لم يشهد العالم منذ تأسيس إسرائيل هذا الحديث المتواتر بلسان دونالد ترامب عن تغيير الحدود، شمالاً صوب كندا، وشرقاً صوب غرينلاند، فضلاً عن التهديد بالاستيلاء على قناة بنما. وخلال أشهر من التدمير الممنهج لقطاع غزّة، ثمّة تصاعد جنوني في المخطّطات الرسمية لالتهام الضفة الغربية بالتوسّع الاستيطاني، وهي مخطّطاتٌ تتماهى مع تصريح شهير للرئيس ترامب عن مساحة إسرائيل وضرورة توسيعها. ومنذ تأسيس إسرائيل بهذه الإرادة الفوقية، بدا (لما يزيد عن ثلاثة أرباع القرن) أن رسم الخرائط بقلم غربي (بمنطق الإملاء) أصبح صفحةً من الماضي، فالنظام الدولي الذي وضعه المنتصرون في الحرب العالمية الثانية أكّد بصرامة نزع المشروعية عن اكتساب الأرض بالقوة، ورعى تصفية الاستعمار العسكري المباشر.
وفجأة سقطت "ورقة التوت". فأميركا، التي طالما حاولت أن تستثمر في مقولة إنها لم تكن قوةً استعماريةً (وهو زعم كاذب) ساهمت في رعاية واحدة من أحطّ جرائم الاستيطان الإحلالي في فلسطين، ثمّ استدارت بعد "طوفان الأقصى" لتكشف عن مطامع توسّعية عدّة، وعن رغبة في رعاية مرحلة ثانية من توسّع إسرائيل. ومنذ بدأ العدوان الإسرائيلي على غزّة تعرّضت منظّمة الأمم المتحدة (أهم رموز النظام الدولي) إلى إساءات رسمية إسرائيلية متكرّرة، شكّل تمزيق ميثاقها إسرائيلياً، علناً من على منصة الجمعية العامة، مساراً في التعامل مع القانون الدولي يتجاوز دلالاته الرمزية، ليرقى إلى أن يكون إعلاناً عن تصدّع وشيك للنظام الدولي كلّه.
والمصداقية التي حاول تحالفٌ غربيٌّ تقوده أميركا بناءها، في خطاب إدانة قرار موسكو ضمّ أراضٍ أوكرانية إلى روسيا، ليست في نظر دونالد ترامب سوى محاولة لترميم نظام دولي استنفد أغراضه، وحديثه المتكرّر عن حلّ لأزمة أوكرانيا قد يعني رغبته في العودة إلى ما قبل إنشاء الأمم المتحدة، حين كانت القوى الاستعمارية الغربية ترسم خرائط الدول، وتتقاسم مناطق النفوذ، وفقاً لتوازنات القوى من دون اكتراث بأيّ قيود قانونية أو أخلاقية.
وبهذا المعنى، قد يكون تغيير الحدود سمةً مميّزةً لحقبة محفوفة بالمخاطر في العلاقات الدولية، من مشكلة تايوان إلى ضمّ روسيا أراضي أوكرانية إلى مخطّطات ترامب التوسّعية، وصولاً إلى التمهيد لضرورة توسيع مساحة إسرائيل.
وتغيير الحدود، وإعادة رسم الخرائط، كانا في العصر الحديث كلّه طريقاً إلى حمّامات دمٍ. والحالات التي تغيّرت فيها الخرائط من دون انتهاك القانون الدولي كانت نادرة، في حالات مثل استقلال إريتريا من الاحتلال الإثيوبي، وانفصال تيمور عن إندونيسيا، وانفصال جنوب السودان، والطلاق المخملي بين تشيكيا وسلوفاكيا، وتفكّك دول البلطيق (إستونيا ولاتفيا وليتوانيا).
والخطر الذي تنطوي عليه الدعوات الأميركية والإسرائيلية لتغيير الخرائط مصحوبٌ بصمت عالمي مريب، وخاصّة في ما يتّصل بمواقف قوىً دوليةٍ مثل الصين وروسيا، ما قد يشير (ولو على سبيل الاحتمال) إلى توافق ما، صريحاً كان أو ضمنياً، على أن من الوارد أن يمرّ العالم في حقبة من "التواطؤ المُتبادَل" لها سابقاتها في التاريخ الحديث. و"الدولة" وحدةً رئيسةً للتصنيف في العلاقات الدولية تواجه تهديداً حقيقاً، وبعض أهم مؤسّسات النظام الدولي في مرمى قصف نيراني أميركي إسرائيلي لا سابقة له. والخنجر الذي رسم به الغرب (بالإملاء) خريطة "سايكس - بيكو" لا يزال يقطر دماً حتى اليوم، والمخاطر التي يمكن أن تكون خارج حسابات بنيامين نتنياهو ودونالد ترامب قد تحمل في طيّاتها ما ليس في الحسبان. ورجل الصفقات العقارية المزهو بقدرته على الاقتناص، قد لا تُسعفه غريزته وهو يطمح بصلف إلى ليّ عنق النظام الدولي، وقد تفشل محاولة بناء و"فاق دولي" يشبه التفاهمات الغربية السوفييتية، التي ميّزت جزءاً من حقبة الحرب الباردة، فالصفقة المأمولة هنا ليست على تقاسم "المصالح" ومناطق النفوذ، بل على جولة ثانية من تفتيت ما سبق تفتيته.
يتأثر التاريخ بـ"غطرسة القوة"، لكنّه أبداً ليس نتاج هذه الغطرسة وحدها، والخرائط التي يريدها بعضهم "صمّاء"، ليست بالضرورة كذلك. وقد يكون الأكثر أهميةً هنا أن يدرك العرب أن التجاهل والتكيّف ليسا طريقا النجاة، وبخاصّة في ما يتّصل بالمطامع الإسرائيلية، كما أن تفتيت النطاق الجغرافي المحيط بإسرائيل لن يكون نزهةً، وقد لا يمرّ كما مرّت عاصفة "سايكس بيكو".
تابعوا آخر الأخبار من icon news على WhatsApp تابعوا آخر الأخبار من icon news على Telegramنسخ الرابط :