عندما استقرت 28 عائلة في حي الشيخ جراح عام 1956، كانت تأمل أن يكون هذا هو اللجوء الأخير، بعد أن تم تهجيرها من منازلها إثر نكبة عام 1948.
ولكن العائلات التي ازداد عددها إلى 38 منذ ذلك الحين، تقول إنها تعيش نكبة متجددة يوميا. وعادت قضية الشيخ جراح إلى الواجهة إثر قرار محكمة قضاء القدس الإسرائيلية بمنح مهلة لغاية شهر أغسطس/آب لعدد من العائلات الفلسطينية لإخلاء منازلهم ،بحجة أن ملكية الأراضي المقامة عليها تعود للجنة اليهود السفرديم الاستيطانية.
أثار هذا القرار هبة فلسطينية وسلسلة مظاهرات ما تزال مستمرة، وردود فعل من عدة جهات أدانت القرار وتنفيذه من قبل جهاز الشرطة الإسرائيلي. وأعلن الناطق باسم الحكومة الفلسطينية إبراهيم ملحم أن حكومته قامت بإحالة قضية الشيخ جراح إلى المحكمة الجنائية الدولية، التي أعلنت مطلع هذا العام عن فتحها لتحقيق في الجرائم الجارية على الأراضي الفلسطينية والتي تقع ضمن اختصاص المحكمة.
جريمة الشيخ جراح
في عام 1956 قامت المملكة الأردنية بنقل عدد من العائلات المهجّرة بعد نكبة عام 1948 إلى حي الشيخ جراح شرقي القدس إثر اتفاقية وقعتها مع وكالة الأونروا، يجري بمقتضاها إسقاط صفة اللجوء عن هذه العوائل مقابل أن يتملّكوا المنازل الجديدة التي انتقلوا إليها بعد انقضاء ثلاث سنوات على إقامتهم فيها.
وبعد سقوط الضفة الغربية بيد الاحتلال الإسرائيلي عام 1967، صرح وزير العدل الإسرائيلي بما معناه أن الاتفاقية بين الأردن والأونروا سيتم احترامها من قبل حكومة الاحتلال الإسرائيلية.
ماذا قالت الحكومة الأردنية؟
أعلنت وزارة الخارجية الأردنية الخميس الماضي (29 أبريل الجاري)، عن مصادقتها على 14 اتفاقية، وتسليمها إلى أهالي حي الشيخ جراح في القدس ، عبر وزارة الخارجية الفلسطينية، وهي وثائق جديدة تضاف إلى مجموعة من وثائق سابقة كانت قد سلمتها أيضا للجانب الفلسطيني، تدعم تثبيت حقوق أهالي الحي بأراضيهم وممتلكاتهم.
وقالت الوزارة في بيان، إنها سلمت الأهالي شهادة تُبين أن وزارة الإنشاء والتعمير الأردنية، عقدت اتفاقية مع وكالة الأمم المتحدة لغوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (الأونروا) لإنشاء 28 وحدة سكنية في حي الشيخ جراح، وعقدت اتفاقيات فردية مع الأهالي لإقامة مساكن لهم في الحي، وأنها تعهدت بموجب الاتفاقيات أن يتم تفويض وتسجيل ملكية الوحدات السكنية بأسمائهم، ولكن نتيجة لحرب 67 فإن عملية التفويض وتسجيل الملكية لم تتم.
وأشارت وزارة الخارجية الأردنية إلى أنها زودت في وقت سابق، الجانب الفلسطيني بكافة الوثائق المتوفرة لديها والتي يمكن أن تساعد المقدسيين على الحفاظ على حقوقهم كاملة، من عقود إيجار وكشوفات بأسماء المستفيدين ومراسلات، إضافة إلى نسخة من الاتفاقية عقدت مع الأونروا عام 1954.
بدء المعاناة في العام 1972
ويشير محمد الصباغ، أحد سكان الحي، أن معاناة السكان بدأت في العام 1972، حينما زعمت لجنة طائفة السفارديم، ولجنة كنيست إسرائيل (لجنة اليهود الأشكناز) أنهما كانتا تمتلكان الأرض التي أقيمت عليها المنازل في العام 1885.
وفي شهر يوليو من العام 1972 طلبت الجمعيتان الإسرائيليتان من المحكمة إخلاء 4 عائلات من منازلها في الحي بداعي “الاعتداء على أملاك الغير دون وجه حق”، بحسب الائتلاف الأهلي لحقوق الفلسطينيين في القدس.
وأضاف: “قامت العائلات بتوكيل محامي للترافع عنها، وفي عام 1976 صدر حكم من المحاكم للاحتلال لصالح العائلات الأربع التي رُفعت الدعوى ضدها، ينص على أن العائلات الأربع موجودة بشكل قانوني وحسب صلاحيات الحكومة الأردنية، وأنها غير معتدية على الأرض”.
لكنّ المحكمة قررت-بحسب الصباغ- أن الأرض تعود ملكيتها إلى الجمعيات للاحتلال، حسب التسجيل الجديد، الذي تم بدائرة الطابو (تسجيل الأراضي) للاحتلال دون النظر ببينة التسجيل الذي تم عام 1972.
وقد قامت مجموعة من اليهود السفرديم، تحت مظلة لجنة اليهود السفرديم ولجنة يسرائيل في الكنيست، عام 1972 بالتوجه إلى المحكمة العليا الإسرائيلية والادعاء، عبر وثائق عثمانية مزعومة، بأنهم قاموا بشراء أراضي الشيخ جراح من أهلها أيام الحكم العثماني.
وفي عام 1982 طلبوا من سكان الشيخ جراح دفع أجور مقابل بقائهم في منازلهم، وحكمت المحكمة العليا لهم آنذاك. واستمرت المناوشات بين سكان الحي ولجنة اليهود السفرديم الاستيطانية إلى حين إصدار محكمة قضاء القدس الإسرائيلية قراراً في مصلحة لجنة اليهود السفرديم يقضي بأحقيتهم بالأرض، على أن يبقى السكان الفلسطينيون في منازلهم ما داموا التزموا بدفع الأجور، وبطبيعة الحال رفضت تلك العوائل ذلك ممَّا أدى إلى ترحيلها وإخراجهم من منازلهم.
وفي عام 2009 بعد ذهابهم إلى أنقرة، تمكن محامو العوائل الفلسطينية من الحصول على وثائق عثمانية تنفي مزاعم لجنة اليهود السفرديم وصحة وثائقهم، وتثبت ملكية الأراضي للفلسطينيين، وتؤكد أن اليهود السفرديم قاموا بمجرد استئجار تلك البيوت لا شرائها، إلا أن المحكمة رفضت قبول الوثائق بحجة “أنها وصلت متأخرة”.
وعادت القضية إلى الواجهة مؤخراً إثر قرار محكمة قضاء القدس يوم الأحد الماضي 2 مايو/أيار 2021 بإعطاء عدد من العوائل الفلسطينية مهلة لغاية شهر أغسطس/آب من نفس هذا العام لإخلاء منازلهم.
وتكمن خطورة هذا القرار في عدة أبعاد قانونية وجيوسياسية. فعلى الصعيد الجغرافي، يقع حي الشيخ جراح بالقرب من البلدة القديمة في القدس (وكلاهما يقع في منطقة J1 حسب التقسيم الإسرائيلي للمدينة)، ممَّا يهدد بتغير محيط البلدة القديمة ديمغرافياً، وتقطيع أوصال القرى والحارات الفلسطينية بزرع بؤر استيطانية إسرائيلية بينها.
أما على الصعيد القانوني، فينبغي الإشارة إلى أن دولة الاحتلال الإسرائيلي قامت عام 1982 بضم القدس الشرقية بقرار من الكنيست إلى السيادة الإسرائيلية، ممَّا يعني خضوعها للسلطة القضائية الإسرائيلية، وهذا انتهاك صارخ لاتفاقية جنيف الرابعة التي تمنع القوة القائمة بالاحتلال من ضم أي أراضٍ تابعة للإقليم الذي تحتله، أو من نقل سكانها إلى الأراضي التي تحتلها.
وهذا القرار يأتي في إطار مأسسة هذه الانتهاكات قانونياً، وإنشاء سوابق قضائية سيكون لها ما بعدها ضد الفلسطينيين عموماً وسكان القدس تحديداً.
سبق أن قام كاتب هذه السطور بالإشارة إلى دور المحكمة العليا الإسرائيلية في جريمة الفصل العنصري، وتأطير نظام الأبارثايد الإسرائيلي قانونياً، ولكن بصور ملتوية توهم بأن إسرائيل دولة قانون ومؤسسات نظرياً، إلا أن هذا الدور لا يخفى على المطلع في كونه جزءاً عضوياً من منظومة الأبارثايد.
وفي سياق قضية الشيخ جراح، لنفترض على سبيل الرياضة العقلية أن للمحكمة العليا الإسرائيلية الحق في البت في هذه المسألة، وأن الأوراق التي قدمتها لجنة اليهود السفرديم صحيحة، فلماذا لم تقبل إعادة النظر في القضية بعد وصول وثائق عثمانية تعتبر “أدلة جوهرية” مناقضة للوثائق التي اعتمدت عليها المحكمة في قرارها؟
وهل المحكمة مستعدة لقبول وثائق عثمانية أو بريطانية تثبت ملكية أراضٍ محتلة عام 1948 للفلسطينيين (وهي كثيرة ومتوفرة)؟ وهل ستقضي لأصحاب الوثائق بالعودة والتعويض؟ من المؤسف أن الجواب معروف سلفاً، وهو “لا” لجميع ما ذُكر. فالقضاء الإسرائيلي جزء عضوي من منظومة الفصل العنصري الإسرائيلي.
بدء عمليات الإخلاءات
وعلى مدى سنوات، نظرت المحاكم للاحتلال بقضايا مقدمة من الجمعيات الاستيطانية ضد السكان الفلسطينيين، واستئنافات للسكان ضد قرارات صدرت لصالح المستوطنين.
ولكن، في نوفمبر 2008 تم إخلاء عائلة الكرد من منزلها، وتكرر المشهد في أغسطس 2009 حينما تم طرد عائلتي حنون والغاوي من منزليهما.
وانتقل مستوطنون للعيش في هذه المنازل، بعد طرد أصحابها منها، وتم رفع أعلام الاحتلال عليها إيذانا بمرحلة جديدة لمعاناة السكان بالحي.
وحتى اللحظة تلقت 12 عائلة فلسطينية بالحي قرارات بالإخلاء، صدرت عن محكمتي الصلح و”المركزية” الإسرائيليتين.
وكان آخر تحركات السكان، التماس 4 عائلات منها إلى المحكمة العليا، أعلى هيئة قضائية لدى الاحتلال، ضد قرارات طردها من منازلها.
ويخشى السكان من أن أي قرار عن المحكمة العليا للاحتلال بالإخلاء، ينذر بإخلاء باقي العائلات.
ويخشى الصباغ، المكونة عائلته من 5 أسر، عدد أفرادها 32 شخصا بينهم 10 أطفال، أن يصبح لاجئا مرة أخرى بعد أن لجأت عائلته من يافا عام 1948، تاركة خلفها منازل يعيش فيها إسرائيليون الآن.
تعاني مدينة القدس اليوم من خطر الاستيطان الإسرائيليّ بهدف جعلها عاصمةً للكيان المحتل، تقطنها غالبيةٌ ساحقة من اليهود مع أقليّة فلسطينيّة معزولة في كانتونات مشتتة بحيث تسهل السيطرة عليها.
وفي سبيل تحقيق هذا الهدف فإنّ الاحتلال يعمل باتجاهين متوازيين:
أولًا: توسيع المستوطنات القائمة و بناء مستوطنات و بؤر استيطانيّة جديدة في كلّ أنحاء المدينة المقدسة، و تحديدًا في الجزء الشرقيّ منها، إذ أصبح اليوم في مدينة القدس المحتلّة أكثر من 29 مستوطنة و بؤرة استيطانيّة تحتلّ مساحة 112 ألف دونم تقريبًا، و يسكنها ما يقرب من 280 ألف مستوطن.
ثانياً: تقليل عدد السكان الفلسطينيين، و يقوم الاحتلال بذلك من خلال عدّة وسائل أبرزها جدار الفصل العنصري و الذي يُسمّيه الاحتلال بغلاف القدس، و يتّخذ هذا الجدار مساراً يُمكّن الاحتلال من الحصول على أكبر مساحة أرض ممكنة، و أقل عدد ممكن من السكّان الفلسطينيّين، و ذلك من خلال الالتفاف على القرى و البلدات الفلسطينيّة و عزلها و منعها من الاتصال بمدينة القدس.
الاستيلاء على الأحياء الفلسطينيّة الكبيرة التي توجد في مناطق حيويّة و هامّة في المدينة المقدسة لم يتمكّن الاحتلال من التخلّص منها عبر الجدار الفاصل كونها تقع في قلب المدينة. لذا فإنّ الاحتلال يلجأ لزرع بؤرٍ استيطانيّة في هذه الأحياء عبر مصادرة أراضيها و إقامة تجمّعات استيطانيّة عليها أو عبر هدم منازلها و تهجير سكّانها ،أو حتّى عبر السماح للمستوطنين باحتلال المنازل الفلسطينيّة فيها و هو ما يحدث في حيي وادي الجوز و الشيخ جرّاح.
جريمة الأبارثايد
إن ما يجري في الشيخ جراح وفي فلسطين المحتلة عموماً يرقى إلى جريمة الأبارثايد، التي مورست سابقاً من قبل نظام الفصل العنصري في جنوب إفريقيا ضد السكان السود الأصليين. بل لعل ما يجري في فلسطين أخطر، ففي جنوب إفريقيا كان الهدف إخضاع الأقلية الإفريقية السوداء وجعلها في خدمة الأقلية البيضاء المهاجرة، بينما ما يجري في فلسطين هو تهجير قسري مباشر وغير مباشر للسكان الأصليين، وإخضاع لمن عجزت إسرائيل عن تهجيره، فإسرائيل دولة احتلال في آخر المطاف.
ولم يعد وصف إسرائيل بدولة الأبرثايد مجرد “ادعاء فلسطيني”، ويوماً بعد يوم نشهد اعترافاً دولياً متزايداً بذلك.
ففي عام 2001 في المؤتمر الدولي ضد العنصرية (المعروف اختصاراً بدربن 1) قرن الحاضرون الصهيونية بالعنصرية (وقد سبقت الجمعية العامة للأمم المتحدة في ذلك سابقاً، إلا أنه تم سحب القرار إثر اشتراط الطرف الإسرائيلي ذلك في محادثات مدريد السابقة لتفاهمات أوسلو).
وفي عام 2007 أكد المقرر الخاص للأمم المتحدة لفلسطين جون دوغارد أن هناك ما يشير إلى أن الاحتلال الإسرائيلي مارس الاستعمار والأبارثايد ضد السكان الأصليين الفلسطينيين.
وبعدها صدر تقرير مفصل عن أكبر المعاهد في جنوب إفريقيا بشرح طبيعة النظام الاستعماري الإسرائيلي وكيفية ممارسته للأبارثايد. وعام 2017 صدر تقرير من لجنة الإسكوا التابعة للأمم المتحدة يؤكد قيام إسرائيل بتأسيس نظام فصل عنصري ضد الفلسطينيين، إلا أنه سُحب بعد ضغوط أمريكية وإسرائيلية على الأمين العام للأمم المتحدة. ومؤخراً صدر تقريران عن مؤسستي “يش دين” و”بيت سيلم” الحقوقيتين الإسرائيليتين يؤكدان ذلك. وفي أبريل/نيسان من هذا العام قامت منظمة هيومان رايتس ووتش بإصدار تقرير يؤكد نفس الخلاصة.
دور المحكمة الجنائية والمحاكم الوطنية
إن ما يجري في الشيخ جراح يمثل عدة جرائم تخضع لسلطة المحكمة الجنائية الدولية، وبناء على هذا قامت الحكومة الفلسطينية بإرسال رسالة إلى المدعي العام للمحكمة لطلب تضمين قضية الشيخ جراح في التحقيق الذي أعلنت عنه المحكمة.
ويعتبر الاستيطان (وهو أحد أبعاد القضية) أمراً مرفوضاً في الدول الأوروبية التي تعترف بسلطة القانون الدولي، ممَّا يتيح فكرة مقاضاة الشركات التي تعمل في المستوطنات (ومنها ما سيقام على أراضي الشيخ جراح) في المحاكم الوطنية الأوروبية.
لقد اعتادت الأذن الفلسطينية على سماع سلسلة لا تنتهي من الجرائم الإسرائيلية، إلا أن هذه الجريمة لا ينبغي أن تمر كما مرت سوابق كثيرة، ويمتلك الفلسطينيون رغم عزلتهم السياسية أوراقاً تمكنهم من إبقاء القضية حية على أقل تقدير.
تابعوا آخر الأخبار من icon news على WhatsApp تابعوا آخر الأخبار من icon news على Telegramنسخ الرابط :