أوّلُها: ألّا نحيدَ عن خيارِ السَّلفِ الصالحِ، بالتمسّكِ بالهُويّةِ العربيّةِ الإسلاميّةِ، تأكيدًا على وعيٍ دينيٍّ وسياسيٍّ بتراثِ طائفةِ الموحِّدينَ الدروزِ، وإسهامِها الفكريِّ والإنسانيِّ في الحضارةِ العربيّةِ والإسلاميّةِ، فإذْ بنا جزءٌ ثمينٌ من هذه الأمّةِ، قضاياها واحدةٌ، وأمنُنا مشتركٌ، راجيًا ألّا تتواضعَ بنا نظريّاتُ الأمنِ المادّيِّ وتصوراتُهُ ومخاطرُ القادمِ من الأيامِ إلى درجةِ إغفالِ أهميّةِ "أمنِ الهُويّةِ"!
وثانيها: ما حصلَ من مجازرَ واعتداءاتٍ طالتْ إخوانَنا في السويداءِ بلغَتْ حدًّا شديدَ الوطأةِ، ليسَ على التاريخِ وحسبُ، وإنّما على العقلِ والوعيِ والدِّينِ، وبالتالي على المستقبلِ، وعلى الضروراتِ التي تستدعي النظرَ إليهِ ودراستَه والاستعدادَ لرحلتِهِ.
من هنا كانت مطالب أهلنا في جبل العرب التمسُّك بخيار الدَّولة التعدُّدية والعادلة كضامن للحقوق. وعليه نناشد الأشقاء في الدُّول العربيَّة رعاية وتأمين معابر إنسانيَّة لأبناء السويداء.
وثالثُها: التأكيدُ على حقِّنا في التواصلِ والتفاعلِ السليمِ مع كافّةِ المجتمعاتِ الدرزيّةِ، بما يضمنُ ويُعزّزُ الهويّةَ العربيّةَ لهذه المجتمعاتِ.
وأكرّرُ في هذا الصددِ ما قلتُه سابقًا: "إنَّ المجتمعَ التوحيديَّ موجودٌ، ولم يدعُهُ إلى الوجودِ مشرِّعٌ بشريٌّ، ومنذُ وجودِهِ، لهُ قوانينُ ونظامٌ مبنيٌّ على القِيَمِ التوحيديّةِ والإنسانيّةِ، وعلى القوانينِ أنْ تتكفَّلَ بحفظِ وصيانةِ هذه القِيَمِ، لا بهدمِها."
ورابعُها: لا بدَّ من الإصغاءِ إلى صوتِ النخبِ والمثقّفينَ منَ الموحِّدينَ الدروزِ، وقد كانَ لهم دورُ الجنودِ المجهولينَ في العديدِ من دولِ العالمِ، في المساهمةِ في رفعِ الظُّلمِ عن إخوتِنا في سوريَا. وهكذا أعلنوا عن وعيِهم وإدراكِهم بأنَّ رسالةَ الطائفةِ المعروفيةِ واسعةٌ سعةَ أرضِها، عميقةٌ عُمقَ تاريخِها، جليلةٌ جلالَ إنتاجِها المتمثِّلِ بأنبيائِها ورُسُلِها، مؤكِّدةً أنَّها طائفةٌ من ضلوعِ الحقِّ، وتبقى أبدًا متمسِّكةً بجوهرِها الإنسانيِّ التوحيديِّ العريقِ، والذي تجدُهُ دائمًا في وحدتِها العاقلةِ... وحدةِ المسارِ والمصيرِ.
ختامًا، أناشدُكم عقلاءَ جبلِ العربِ الأشمِّ، لوقفةٍ نتأمّلُ فيها دونَ أنْ نتوقّفَ، ونتعمّقَ قليلًا دونَ أنْ نغرقَ، نسألُ أنفسَنا: ما نحنُ؟ وما العالمُ؟ ومن أينَ نحنُ؟ وإلى أينَ تسيرُ بنا أفعالُنا؟ وما الغايةُ من وجودِنا؟
وقد ثبتَ أنَّ الخيرَ المؤكَّدَ لطائفةِ المسلمينَ الموحِّدينَ الدروزِ، أنْ يُحكَموا بحكومةِ العقلِ والوجدانِ والضميرِ من داخلِ نفوسِهم، قبلَ أنْ تُحكَمَ أجسامُهم وظواهرُ أعمالِهم بالقوانينِ، لأنَّ حكومةَ الوجدانِ راعيها المُطَّلعُ في كلِّ حينٍ على خائنةِ الأعينِ وما تُخفي الصدورُ، ولنْ تقومَ حكومةُ العقلِ والوجدانِ إلّا في ظلالِ الدِّينِ الصحيحِ، الكفيلِ بصيانةِ الأهلِ فيما بينهم وبينَ أنفسِهم، بقِيَمِ الحقِّ والخيرِ والفضيلةِ، والنُّبلِ والشرفِ والرِّفعةِ في النفوسِ. فهذه هي مصافُّ نفوسِ الشرفاءِ والسادةِ بالجوهرِ والنشأةِ...
أمدّكم اللهُ بهُداهُ، وأنتم الحارسُ اليقظُ إنْ شاءَ اللهُ.
وللهِ عاقبةُ الأمورِ... والسّلامُ.
الأربعاء 05 صَفَر 1447 هـ الموافق في 30 تموز 2025 م
تابعوا آخر الأخبار من icon news على WhatsApp تابعوا آخر الأخبار من icon news على Telegramنسخ الرابط :