كشفت مجلة "+972" الإسرائيلية عن منطق إسرائيل المتطرف في مواجهة سيل لا ينتهي من صور الفظائع التي يقترفها الاحتلال الإسرائيلي في قطاع غزة، لافتة إلى أن معظم الجمهور الإسرائيلي وجزءا كبيرا من مؤيدي إسرائيل في الخارج يستجيبون لما يبثه الصحفيون والنشطاء في القطاع بإحدى طريقتين، إما أن "كل ذلك مزيف"، أو أن "سكان غزة يستحقون ذلك".
واستدركت المجلة أنه وفي معظم الأحيان، يكون كلا الأمرين في آن واحد معا، وعلى نحو متناقض، بمعنى "لا يوجد أطفال قتلى في غزة، ومن الجيد أننا قتلناهم". وكتب الأكاديمي الإسرائيلي رون دوداي في المجلة، أن حملة الإبادة الجماعية التي تشنها إسرائيل في غزة قد تكون هي الفظاعة الأكثر توثيقا في التاريخ الحديث، سواء من حيث حجم الأدلة أو سرعة تداولها.
وتابع دوداي أن الهواتف الذكية ووسائل التواصل الاجتماعي، التي كانت لا تزال بعيدة المنال خلال الإبادة الجماعية في البوسنة ورواندا، سمحت بتصوير الأحداث في غزة على الفور، من زوايا لا حصر لها، ومشاركتها مباشرة على مستوى العالم.
لكن إسرائيل كانت تواجه ذلك كله بالإنكار، بحسب الأكاديمي الإسرائيلي، مستحضرا بعض أساليب الإنكار التي تستخدمها الدول والمجتمعات، والتي وردت في كتاب "دول الإنكار" للكاتب الإسرائيلي ستانلي كوهين، مثل "لم يحدث ذلك" (لم نعذب أحدا) "ما حدث هو شيء آخر"، "لم يكن هناك بديل" (القنبلة الموقوتة جعلت التعذيب شرا ضروريا).
وفي سبيل توفير هذه الصور للعالم، استشهد 240 صحفيا منذ بدء حرب الإبادة الجماعية على قطاع غزة، ضمن استهداف إسرائيلي ممنهج للصحفيين، وسط منع زملائهم الأجانب من دخول القطاع لتغطية الأحداث.
وكشف دوداي عن تجذر منطق لدى إسرائيل أسماه "نقاء السلاح"، ويتمثل بالاعتقاد أن إسرائيل تتصرف فقط "دفاعا عن النفس"، إلى جانب عقلية "إطلاق النار والبكاء" القديمة، والمتمثلة بارتكاب إسرائيل الجرائم والمجازر، "لكنهم يظلون أخلاقيين لأنهم يحزنون عليها بعد ذلك".
عقلية إنكار مستوردة من اليمين الأميركي
لكن في إسرائيل -يتابع الكاتب- أصبح رفض أي توثيق صحفي من غزة باعتباره "مزيفا" جزءا من الخطاب السائد، من أعلى مستويات السلطة السياسية وصولا إلى المعلقين المجهولين على مواقع الأخبار، مشيرا إلى أن ذلك متجذر في عقلية مستوردة من دوائر اليمين في الولايات المتحدة، مثل خطاب "الدولة العميقة" الذي أطلقه الرئيس دونالد ترامب وأصبح مفضلا لدى رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو وأنصاره.
ويستدعي الكاتب مثالا على هذا النمط من الإنكار، حين ادعى الأميركي أليكس جونز، الشخصية الإعلامية اليمينية المتطرفة، وحليف ترامب، في عام 2012، أن حادثة إطلاق النار في مدرسة ساندي هوك الابتدائية، التي راح ضحيتها 20 طالبا و6 بالغين، كانت ملفقة. وعلى الرغم من الأدلة الدامغة، أصر جونز على أن جميع لقطات المجزرة: الآباء المتألمين على فقد أبنائهم، وجثث الضحايا، كانت مزيفة، وأنها جزء من مؤامرة ديمقراطية لتقويض حق الأميركيين في حمل السلاح!
ويقول الكاتب، الذي يعمل أستاذا مشاركا في قسم علم الاجتماع والأنثروبولوجيا في جامعة بن غوريون، إن هذا النوع من الخطاب بدأ يتسرب إلى المجتمع الإسرائيلي قبل السابع من أكتوبر/تشرين الأول 2023 ابتداء من الإنترنت ثم في الأوساط الرسمية، ومع استمرار الحرب، أصبح رد فعل شائعا، وغالبا ما يكون تلقائيا.
وواصل دوداي ضرب الأمثلة: إذا كان هناك فيديو لأبوين فلسطينيين يحملان جثة طفل رضيع، فورا يسود الرد "ممثلون يحملون دمية"، وكذلك صور لمدنيين أطلق عليهم الجنود الإسرائيليون النار: "صُنعت بواسطة الذكاء الاصطناعي أو تم التلاعب بها أو التقطت في مكان آخر".
ويصف الكاتب كيف كانت الادعاءات الإسرائيلية في حقبة سابقة من إنكار الفظائع متقنة، مستحضرا مشهد استشهاد الطفل محمد الدرة في غزة إبان الانتفاضة الفلسطينية الثانية عام 2000، كيف بذل الإسرائيليون ومؤيدوهم جهودا هائلة لمحاولة تشويه صورة الفيديو، عبر مئات الساعات من التحليل والتقارير وحتى الأفلام الوثائقية، وتحليل زوايا التصوير والتفاصيل الجنائية، من أجل الزعم بأن الحدث برمته كان ملفقا.
اليوم -يتابع دوداي- لا يتطلب الإنكار مثل هذا الجهد، فقد أفسحت نظريات المؤامرة المعقدة في الماضي المجال لشكل أكثر فظاظة من الإنكار، وهو الرفض لأي دليل يتعارض مع المصالح باعتباره ملفقا، حيث يتم رفض الوثائق بكلمة واحدة "مزيفة".
ا
لإنكار والتبرير في مواجهة التجويع في غزة
وتطرق الكاتب الإسرائيلي إلى صور المجاعة المروعة في القطاع، لافتا إلى أنه وبالرغم من الأدلة الدامغة عليها إلا أن الاستجابة في إسرائيل كانت عبر الزعم بأنها "كلها مزيفة".
وزعم نتنياهو أن المجاعة في غزة مختلقة من حماس بواسطة "صور ملفقة أو جرى التلاعب بها"، في حين رفض وزير الخارجية جدعون ساعر صور الأطفال الهزيلين ووصفها بأنها "واقع افتراضي"، مستشهدا بوجود بالغين إلى جانبهم ولا يظهر عليهم علامات الجوع، وادعى جيش الاحتلال أن حماس تعيد استخدام صور أطفال يمنيين أو تزور صورا باستخدام الذكاء الاصطناعي.
وينوه الكاتب إلى أنه وعلى الرغم من الأدلة الموثقة على الفظائع، فإن الوضع اليوم مختلف تماما، إذ أدى تزايد الشكوك حول تلاعب الذكاء الاصطناعي، وتآكل الثقة في وسائل الإعلام المؤسسية، وانهيار حراس الديمقراطية، إلى انتشار فكرة "اتهام كل شيء بأنه مزيف" على نحو غير مسبوق.
وترفض الغالبية العظمى من وسائل الإعلام الإسرائيلية عرض ما يحدث بالفعل في غزة، لكن عندما تنجح بعض الصور في التسلل، فإن رد فعل الجمهور غالبا ما يكون مجرد تجاهل جماعي، وفق دوداي، مضيفا "ومع ذلك، في كل مرة تقريبا، يصاحب هذا التجاهل عبارة (إنهم يستحقون ذلك)، حيث يتشابك الإنكار والتبرير فيما قد يبدو متناقضا، ولكنه في الواقع يعكس وجهين لعملة واحدة".
ودلل الكاتب مجددا على ذلك بتصريح وزير التراث عميحاي إلياهو مؤخرا "لا توجد مجاعة في غزة، وعندما يعرضون عليكم صورا لأطفال يتضورون جوعا، انظروا عن كثب، سترون دائما طفلا سمينا بجانبهم، يأكل جيدا، هذه حملة ملفقة"، وفي المقابلة ذاتها، يقول إلياهو "لا توجد أمة تطعم أعداءها، هل فقدنا عقولنا؟ في اليوم الذي يعيدون فيه الرهائن، لن يكون هناك جوع، في اليوم الذي يقتلون فيه إرهابيي حماس، لن يكون هناك جوع".
تابعوا آخر الأخبار من icon news على WhatsApp تابعوا آخر الأخبار من icon news على Telegramنسخ الرابط :