دونالد ترامب رأى فيه "جرس إنذار،" والرئيس التنفيذي لأوبن إيه.آي سام ألتمان قال إنه "نموذج مثير للإعجاب،" وميتا أعلنت عن تشكيل أربع “غرف حرب” بقيادة مارك زوكربيرغ للتعامل مع ما أسمته بالتطورات المذهلة لشركة صينية ناشئة. فهل تقبل الولايات المتحدة بالهزيمة أمام العملاق الصيني الذي يعمل بصمت؟
منذ ست سنوات تقريبا (2 يونيو 2019) طرحت تساؤلا قلت فيه: ماذا لو نجحت الصين في صنع قطع “الليغو”؟ وقطع الليغو في التساؤل المطروح هي صناعة أشباه الموصلات التي تعتبر حجر الزاوية في الصناعات الرقمية ومؤخرا في تطوير أنظمة الذكاء الاصطناعي. وأعدت التذكير مرة ثانية بنفس السؤال منذ عام تقريبا.
الصين “المتأخرة بسنوات عن منافسيها” لم تكتف بصناعة قطع الليغو بل أنجزت المهمة بكلفة أقل بكثير من إنفيديا وقلبت كل تصورات الكبار خلال أيام من إطلاق “ديب سيك R1”.
ويعكف الخبراء في ميتا على فك اللغز ومعرفة كيف استطاعت “ديب سيك” وهي شركة ناشئة من التوصل إلى إطلاق نموذج ذكاء اصطناعي، يمكنه تقديم أداء مماثل لنماذج متقدمة مثل تشات جي بي تي، ولكن بتكاليف أقل بكثير.
الإنجاز الصيني أحدث رعشة في أسواق المال في الولايات المتحدة، وتساءل مستثمرون كبار هل ضاعت الأموال التي استثمروها؟ وهو ما وضع سيلكون فالي في حالة استنفار. وأشار تقرير نشره موقع “ذا إنفورميشن” المختص بالتكنولوجيا إلى أن ماثيو أولدهام، مدير البنية التحتية للذكاء الاصطناعي في ميتا، أقر بأن هناك مخاوف من أن يتفوق النموذج الذي أطلقته ديب سيك على الإصدار القادم الخاص بميتا، والذي أطلق عليه اسم “لاما”، وكان مارك زوكربيرغ قد أعلن أنه سيطرح في الأسواق أوائل عام 2025.
وبدلا من أن تسعى الصين لاستجداء التكنولوجيا الجديدة من الشركات الأميركية، ستسعى ميتا من خلال “غرف حرب أربعة” إلى معرفة الطرق التي خفضت بها ديب سيك تكاليف تدريب نموذجها وتشغيله، بهدف تطبيق هذه الطرق على نموذجها الجديد، وقد جَهَزَ فريقان لهذه المهمة، بينما يركز الفريقان الآخران على تحديد البيانات التي استخدمتها ديب سيك في تدريب نموذجها، وإعادة هيكلة نماذج لاما وفقا للنتائج التي سيتم التوصل إليها.
ميتا اكتفت بالقول إنها “تُقيّم بانتظام كافة النماذج المنافسة كجزء من عملية التطوير،” مشيرة إلى أن لاما أدّى دورًا أساسيًا في إنشاء منظومة للنماذج مفتوحة المصدر ومعربةً عن حماسها لإطلاق الجيل الرابع من النموذج قريبًا.
وكان زوكربيرغ قد أعلن حديثًا أن ميتا تعتزم استثمار نحو 65 مليار دولار في مشاريع متعلقة بالذكاء الاصطناعي خلال العام الجاري، ومنها بناء مركز بيانات كبير، وزيادة التوظيف.
ورغم حجم المبلغ الكبير، لكنه يعتبر متواضعا مقارنة بالأرقام التي كشفت عنا أوبن إيه آي لإطلاق مشروع “ستارغيت” الذي يهدف إلى إنشاء عشرات مراكز البيانات الجيدة في الولايات المتحدة، بدعم من إدارة ترامب وبالشراكة مع سوفت بانك وأوراكل، وقدرت كلفته بمبلغ 500 مليار دولار.
الجميع الآن يحبس أنفاسه ويعيد حساباته بعد النجاح الذي حققته ديب سيك، ويتساءل رؤساء الشركات في سيلكون فالي عن جدوى الإنفاق الضخم والاستثمارات الكبيرة في مشاريع الذكاء الاصطناعي.
مهما يكن، استطاعت الصين “المتأخرة بسنوات عن منافسيها” إلى قلب كل التصورات الكبار في أميركا خلال أيام من إطلاق ديب سيك الذي رأى فيه البعض بداية حرب غير معلنة من قبل الصين.
إذا فكرنا قليلا بالرقم الذي خسرته إنفيديا لوحدها خلال يوم واحد، الاثنين الماضي، وهو 560 مليار دولار (17 في المئة من قيمتها السوقية) لن تكون كلمة حرب كافية لوصف ما حدث. إنها مجزرة بكل الاعتبارات، ستجبر الشركات على إعادة التفكير بإستراتيجياتها. وستُسجل هذه الخسارة على أنها أكبر هبوط لسهم شركة خلال يوم واحد في تاريخ سوق الأسهم الأميركية.
المفاجأة جاءت في وقت خيل فيه للإدارة الأميركية أن باستطاعتها توجيه ضربة قوية للصين تعيدها إلى الوراء عشرات السنين، وهو ما دفعها لإعلان حظر على تصدير الرقائق وبدء حرب تجارية معها، وشجعتها على ذلك آراء لخبراء ومحللين أكدوا أن بداية بكين التكنولوجية جاءت متأخرة جدا وأن أمامها مهمة مستحيلة لتجاوز عقبة الرقائق.
تجارب الماضي وحدها، لو فكرت فيها الإدارة الأميركية مليا، كافية لتثبت لها أن في الصين لا توجد كلمة مستحيل. الشعب الذي بنى سور الصين العظيم، البناء الوحيد الذي تمكن رؤيته من سطح القمر وأن رحلة الألف ميل تبدأ كما قال حكيمهم كونفيشيوس بخطوة واحدة، لا يؤمن بالمستحيل.
وكانت الشركة الصينية قد بدأت حملتها في يوم 10 يناير بإطلاق نموذجها المتطور (DeepSeek V3) كبديل مجاني للتطبيقات المماثلة المدفوعة مثل تشات جي بي تي.
حجم المعجزة الصينية يمكن أن يقدر أكثر إذا علمنا أن الشركة التي أحدثت هذه الهزة تأسست عام 2023 برأس مال يبلغ 10 ملايين يوان (نحو مليون و400 ألف دولار)، وتقدّر تكلفة نموذجها للذكاء الاصطناعي بنحو 5.6 ملايين دولار، وهو أقل بكثير مقارنة بنفقات عملاق تكنولوجيا الذكاء الاصطناعي إنفيديا، التي تتراوح بين 100 مليون دولار إلى مليار دولار.
وتفوّق تطبيق الدردشة الذكي الذي طورته الشركة التي تأسست على يد ليانغ ونفينغ، على تطبيق تشات جي بي تي على متجر تطبيقات شركة آبل.
ووصف سام ألتمان، الرئيس التنفيذي لشركة “أوبن إيه آي”، في منشور على منصة إكس الاثنين، نموذج ديب سيك بأنه “مذهل، وخاصة في ما يقدمه مقابل السعر.”
واستدرك: “لكننا متحمسون بشكل أساسي لمواصلة تنفيذ خريطة الطريق الخاصة بنا بشأن البحث، ونعتقد أن زيادة (القدرة) الحاسوبية باتت أكثر أهمية الآن من أي وقت مضى حتى ننجح في مهمتنا.”
هذا الوعد الذي قطعه ألتمان على نفسه يزيد من احتمالات منافسة غير مسبوقة بين بكين وواشنطن بهذا القطاع سريع النمو والانتشار.
وهو ما دفع، كما ذكرنا، الرئيس الأميركي ترامب خلال مؤتمر للحزب الجمهوري في ميامي، للقول إن نموذج ديب سيك هو بمثابة “جرس إنذار” للشركات الأميركية، داعيا المطورين إلى “التركيز الحاد على المنافسة للفوز.”
كان حريّ بترامب أن يرى في ما حدث جرس إنذار للولايات المتحدة ولإدارته على وجه الخصوص.
سدد التقدم الذي حققته ديب سيك ضربة لواشنطن وأولوياتها المتمثلة بالمحافظة على تفوق الولايات المتحدة تكنولوجيا، محدثا هزة في قطاع التكنولوجيا، ليطرح سؤالا مهما: هل يتعين على عمالقة التكنولوجيا مواصلة إنفاق مئات مليارات الدولارات على الاستثمار في الذكاء الاصطناعي بينما بإمكان شركة صينية إنتاج نموذج مواز بكلفة أقل بكثير؟
حفاظا على كبريائه، حاول ترامب أن يبتلع الصدمة ويغطي على استعماله عبارة “جرس إنذار”، معتبرا أن الصدمة قد تحدث أثرا إيجابيا بالنسبة لكبرى شركات التكنولوجيا الأميركية، “بدلا من إنفاق المليارات والمليارات، ستنفق أقل على أمل أن تصل إلى الحل نفسه.”
وهو ما أكده أيضا سام ألتمان في منشور على إكس بأن “وجود منافس جديد هو أمر محفّز.”
هذه التطورات تزامنت مع مساع تبذلها إدارة ترامب لحظر تطبيق “تيك توك” الصيني في الولايات المتحدة أو إجبار الشركة المطورة على بيعه.
وفي هذا السياق، لفت ترامب الاثنين إلى أن مايكروسوفت تجري مفاوضات لشراء تيك توك.
وقال مستشار ترامب في مجال الذكاء الاصطناعي ديفيد ساكس إن نجاح ديب سيك يبرر قرار البيت الأبيض إلغاء أوامر تنفيذية صدرت في عهد الرئيس السابق جو بايدن والتي حددت معايير سلامة لتطوير الذكاء الاصطناعي.
وكتب ساكس على منصة إكس إن القواعد “كانت لتعيق شركات أميركية للذكاء الاصطناعي من دون أي ضمانة بأن الصين ستقوم بالخطوة ذاتها.”
هذا الكلام يوحي بأن الإدارة الأميركية ومستشاريها بدأوا بإدراك أن استعمال إستراتيجية المحاصرة مع التنين الصيني لن تجد نفعا، ولن نستغرب أن نشاهد مستقبلا تراجعا عن سياسة العقوبات التجارية التي تلوح فيها واشنطن بوجه بكين.
لقد ثبت بما لا يدع مجالا للشك، أن سلاح التكنولوجيا، الذكية خاصة، أمضى من السلاح النووي. امتلاك خصمين للأسلحة النووية سيمنعهما عن التهديد باستخدامها، بينما السلاح التكنولوجي، رغم نعومة مظهره، يمتلك قدرة هائلة على تدمير الاقتصاد، وهو ما يدركه وعبر عنه الرئيس التنفيذي لاتحاد قطاع التكنولوجيا “تشيمبر أوف بروغرس” آدم كوفاسيفتش قائلا “تتمثل الأولوية الآن في مجال الذكاء الاصطناعي في ضمان انتصار.”
أما مارك أندريسن، المستثمر في مجال التكنولوجيا والمتحالف مع ترامب، فاعتبر أن الذكاء الاصطناعي مع ديب سيك يعيش لحظة “سبوتنيك”، في إشارة إلى إطلاق الاتحاد السوفياتي أول قمر اصطناعي في الأرض عام 1957 وهو حدث مفاجئ أثار دهشة الغرب حينها.
وكان الرئيس التنفيذي لشركة مايكروسوفت ساتيا ناديلا قد حذر أثناء المنتدى الاقتصادي العالمي في دافوس من أن “علينا أخذ التطورات القادمة من الصين على محمل الجد بشكل كبير.”
إيلون ماسك الذي استثمر مبالغ كبيرة في شرائح إنفيديا اختار طريقا آخر للتحدث عن ما يجري مرجحا أن تكون ديب سيك تمكنت من الوصول سرا إلى شرائح “إتش100” التي يحظر تصديرها إلى الصين.
لكن المستثمر جين جو سكوت المقيم في هونغ كونغ اعتبر على منصة إكس أن هذا النوع من الاتهامات “يذكر برد فعل فريق الأطفال الأثرياء الذي خسر أمام فريق الأطفال الفقراء.”
من جانبها، أكدت إنفيديا في بيان بأن تكنولوجيا ديب سيك “ممتثلة بالكامل لضوابط التصدير.”
أي المعسكرين سيختار الرئيس الأميركي دونالد ترامب قبل أن يخطو خطوته التالية؟
لصالح البشرية نأمل أن يتعامل مع التطورات القادمة من الصين على محمل الجد.
تابعوا آخر الأخبار من icon news على WhatsApp تابعوا آخر الأخبار من icon news على Telegramنسخ الرابط :