“هَبّة” نسائية في الانتخابات البلدية… لإحداث الفرق
هَبَّةٌ نسائيةٌ واضحةٌ تنقل الانتخابات البلدية والاختيارية في لبنان، من ميدانٍ «يقبض» عليه الرجال في شكل شبه كلّي إلى فضاء مفتوح أمام المرأة بلا حواجز.
لم ينتظرن قانون الكوتا ولا «وعود الشرف» بين الأحزاب والعائلات، بل بادَرْنَ من تلقاء أنفسهن للترشح، وفَرَضْنَ وجودهنّ على اللوائح الانتخابية، لا لتجميلها وتطعيمها رمزياً بالجنس اللطيف كما جرت العادة، بل لشراكةٍ فعلية استناداً على كفاءة وخبرة وجرأة في خوض معترك خدمة الوطن وناسه، وكأنه يترشحن لـ… يصنعن الفارق.
ظاهرة لافتة تشهدها الانتخابات البلدية والاختيارية اللبنانية في لبنان بنسخة 2025 التي تنطلق غداً الأحد، حيث لا تكاد تخلو لائحة من وجوه نسائية سواء في المدن الكبرى أو في الضواحي وحتى الأرياف.
ولا يُقرأ تَزايد ترشّح النساء إلى المجالس البلدية رغم عدم نهائية الأرقام بعد كظاهرة رقمية فقط، بل بوصفه تعبيراً عن تحوّل نوعي في العقلية المجتمعية في اتجاه التقبّل الجدي لموقع المرأة ودورها في إعادة بناء المجتمعات المحلية في بلدٍ يرزح تحت أزمات مركّبة اقتصادية واجتماعية وأمنية. فهل تعكس أعداد المرشّحات قدرة المرأة على كسر الحواجز الذكورية المتجذّرة في العمل البلدي، وقابليتها للانخراط في مشاريع تنموية تعبّر عن حاجات مجتمعاتهن؟
… تَصاعُد كالسهم
لم تشهد الانتخابات البلدية السابقة في لبنان مشاركةً نسائية تُذكر. ووفق «الدولية للمعلومات» بلغتْ نسبة المرشّحات الى البلدية في كل المحافظات في آخر انتخابات جرت في 2016 نحو 6.87 في المئة اي ما يعادل 661 مرشحة، واقتصرت نسبة الفائزات على 5.44 في المئة. ولم تكن هذه النسب أعلى بكثير مما شهدتْه انتخابات العام 2010 حيث بلغت نسبة المرشحات 5.6 في المئة ونسبة الفائزات 4.69 في المئة. وإذ شهدت الانتخابات الاختيارية فوز 57 من أصل 381 مرشّحة، فلم يتخطّ عدد الفائزات برئاسة البلدية سبع نساء، وأتت غالبيتهنّ من خلفية وراثية أو حزبية.
اليوم ورغم عدم صدور أرقام رسمية بعد نظراً لعدم قفل باب الترشيحات وباب الانسحاب من كل المحافظات (تُقفل تباعاً)، فإن النسب تبدو للوهلة الأولى أعلى من ذلك بكثير. إذ يكفي إلقاء نظرة على اللوائح في كافة المناطق لمعرفة إقبال النساء على الترشح. وقد ساهم اتفاق «سلمة» في زيادة عدد المرشحات، وهو التزام شرف غير مُلْزِم قانونياً أطلقتْه جمعية «فيفتي- فيفتي» بالتعاون مع عدد من الأحزاب السياسية والعائلات بهدف تعزيز تمثيل النساء في المجالس البلدية ووصول ما لا يقل عن 30 في المئة من النساء في البلدية الصغيرة و50 في المئة في البلديات الكبرى، ولا سيما وان قانون الكوتا النسائية لم يتم إقراره في البرلمان اللبناني، فجاء اتفاق سلمة الذي يعني «سوا للمساواة» كبديل عنه. علماً أنه كان يمكن لهذا القانون لو أقر أن يؤمن وصول نحو 4000 امراة الى المجالس البلدية من بين 12475 عضواً.
بعض الأحزاب السياسية والمرجعيات الدينية لم تكن راضية عن اتفاق «سلمة»، ونتيجةً لذلك واجهت بعض المرشحات تحدياتٍ ووضْعاً للعصي في الدواليب، مع محاولاتٍ لردعهن عن المضي في مشوار الترشح من فاعليات محلية دينية وسلطوية، فيما تبنّت أحزاب أخرى اتفاق «سلمة» بقوةٍ واقتناع. وقد بلغ تمثيل المرأة في منطقة بشري الجبة مثلاً نسبة 30 بالئمة أي 38 امرأة من أصل 128 مرشحاً، ما يعكس التزام النائبة ستريدا سمير جعجع وحزبها (القوات اللبنانية) بهذا الاتفاق.
ولكن لم يكن سهلاً على الأحزاب اللبنانية ورؤساء البلديات الحاليين ممن «أفرطوا التعلّق» بالسلطة القبول بترشح نساء، لا الى عضوية البلديات بل الى رئاستها، إذ شكل ذلك نوعاً من التحدي لهم. ونادراً ما رشحت الأحزاب أسماء نسائية لرئاسة البلدية وكأن مفهوم السلطة لا يزال ذكورياً بالكامل. وهنا يمكن استعراض مسيرة السيدة كورين الأشقر التي ترشّحت لرئاسة إحدى البلديات الكبرى خَلَفاً لوالدها الذي أمضى عمره في العمل البلدي فإذ بها تُواجَه بمعارضةٍ شديدة من الأحزاب المحلية التي غالباً ما تكون متناحرة فيما بينها، لكنها تتوحد بسحر ساحر ضد كل من تعتبره طارئاً ومن خارج العباءة الحزبية، كما تلتفّ بعض الفاعليات الطائفية حول رجالاتها لقطع الطريق على النساء، وهو ما يبدو جلياً في بلدات عدة لم تَظهر فيها أي ترشيحات بصيغة «تاء التأنيث».
وتتجلى المحاربةُ التي تواجهها الأشقر وغيرها من خلال تغييب الدعم المالي لهنّ والتعتيم على ترشحهنّ، مع نشْر الكثير من الشائعات حول صعوبة وصولهنّ الى مركز قيادي والترويج لاحتمالات الفوز الكبيرة للوائح المقابلة.
وتروي سهيلة عماد تجربتها في الترشح الى منصب عضو بلدي في بلدة كبيرة نسبياً قائلة: «أنا موظّفة بلدية سابقة، وأعرف خبايا المجلس البلدي من الداخل. لكنني لم أتجرّأ على الترشح مِن قَبل، لأنني كنت أشعر بأن المعركة خاسرة سلَفاً مع حيتان السلطة المحلية. لكن بمجرّد أن بدأتُ بدوراتِ مع جمعية فيفتي- فيفتي، شعرتُ بأن هناك مَن يؤمن بقدرتنا على التغيير. وقد ساعدوني في وضع خطة انتخابية، وسندوني معنوياً قبل أي شيء، ولم أعد أرى في السياسة حاجزاً، بل فرصة. وإذا لم أربح سأكون قد فتحت الطريق لغيري، ذلك أن مسار ترشح النساء للعمل في الشأن العام انطلق بقوة ولن يتراجع».
وكشفت رئيسة منظمة «فيفتي – فيفتي» جويل أبو فرحات في حديث سابق لها عن تحضير نحو 3000 امرأة لخوض الانتخابات البلدية المقبلة، من خلال برامج تدريبية تهدف إلى تعزيز مهاراتهن وتمكينهن من الترشح.
لا وجاهة بل عمل جدّي
تَرَشُّح النساء لا يشبه ترشّح الرجال على الإطلاق. ففي حين يرى قسم كبير من الرجال في العمل البلدي نوعاً من الوجاهة والسلطة وتمثيلاً متوارثاً لعائلاتهم، فإن النساء يترشّحن متسلّحاتٍ بكفاءتهنّ للعمل وعلى قاعدة وضْع طاقاتهن الفكرية والإدارية في خدمة بلداتهن وليس حباً بالوجاهة والظهور.
وفي نظرة الى السِيَر الذاتية لغالبية المرشحات يتبين أن مَن ترشحن يملكن خلفية علمية ومهنية عالية المستوى، سواء بالنسبة للبلدية أو المخترة ولو أن بعضهنّ يكملن مسيرةً عائلية في «الإرث البلدي». ففي طرابلس مثلاً لائحة نسائية تضمّ 13 سيدة باختصاصاتٍ تنطلق من الإجازة التعليمية وصولاً الى الدكتوراه في مجالات مختلفة من الزراعة الى العمارة والقانون والهندسة، مروراً بالفنون الجميلة الراقية.
أما في الحازمية فتضمّ إحدى اللوائح نسبة 47 في المئة من النساء. وتقول منال ابو ملهب المرشحة الحائزة على إجازة في الحقوق ودبلوم في الغناء الشرقي، إن بلدتها تستحقّ تنوعاً في الاختصاصات ولا سيما الثقافية منها لإعادة وضعها على الخريطة الثقافية والفنية في البلاد.
وفي بتدين اللقش (قضاء جزين – الجنوب)، تخوض كارلا العازار عيد الانتخابات البلدية بعد ما يشبه «الانتخابَ التمهيدي» الذي شجّعها وحضّها على الترشح، هي التي تملك خلفيةً إدارية، بالشهادة العلمية، وقانونيةً بفعل عملها في مكتبٍ مرموق للمحاماة في بيروت.
عيد، الزوجة والأم لولدين (ابن وابنة) لم تجد من عائلتها إلا كل دعم وتشجيع، وتقول لـ «الراي» إنها تَعتبر تَرَشُّحها مدخلاً لمساهمةٍ في إنماء بلدتها بعيداً من الصورة النمَطية عن العمل البلدي التقليدي كممرّ إلى سلطة ووجاهة «فالبلدية مدخلٌ للارتقاء بالبلدات ارتكازاً على حاجات سكانها وربطاً برؤيةٍ يُفترض أن تكون موجودة لتطويرها وتحديثها بناء على مشاريع وأحلام تُصنع بالعمل والتخطيط والتنفيذ، على كل المستويات في زمن الذكاء الاصطناعي الذي وفتوحاته اللا متناهية».
تجارب نسائية ناجحة
في فورة الترشيحات الحالية يمكن استعادة تجربتين ناجحتين جداً لسيدتين أثبتتا ان المرأة في الشأن العام البلدي والاختياري يمكن أن تتفوّق وتحقق أكبر الإنجازات ليس «مع أنها امرأة» بل… «لأنها امرأة».
رمزة عساف إعلامية معروفة، برعتْ في عملها الصحافي والتلفزيوني، وكانت من بين قلة نادرة من النساء اللواتي انتُخبن كرئيسات للبلدية.
منذ العام 2016 ترأست رمزة عساف رئاسة بلدية حردين وبيت كساب البترونية بعدما ألحّ عليها أهل بلدتها بالترشح في حين لم تكن قد فكرت بالأمر رغم تاريخٍ عائلي من العمل في الشأن العام.
وتقول الزميلة عساف لـ «في 2016 أحببتُ كون أهل ضيعتي فكّروا في اختيار امرأة لتكون رئيسةَ لبلديتهم وتحمّستُ للفكرة بدعْمٍ منهم. لكنني ترشحتُ في اليوم الأخير نظراً لارتباطاتي المهنية الكثيرة في الإعلام. وربما كان عملي الإعلامي الدافع الأكبر لاختيارهم لي، فالإعلامي على تماسٍ دائمٍ مع نبض المجتمع من حوله واهتماماته. ومن جهتي، كان لدي هذا الإحساس المجتمعيّ الذي أسقطتُه على العمل البلدي، وكان هدفي دائماً أن أكون على قدر ثقة الناس وأن أردّ لهم ثقتهم بي عبر العمل الجدي الرؤيوي».
ترأستْ رمزة المجلس البلدي المكوّن من 11 رجلاً وكانت الرئيسة الوحيدة في اتحاد بلديات قضاء البترون الشمالي. ومن الأمور الرمزية التي تشي بالكثير ان اسمها غالباً ما كان يُحوَّر ليصبح إسماً رجالياً هو رمزي عساف بعدما كان يصعب على بعض الدوائر تصديق وجود امرأة على رأس بلدية. كما واجهت غياب تاء التأنيث عن المراسلات الرسمية.
وترافقتْ فترةَ ترؤس عساف للمجلس البلدي مع الانهيار المالي التام الذي شهده لبنان فكانت فترة صعبة جداً لامستْ المعاناة اليومية، لكن «الريّسة» تفاخر بأن بلديتَها التي عملت «باللحم الحي» في هذه الفترة العصيبة خرجت بلا ديون وبأنها استطاعت «تحويل البلدية الى مؤسسة شفافة مالياً وإدارياً رغم كل المحارَبات والمطبات» وبإنجازاتٍ على طريق «الشمس طالعة» تُرجمت مشاريع طرق وإنارة وتوسعة وإنارة ونقل ونفايات «والأهمّ مأسسة البلدية بمعنى أننا جعلناها مؤسسة ومن إدارتها نموذجاً في احترام الاصول والقوانين وعنواناً للشفافية الإدارية والمالية».
واليوم عاودت رمزة عساف الترشح بطلب من أهل بلدتها لمنحها فرصة ثانية لتحقيق ما عرقلت الظروف السابقة إمكان تحقيقه من مشاريع إنمائية ولا سيما أن الأمل بتحسن الأوضاع في لبنان يتنامى يوماً بعد يوم. وهي ترى «أن الترشيحات النسائية المتزايدة توحي بوجود نقلة نوعية في عقلية الناس ولا سيما أن المرأة تضاهي الرجل في الإدارة وتتفوّق عليه في القدرة على التواصل مع الآخَرين وإدارة الخلافات والأزمات بعقليةٍ قياديةٍ وغير صِدامية مستمَدّة في جانب منها من دورها كربّة أسرة. كما تتمتع المرأة بميزة هامة جداً وهي عدم تعطُّشها الى السلطة على عكس كثيرين من الرجال. وحين يقوم مجتمعٌ ما باختيار امرأةٍ على رأسه فهذا يعني أنه يرى فيها كل الميزات والصفات الى تؤهّلها للعب هذا الدور، وليس اختياراً عشوائياً مبنياً على عوامل مالية او حزبية، أو وراثية فحسب».
جوزيان فارس خليل هي مختارة زوق مكايل، وتُعتبر من أبرز النساء في هذا المنصب على مستوى لبنان. انتُخبت لأول مرة عام 2010، وكانت من القليلات اللواتي كسرن الصورة النمطية للمختار، حين كانت النساء يشكلن نسبة ضئيلة جداً في هذا المجال.
جوزيان المختارة، شابة أنيقة ومصممة أزياء محترفة، عملت مع المصمم العالمي إيلي صعب، ولديها محترفها الخاص بها. مكتبها يعجّ دلئماً بالمواطنين. وخلال زيارتنا لها لمسْنا لمسَ اليد حبّهم وتقديرهم لها ولعملها. فهي تفهم بقانون المخترة وتفاصيله أكثر من كثيرين من المخاتير الرجال، ولا تؤجّل ورقةً أو تساوم على تحقيق طلبٍ مستوف لكل الشروط القانونية. كما أنها تَعتمد المكننة في عملها على خلاف الجيل القديم من المخاتير.
أسست جوزيان وترأست رابطة مخاتير كسروان التي تضم 99 مختاراً ومختارة واحدة، وهو ما عَكَسَ تصميمَها على تأدية دورٍ ريادي في وقتٍ كانت المرأة غائبةً أو مُغَيَّبة عن هذا المجال.
وروت جوزيان ل قبل الصمت الانتخابي مسيرتَها قائلة: «من أبرز تحدياتي كان الحصول على ختْمٍ رسمي يَحمل كلمة مختارة بدل كلمة مختار المتعارَف عليها في الدوائر الرسمية حيث لا تأنيث للوظائف. ورفضتُ الحصول على الختم، وبعد معركة استمرت شهراً ونصف شهر وبدعمٍ من وزير الداخلية آنذاك زياد بارود، كنتُ أول مختارة تحصل على خَتْمٍ مع تاء التأنيث واعتبرتُ ذلك انتصاراً لي ولكل النساء».
وفي 2025 عاودت جوزيان الترشح للمخترة مزودة بتجربة طويلة ناجحة بإقرار الجميع.
وتبقى الأنظار شاخصةً نحو صناديق الاقتراع في انتظار ما ستكشفه نتائج الانتخابات البلدية. ووحدها الأرقام ستبيّن إذا كانت المرأة ستنجح أكثر في كسر الحواجز وتثبيت حضورها في مواقع القرار المحلي.
تابعوا آخر الأخبار من icon news على WhatsApp
تابعوا آخر الأخبار من icon news على Telegram
(يلفت موقع “iconnews ” انه غير مسؤول عن النص ومضمونه، وهو لا يعبّر إلا عن وجهة نظر كاتبه أو مصدره)
:شارك المقال على وسائل التواصل الإجتماعي