بقلم زياد الشويري
في وطنٍ غارقٍ في الفساد، يتهاوى منحدراً خلف فضائح لا تنتهي في مرافق الدولة وإداراتها، نفاجأ بخبرٍ لا يحمل سوى القهر والاستفزاز: توقيف رولان خوري، رئيس مجلس إدارة ومدير عام “كازينو لبنان”، ذاك الرجل الذي، ومنذ تسلّمه مهامه في نيسان 2017، لم يكن موظّفاً في منصب، بل نهضةً تمشي على قدمين. رجل لا تسكنه السلطة، بل تسكنه فكرة الدولة: دولة المؤسسات، دولة الصورة الحضارية، دولة التنمية لا المافيات.
منذ تولّيه الإدارة، لم يتكئ خوري على إرثٍ قديم أو شعارٍ فارغ. بل اشتغل بصمت وعناد، فتح أبواب الكازينو المغلقة، وأعاد إليه روحه كمرفق سياحي وثقافي يليق بلبنان الرسالة، لا لبنان الصفقة. تشير الأرقام الرسمية، لا المقالات المأجورة، إلى ارتفاع مُلفت في المداخيل والمكاسب، نتيجة قرارات جريئة أغلقت مزاريب الهدر، وفرضت رقابة صارمة، واعتمدت الشفافية في التوظيف، والتدريب المستمر للموظفين، لتحويل هذا الصرح إلى مؤسسة حديثة تتنفس كرامة العمل لا عبء الزبائنية.
أعاد خوري صياغة هوية “كازينو لبنان”، ليس كمجرد صالة قمار، بل كمنصة للفن والثقافة والسياحة. قدّم العروض الفنية، أطلق المهرجانات الثقافية العالمية، وناضل في وجه القمار غير الشرعي عبر منصّات السوق السوداء المحميّة، والتي تعمل وكأنها دولة داخل الدولة. لكن، ويا للمفارقة، تربح المافيا السوداء ويُكافأ رولان خوري بتوقيف تعسّفي، وكأن النجاح جريمة، والنزاهة تُهمة.
فما ذنبه؟ أنه طبّق قراراً اتُخذ فوق طاولته، بين مرجعيات حكومية ورئاسية ووزراء، أدّى إلى ولادة شركة تدير ألعاب الميسر إلكترونياً (“Bet Arabia”)، بعد مناقصة عالمية شفافة وبطلب من وزارة المالية، وقد اعترف ديوان المحاسبة بمشروعيته، وهو بكل الأحوال لم يكن يملك حق الرفض أو حتى الاعتراض. فكيف يتحوّل اليوم إلى كبش محرقة، في مسرحية بائسة تحاول تصفية رجل لأنه لم ينحنِ، لأنه لا يشبههم، لأنه ينجز بينما هم ينهبون؟
إنها مهزلة لا تليق بدولة، بل بمزرعة تتقن ذبح الأوفياء ليفسحوا المجال أمام “المحاسيب”. فهل المطلوب هو الإطاحة بخوري فقط لأنه ينتمي إلى نهج بناء؟ أم لأن منصبه بات يشتهيه من يعتبر الدولة مزرعة ورقاب الناس فرصاً للاستثمار الشخصي؟!
ليس هكذا تُبنى الأوطان، لا هكذا نحمي ما تبقّى من مؤسسات، ولا هكذا نصنع قضاءً نزيهاً. فحين يصبح الشريف موضع تحقيق، والفاسد متصدّراً للمشهد، نفقد ليس فقط البوصلة، بل الكرامة الوطنية.
إن خوري اليوم لا يُحاكم على ملف فساد، بل يُعاقب على نجاح. يدفع ثمن اتفاقات سياسية مشبوهة، نُسجت بخيوط المصالح بين أكثر من طرف نافذ، ليُستخدم هو كواجهة لقرار ليس من صنع يديه. أليس من واجب القضاء، إن أراد فعلاً أن يتحرّر من التدخلات، أن يفتح تحقيقاً مع من صنع القرار، لا مع من نفّذه مضطراً؟!
في هذه اللحظة المفصلية، لا بد من دقّ ناقوس الحقيقة: إن استهداف رولان خوري هو اختبار للدولة، للعدالة، للقضاء، ولضمير هذا الوطن. فإما نكون شعباً يصون الشرفاء، أو نغرق أكثر في جمهورية السمسرة والارتهان.
إن الوطن الذي لا يحمي رموزه النظيفة، هو وطن يستقيل من تاريخه. ورولان خوري، رغم الألم، سيبقى شاهداً على أن لبنان لا يزال فيه رجال يبنون، ينهضون، ويجعلون من المؤسسات أمكنة تليق بنا، لا زوايا معتمة لأصحاب الصفقات.
وإذا كانت العدالة لا تُبصر سوى من يُطلب منها أن تبصره، فالمشكلة لم تكن يوماً في خوري، بل في مرآة تزعجهم لأنها نظيفة.
نسخ الرابط :