إن فشل التقديرات الاستخبارية هو بمنزلة فشل لاستراتيجية الردع الإسرائيلي في جوهرها، والتي فشلت في الفهم والتقدير لسلوك خصومها وعقليتهم، من جهة، وقبول الوضع القائم من جهة أخرى.
يأتي هذا الكتاب في سياق عملية طوفان الأقصى التي حدثت في السابع من تشرين الأول/أكتوبر 2023، وصدمت المستويين الأمني والاستخباري، وأيضاً المستويين السياسي والشعبي في "إسرائيل"، وأدّت إلى أزمة حقيقية لامست قلب العقيدة العسكرية الإسرائيلية، إلى حدّ وصفها بأنها زلزال استراتيجي زعزع صورة الجيش الإسرائيلي وواقعه، لأنه كان الإخفاق العسكري الأول على المستويات القيادية والاستخبارية والشعبية والعملانية.
يتناول الكتاب عبر عرض مجموعة متنوعة من وجهات النظر والتحليلات من داخل المجتمع الإسرائيلي، التي كتبها محللون وباحثون إسرائيليون بارزون، في محاولة لفهم الإخفاق العسكري الإسرائيلي الفاضح في الـ7 من تشرين الأول/أكتوبر 2023، لكن من وجهة نظر إسرائيلية فقط، كتابَ "الإخفاق الاستخباراتي والعسكري والسياسي الإسرائيلي في 7 أكتوبر" (إعداد رندة حيدر، صادر عن مؤسسة الدراسات الفلسطينية، عام 2024، بيروت لبنان).
يقدّم هذا الكتاب الرواية الإسرائيلية للإخفاق، استخبارياً وعسكرياً، والذي يتحمله، في الدرجة الأولى، رئيس شعبة الاستخبارات العسكرية ورئيس جهاز الشاباك ورئيس هيئة أركان الجيش الإسرائيلي، بالإضافة إلى الإخفاق السياسي، الذي يتحمل مسؤوليته، أولاً، رئيس الحكومة نتنياهو، وسائر الوزراء، الذين تولوا وزارة الدفاع، طوال الأعوام السابقة، فضلاً عن الإخفاق التكنولوجي.
يناقش الكتاب، تحديداً، أسباب الإخفاق، ويتمحور حول ثلاثة محاور أساسية، برزت في المقالات الإسرائيلية التي علقت على الحدث، وهي: الإخفاق الاستخباري؛ الإخفاق السياسي؛ الإخفاق التكنولوجي.
الإخفاق الاستخباري:
لعل القسط الأكبر، الذي تناولته المقالات، يركز على الإخفاق الاستخباري، إذ تعرض الأخطاء والثغر الرئيسة في المنظومة الاستخبارية الإسرائيلية قبل هجوم الـ7 من تشرين الأول/أكتوبر 2023. وبناءً على المقالات هذه، يمكن تلخيص النقاط الرئيسة والمشتركة للإخفاق الاستخباري في ثلاثة جوانب أساسية، كما يلي:
فشل التقديرات الاستخبارية وأهمها: التقليل من أهمية التهديدات العينية، والتقديرات الاستخبارية السائدة أعواماً، ومفادها أن "حماس" مرتدعة.
إن فشل التقديرات الاستخبارية هو بمنزلة فشل لاستراتيجية الردع الإسرائيلي في جوهرها، والتي فشلت في الفهم والتقدير لسلوك خصومها وعقليتهم، من جهة، وقبول الوضع القائم من جهة أخرى. وأيضاً، أخفقت التقديرات والردع الإسرائيلي في خلق تصوّر لدى العدو، مفاده أنه إذا قام بعملية ضد "إسرائيل"، فإن الضرر، الذي سيتسبب به، أكبر من الربح الذي يمكن أن يحققه.
لم تتطرق المقالات إلى القدرة والأداء العسكريَّين اللذين أدّيا دوراً أساسياً وحاسماً في عملية الـ7 من تشرين الأول/أكتوبر، وانعكسا على الخداع الاستراتيجي الذي انتهجته حركة "حماس"، فشجع القيادتين العسكرية والسياسية في "إسرائيل" على الاعتماد على تقديرات استخبارية بشأن عدم تمكّن "حماس" من تحقيق أيّ إنجازات في جولات التصعيد السابقة.
أمّا المفاجأة التكتيكية الكبرى، فكانت استخدام الأنفاق بالقرب من السياج الحدودي، والذي منع إمكان تزامن اكتشاف حركة القوة المهاجمة والإنذار. وبالقدر نفسه من الأهمية، عطّلت "حماس" أنظمة الكشف وإطلاق النار الآلي والاتصالات التي كانت عند الحدود نفسها، بمساعدة طائرات من دون طيار، ألقت عبوات ناسفة، فضلاً عن المفاجأة في مستوى وحدات النخبة المدربة بصورة غير مسبوقة، والتي اخترقت السياج الحديدي، وعناصر الدفاع المتعددة.
وفيما يتعلق بالمفاجأة الاستراتيجية، نجحت "حماس" في إبقاء تحرّكها سريّاً، وغير لافت للانتباه، حتى اللحظة الأخيرة، سواء من خلال منع تسرّب المعلومات، أو إخفاء الاستعدادات الظاهرة على الأرض، في صورة مناورات، أو استعدادات لتجديد "مسيرات العودة"، الأمر الذي منع أنظمة المراقبة والإشارة، والتي وضعها الجيش الإسرائيلي عند حدود غزة، من التنبيه لتحركات مشبوهة في عمق أراضي القطاع.
فشل أجهزة الإنذار المبكر والاستخبارات البشرية (Human Intelligence)
يرتبط إخفاق "نظام الإنذار المبكر" في تقديم تحذيرات مسبقة بعدد من العوامل المتشعبة، منها ضُعف "الاستخبارات البشرية"، والاعتماد المفرط على التكنولوجيا، ونقص التنسيق بين الوحدات المختلفة، وتقديرات الاستخبارات المتضاربة.
الإخفاق السياسي
أما بشأن الإخفاق السياسي تجاه القيادة السياسية (والأمنية) الإسرائيلية. فتعكس نزعة إلى تحميل القيادة السياسية المسؤولية الرئيسة عن الإخفاق بصورة عامة، والتركيز على المسؤولية الشخصية لرئيس الحكومة نتنياهو بصورة خاصة، بتجاهله تحذيرات استخبارية خطرة قيل الهجوم.
ما لا شك فيه أن القيادة السياسية، بقيادة نتنياهو، تتحمل الإخفاق السياسي وتأثيراته في السياسات الأمنية، إلاّ إن هذه المقالات، التي تضمّنها الكتاب، لم تتطرق إلى دور قوى داخلية أخرى تؤثر في الوضع الأمني بصورة عامة.
الإخفاق التكنولوجي:
بناءً على المعلومات الواردة في المقالات المرفقة، يمكن تلخيص النقاط الرئيسة للإخفاق التكنولوجي، فيما يلي:
فشل منظومة "العائق" الحدودي، على الرغم من استثمار مليارات الدولارات، والتي لم تنجح في منع اختراق "حماس" الحدود؛ ضُعف وسائل المراقبة والإنذار، إذ جرى تعطيل الكاميرات والهوائيات ومنظومات إطلاق النار عن بُعد، بواسطة المسيّرات، وسقوط المناطيد الاستخبارية الثلاثة قبل الهجوم من دون استبدالها.
وفق المقالات، التي عُرّبت من العبرية، تشير الباحثة رنده حيدر إلى أن "الاستخبارات البشرية" (Human Intelligence)
HUMINT، القائمة على التجسس، لم تقدر على اختراق الذراع العسكرية لحركة "حماس"، والوجود في الأماكن التي تعطي صورة لما يحدث. وأيضاً فشلت نتيجة اعتمادها المبالغ فيه على الـــــ SIGINT (استخبارات الإشارات)، والتي تشمل الإنترنت والهواتف والشبكات، تحت إدارة "الوحدة 8200"، وتجاهلت قدرات "حماس" على المحافظة على السرية الرهيبة. كان هناك إيمان مفرط بإمكانات الذكاء الاصطناعي. والاستخفاف بحركة "حماس" كان في صميم الفشل، إذ عجزت الوحدة 8200 عن توقّع هجوم الـ7 من تشرين الأول/أكتوبر. لم يفهم النظام المتطور نظرياً الرسائل بسبب عدم دقة الخوارزميات في معرفة اللغة العربية. لم تتوقع الجهات المراقبة قدرة "حماس" على التخطيط والتجهيز وتنظيم عملية عسكرية واسعة النطاق، من دون استخدام الإشارات الإلكترونية على مدار عامين (Electronic signals).
اعترافات رؤساء الاجهزة بالإخفاق
لقد تفاخر رئيسا جهاز الشاباك والاستخبارات العسكرية، وهماً، في أن "حماس" مرتدعة، ولم يرصدا، على مدار عامين، استعدادات الحركة للحرب، بينما رصدت المجندات العاملات في نقاط المراقبة الإسرائيلية إشارات واضحة عند السياج الحدودي في قطاع غزة، فتجاهل الضباط المسؤولون عنهن هذه الإشارات. لكن رئيس الاستخبارات العسكرية، الجنرال أهارون حليفا، اعترف لاحقاً بالإخفاق الاستخباري للجهاز الذي يقوده.
واعترف أيضاً رئيس الشاباك رونين بار بمسؤوليته عن الإخفاق الاستخباري، علماً بأن الإخفاق الاستخباري الإسرائيلي يقع في مجالين رئيسين واقعين في حيز المنظومة الاستخبارية: جمع المعلومات وتقويمها. لذا، تتطلب الحالة الخطيرة، والسائدة في المنظومة الاستخبارية الإسرائيلية، إجراء مراجعات جدية في هذين المجالين، وليس فقط معاقبة المسؤولين عن الإخفاق، بل أيضاً إجراء مراجعة عميقة وشاملة من أجل تحصين المنظومات العاملة، إذ تجاهلت المؤسسات الاستخبارية الإسرائيلية الإشارات إلى تحضيرات هجومية، ولم تتخذ أيّ إجراء إزاء ذلك.
حماس والخديعة الذكية
اشارة الباحثة حيدر إلى نجاح الذراع العسكرية لحركة "حماس" في منع إسرائيل من الحصول على معلومات استخبارية ذات جودة عالية بشأن نشاطها، وحملة الخديعة الذكية التي مارستها، والتي تمكنت بفضلها من مباغته "إسرائيل"، هما بمنزلة نجاح استراتيجي أتاح لها مهاجمة "إسرائيل" بصورة مفاجئة. لذا، هي عدو خطير ومتطور، نجح في التفوق على الاستخبارات الإسرائيلية التي تُعَدّ الاستخبارات الأفضل في الشرق الأوسط. وامعاناً في التضليل، بادر الموساد، بالتعاون مع الشاباك أيضاً، إلى اتخاذ خطوات دبلوماسية وعملانية خاصة ضد قيادة "حماس" في تركيا ولبنان. والتدخل الأهم للموساد، فيما يتعلق بغزة، كان من خلال تدفّق الأموال من قطر. فلم يكن الموساد فقط الطرف الذي ينسق تحويل الأموال خلال رئاسة إيلي كوهين، بل شارك أيضاً في بلورة نظرية، مفادها أن "حماس" مرتدعة. وفي مقارنة بما جرى في أميركا؟ هناك تفسير جزئي آخر لعدم وجود تحذير، يتلخص فيما أطلق عليه أعضاء لجنة التحقيق في أحداث 11 أيلول/ سبتمبر في الولايات المتحدة اسم "انعدام الخيال" (Lack of imagination). ففي عام 2001، تمثل الإخفاق بأن أحداً لم يفكر في محاولة تنفيذ هجوم هائل بواسطة أربع طائرات ركاب؛ في عام 2023، تمثل انعدام الخيال هذا بأن أحداً لم يتصور احتمال شنّ "حماس" هجوماً فتاكاً بهذا الحجم على جميع بلدات "غلاف غزة". لكن القدرة التفسيرية لمصطلح "انعدام الخيال" في الحالة الإسرائيلية محدودة نسبياً، بسبب المعلومات الكثيرة التي كان يجب أن تصل إلى الجهات الاستخبارية بشأن تحضيرات "حماس" لهجوم كبير، ولأنه كان يكفي الاكتفاء بتهديدات باجتياح بلدة، أو إثنتين، من أجل رفع مستوى الجاهزية أعلى كثيراً مما كانت عليه الحال في فجر الـ7 من تشرين الأول/أكتوبر.
الاستهتار الأميركي - الإسرائيلي
توقفت وكالات التجسس الأميركية، على مدار الأعوام الماضية، عن جمع معلومات استخبارية عن "حماس" ومخططاتها، معتقدةً أن التنظيم يشكّل تهديداً إقليمياً محدوداً يمكن لـ"إسرائيل" التعامل معه. وتشير المعطيات التاريخية إلى أن الحركة نجحت لأن المسؤولين الإسرائيليين ارتكبوا كثيراً من الأخطاء نفسها التي ارتُكبت في حرب "يوم الغفران" (1973). وليتمكنوا من التحايل على تكنولوجيا المراقبة الإسرائيلية الهائلة، التزم مقاتلو "حماس" انضباطاً صارماً في مسألة تبادُل المعلومات داخل صفوف المجموعة.
وأيضاً تراجع الاهتمام الإسرائيلي بقطاع غزة، وتم التركيز على تهديدات أخرى، وبصورة خاصة التهديدات من الجبهة الشمالية (حزب الله) والضفة الغربية، وهو ما يؤكد عدم وجود تقدير استخباري موحّد ودقيق لقدرات "حماس" قبل الهجوم.
كذلك أخفقت الأجهزة الاستخبارية الإسرائيلية (الموساد والشاباك والاستخبارات العسكرية) في التنبؤ بالهجوم وتوقّعه، وتحذير القيادة من هجوم "حماس"، ولم تُرصد التحضيرات التي أجرتها "حماس" على مدى أشهر، أو أعوام. وتُبرز الانطباعات لدى الكتاب ضعف التنسيق والتواصل بين الأجهزة الاستخبارية وعدم وجود نموذج تحذير منظّم، أي غياب إنذار فعّال، مثلما ظهر في عمليات سابقة، إضافة إلى تجاهُل الإشارات والتحذيرات من نشاطات غير عادية عند الحدود، وفشل الأجهزة الاستخبارية في التحليل والتفسير للإشارات الاستخبارية بطريقة صحيحة، إذ فُسّرت بأنها جزء من مناورة عسكرية، وليست تحضيرات لهجوم حقيقي. كذلك يظهر أن استخبارات "أمان" والشاباك لم تعلم بتوقيت الهجوم، ولم تؤمن بأن لدى "حماس" قدرات على تنفيذ عملية استراتيجية واسعة النطاق. وكان التقدير أن الحركة مرتدعة، وهي تركز على تحسين وضعها الاقتصادي في القطاع.
واخيراً، نلاحظ انه فضلاً عن ذلك، ساد اعتقاد لدى الاجهزة، مفاده أن السياج الحدودي (العائق)، الذي يحتوي على أحدث التقنيات وبالونات المراقبة، سيؤمّن الردع. وكان الافتراض أنه إذا حدث هجوم على الرغم من هذا كله، فإنه سيكون محدوداً، ويستطيع الجيش إحباطه. وعلى الرغم من نشر تحذيرات وصلت من درجات منخفضة، مثلاً من الفرقة 8200، ومن وحدات المراقبة، فإنها لم تؤخذ بجدية.
ومثلما جرى قبل 50 عاماً، حدثت المفاجأة يوم السبت. وبانتهاء هذا اليوم، ستبدأ، مرة أخرى، هجمة من الناطقين لمأسسة الرواية: الشاباك متهم، وشعبة الاستخبارات العسكرية متهمة، وقائد هيئة الأركان متهم، والاحتجاجات متهمة، ولم تتوقف حتى نهاية الحرب، لكن السؤال الكبير ليس عدم ترك الفحص العميق، بل ماذا جرى لـ"إسرائيل"؟ كيف سقطت في هذا الفخ القاتل؟ لم يكن هناك معلومات استخباراتية، بل إشارات مسبقة وكثيرة من غزة، وصولاً إلى الضفة الغربية، إلاّ إن القيادة تجاهلتها، ويمكن أن نتوقع أن يكون لهذا الأمر صدى سياسي كبير. وفي هذه الحالة، سيحدث أيضاً ما حدث في عام 1973. والتاريخ يعيد نفسه في منطقة حبلى بالمفاجآت.
تابعوا آخر الأخبار من icon news على WhatsApp تابعوا آخر الأخبار من icon news على Telegramنسخ الرابط :