لم يكن خبر فرار موقوفٍ لدى جهاز أمن الدولة ليحظى بأهمية استثنائية، لولا أن الفارّ هو داني الرشيد، مستشار المدير العام للجهاز اللواء طوني صليبا وصديقه المُقرَّب، ولولا أن صليبا نفسه هو من توسّط لدى مدّعي عام التمييز لنقل الموقوف إلى سجن جهاز أمن الدولة، حيث تُوفّر ظروف إقامة فندقية للمحظيّين.لذلك، كائناً من كان المتورّط في تهريب الرشيد، تقع المسؤولية في الدرجة الأولى على صليبا الذي أعطاه رئيس الحكومة نجيب ميقاتي مهلة لإعادة اعتقال الموقوف تحت طائلة وضعه في التصرّف أو الاستقالة. ولأنّ اللواء يعرف صديقه جيداً، توقّع أن يتوجّه الرشيد إلى سوريا حيث له أقارب. لذلك، لجأ صليبا إلى رجل أعمال سوري طالباً مساعدته. وبالفعل، أوقف الأمن السوري الرشيد وسلّمه إلى الضابط في أمن الدولة خليل عون مقابل أن لا يُنقل إلى سجن رومية المركزي. كما لعب المدير العام للأمن العام اللواء الياس البيسري دوراً في استعادة الموقوف والتنسيق مع القضاء.
لكن البيان الذي أعقب استعادة الرشيد كان أكثر فظاعة من واقعة الفرار نفسها. فبدل أن تحاول المديرية لملمة فضيحة غير مسبوقة بفتح تحقيق ومحاسبة المقصّرين، راحت تستجدي إنجازاً خيالياً. فزعمت في بيان أن «قوّة من أمن الدولة نفّذت عملية أمنية مشتركة داخل الأراضي السورية أفضت إلى توقيف الرشيد الذي سُلِّم إلى الأمن العام اللبناني». ورغم كل ما حصل، أُعيد الموقوف إلى مركز حماية الشخصيات من حيث هرب. ولضبضبة الفضيحة، سُجِن معه مدير حماية الشخصيات العميد ب. ب. (يُحال على التقاعد بعد أشهر) ليومين بسبب التقصير، قبل أن يُستبدل ببضعة عناصر ليكونوا كبش فداء. والمسؤولية يتحمّلها بالتكافل والتضامن صليبا ونائبه العميد حسن شقير، كون القرارات في المديرية تؤخذ بالإجماع.
فضيحة تهريب الرشيد، وهو المدير السابق لمكتب وزير العدل السابق سليم جريصاتي، وصاحب النفوذ الواسع في مدينة زحلة وجوارها، ليست أولى العثرات ولن تكون آخرها، في المديرية التي تضج أروقتها بروائح المحسوبيات والصفقات والمخالفات بدءاً من تعيين مدني (ع. ع.) رئيساً لديوان المدير العام خلافاً للقانون الذي يفرض أن يرأس الديوان ضابط قائد أو عام (عقيد أو عميد). ويوزّع مجلس القيادة 352 عسكرياً فُصلوا مع 152 آلية إلى ديوان المدير العام، على قضاة وسياسيين ورجال أعمال سوريين ولبنانيين، علماً أن داني الرشيد نفسه كان قد فُرز له أربعة عناصر لحمايته!
والأغرب أنّ الجهاز الذي يفترض أنّ عمله مكافحة الفساد وحماية الأمن القومي للبلاد، تحوّل أخيراً إلى أشبه ما يكون بـ «تاجر سلاح»! إذ كان سبّاقاً في استدراج عشرات عروض الأسلحة من دون أي مراقبة من رئاسة مجلس الوزراء التي يتبع لها، وبات بإمكان أي كان شراء السلاح من المديرية بناء على موافقة من المدير أو نائبه، وهو ما استفاد منه مسؤولون وضباط ومديرون عامون يحصلون على أسلحة (إضافة إلى خطوط رباعية ودراجات وآليات) بالسعر الرسمي ويبيعونها بسعر السوق السوداء. فمسدس «غلوك»، مثلاً، سعره الرسمي 700 دولار ويُباع في السوق السوداء بـ 3500 دولار، ومسدس FN الذي يبلغ سعره الرسمي حوالى 2000 يورو يباع بـ 12000دولار، وكل ذلك بإشراف المؤهل أول هـ. أ. المسؤول عن ملف بيع الأسلحة الخاصة باللواء صليبا.
كذلك يجري الحديث عن نحو 100 ألف طلقة رصاص يتسلّمها مسؤول مواكبة المدير العام الرائد خ. ع. من رئيس الشّعبة الإداريّة العميد ع. م. أسبوعياً بحجة استخدامها في حقول الرماية، من دون أن تُستخدم أبداً، ومن دون معرفة مصيرها. فهل هناك من يُراقب مسألة بيع الأسلحة في المديرية العامة لأمن الدولة؟
قسائم البنزين باب آخر للهدر. العام الماضي، مثلاً، طُبعت 125 ألف قسيمة بنزين (20 ليتراً)، علماً أنّ عدد عناصر المديرية لا يتعدّى الـ 4 آلاف، من بينهم 150 ضابطاً. ومع حصول كل ضابط على 27 قسيمة شهرياً والمؤهل على 10 قسائم، فإن مجموع ما تحتاجه المديرية يصل إلى نحو نصف ما يُطبع من قسائم.
بعد فراره واستعادته أُعيد داني الرشيد إلى «السجن الفندقي» نفسه الذي هرب منه
أما في التشكيلات والتعيينات فحدّث ولا حرج عن تدخلات السياسيين لتشكيل ضابط هنا أو تعيين آخر هناك. ويؤكد ضباط أنه بعد موافقة رئاسة مجلس الوزراء على تطويع عناصر جديدة للجهاز، أُجريت امتحانات شكلية ومُررت طلبات من دون اختبارات بناءً لمراجعات من سياسيين ومسؤولي أحزاب ورجال أعمال! كما تمّ تمديد خدمات 30 مؤهلاً وصلوا سن التقاعد سنة إضافية من دون أن يلتحقوا بمراكز خدمتهم، ومعظمهم من المحسوبين على مرجعيات سياسية وأولهم رئيس الحكومة، ليحصل كل منهم على عشر بونات بنزين شهرياً وهو في منزله.
ومع اقتراب موعد إحالة رئيس شعبة الشؤون الإدارية إلى التقاعد، تبذل المديرية جهوداً مضنية للتمديد له، وخصوصاً أن ضباطاً في المديرية يرونه بمثابة «صندوق أسرارها» في ما يتعلق بالصفقات والتلزيمات وتوزيع الآليات والأفراد وقسائم المحروقات ومبيعات الأسلحة وغيرها. ولهذه الغاية قصد العميد شقير الأمين العام لمجلس الوزراء محمود مكية للبحث في اجتراح فتوى تتيح التمديد لرئيس شعبة الشؤون الإدارية، وفي السياق لشقير نفسه الذي يحال على التقاعد في آب المقبل.
كل ذلك فيما الجهة الرقابية المفترضة على جهاز أمن الدولة، أي رئاسة مجلس الوزراء، في سبات عميق. لا بل يعمد الجهاز أحياناً إلى استغفال رئاسة الحكومة، كما حدث عندما طلب الرئيس نجيب ميقاتي في شباط العام الماضي سحب الآليات والأفراد التابعين للجهاز الموضوعين بتصرّف شخصيات والعناصر خلافاً للقانون. إذ مضى شهر كامل من دون أن يكلف أحد نفسه عناء تنفيذ الطلب قبل أن تنفجر فضيحة الرشيد ويتنبّه رئيس الحكومة إلى تجاهل أوامره، فلوّح بإجراءات عقابية في حال الامتناع عن تنفيذ قراره.
ما يحدث في الجهاز ينبغي أن يفتح الباب واسعاً أمام مساءلة قيادته. صحيح أنّ الانهيار الاقتصادي أصاب الأجهزة الأمنية في مقتل، لكن التفلّت الذي يشهده أمن الدولة لا مثيل له في بقية الأجهزة بما يكاد يحوّله إلى ميليشيا.
نسخ الرابط :