شهدت جبهة جنوب لبنان، في الأيام الماضية، تصعيداً إسرائيلياً مدفوعاً بمروحة من المتغيّرات الميدانية والسياسية. وفي المقابل ارتقت ردود حزب الله في المدى والأهداف، وبدا واضحاً من مواقف قادة العدو وأدائه العملياتي، أنها كانت حاضرة في حسابات قيادته السياسية والأمنية. وما يجعل هذه الجبهة أكثر تفاعلاً مع المتغيّرات، أنها جزء من حرب أوسع نطاقاً تشمل بشكل رئيسي قطاع غزة، وتمتدّ إلى البحر الأحمر. وهو ما دفع وزير الأمن الإسرائيلي يوآف غالانت إلى القول إن اسرائيل تدفع «أثماناً باهظة في أعداد القتلى والجرحى»، في سياق التصميم «على تحقيق أهداف الحرب... ومواجهة التهديدات المحدقة بها في غزة ولبنان والضفة».ولم يُخف قادة العدو جانباً من خلفية تصعيد الاعتداءات، فوضعها رئيس أركان جيشه هرتسي هليفي ضمن «ضرورة جعل حزب الله يدفع الثمن غالياً جداً» بعدما قرّر «الانضمام إلى الحرب». وهو تعبير ينطوي على إقرار بكون جبهة لبنان جزءاً أساسياً من جبهات الاستنزاف، من قطاع غزة إلى البحر الأحمر. وضمن هذا الإطار، يأتي إشغال جبهة لبنان لجزء مهم من قوات جيش العدو، وهو ما عبّر عنه هليفي بقوله إن «القوات الموجودة هنا لديها قوة كبيرة»، واضعاً ذلك في إطار التعامل مع التهديد الذي يشكّله حزب الله «جدياً ما يفرض إنشاء عائق قوي هنا وتكثيف العمل الاستخباراتي». وبالمفهوم العملياتي، يأتي تصعيد جيش العدو اأضاً ترجمة لخيار مواجهة انخراط حزب الله في هذه الحرب مساندة لغزة.
لكن، بالموازاة، يدرك هليفي وغيره من المسؤولين الإسرائيليين البعد اللبناني الرئيسي في المعركة، وأن مبادرة حزب الله تندرج أيضاً ضمن خيار استباقي لإحباط واحتواء بعض من مفاعيل الحرب على غزة، و«طوفان الأقصى» الذي أحدث تحولاً في نظرة العدو إلى المخاطر المحيطة بها في الطوق الأول لفلسطين، وفي الخيارات الواجب اعتمادها إزاءها، ولا يخفى، هنا، أن للبنان نصيباً أساسياً من تداعياتها. وقد ظهر بعض معالم هذا البعد (اللبناني) في طرح شن حرب على لبنان في الأيام الأولى التي تلت الطوفان، والذي تعثّر بفعل الانقسام في مؤسسة القرار نتيجة الاختلاف في تقدير أولويتها ونتائجها، وفي ضوء الموقف الأميركي الذي حذّر من تدحرج أي حرب مع حزب الله إلى حرب إقليمية. كذلك تجلّى هذا البعد في مطالب العدو بفرض وقائع جديدة على جبهة الجنوب لتوفير الشعور بالأمن للمستوطنين، ومحاولة الحد من قدرات حزب الله في الردع والرد على أي اعتداءات لاحقة.
في السياق الخاص، يأتي التصعيد الإسرائيلي، بما في ذلك الضربات التي أتت في موقع الرد، بعد فشل رهانات وخيارات سابقة، ميدانية وسياسية، على فك ارتباط جبهة لبنان بغزة، وانتزاع تنازلات من لبنان والمقاومة بإبعاد حزب الله إلى ما وراء شمال نهر الليطاني. ويبدو أن اليوم الذي يلي الاتفاق على هدنة مؤقتة في الحرب على قطاع غزة، أصبح أكثر حضوراً لدى جهات القرار في كيان العدو، في ظل مفاوضات حثيثة تتمحور حول تبادل الأسرى، ما يطرح تساؤلات حول انعكاسات أي هدنة على جبهة لبنان، وهو ما سبق أن دفع غالانت إلى التوعّد بأن إسرائيل لن تقبل بأن تشمل الهدنة جبهة لبنان!
المتغيّر الميداني الذي أربك العدو أيضاً ودفعه إلى تصعيد اعتداءاته، هو الضربات التي وجّهها حزب الله إلى مروحة من الأهداف العسكرية النوعية، رداً على التهديدات التي يطلقها قادة العدو وعلى اعتداءاته على لبنان.
هكذا، بدا أن تصعيد اعتداءات العدو وردود حزب الله انطوت على رسائل ومؤشرات تتصل بواقع الجبهة ومستقبلها في المرحلة التي تلي الحرب على غزة، أو خلال أي هدنة لاحقة.
أولى هذه الرسائل أن ما يجري على جبهة لبنان، كما عبَّر قائد سلاح البحرية السابق، اللواء أليعازر ماروم، هو «حرب بوتيرة منخفضة، إلا أنها حرب بكل ما للكلمة من معنى»، مضيفاً أن الطرفين «لا يريدان الانتقال إلى حرب شاملة وإقليمية». لكن ذلك لا يتعارض مع حقيقة أن الجبهة تتحرك وفق سقوف متغيّرة صعوداً وهبوطاً.
يتعمّد العدو إضفاء غموض على مطالبه تجنباً للفشل من جهة ولغضب المستوطنين من جهة أخرى
في المقابل، أصبح أكثر وضوحاً أن امتناع إسرائيل عن شن حرب واسعة النطاق ضد حزب الله ولبنان يعود إلى أن عوامل الكبح أشد تأثيراً على مؤسسة القرار، التي تتمحور حساباتها وتقديراتها حول معادلة الكلفة والجدوى بالمعنى الواسع، ومقارنة ذلك مع البدائل المتوفرة. ومما يؤشر إلى الحجم الهائل لمفاعيل قوة الردع الاستراتيجي لحزب الله، أن إسرائيل بلغت مرحلة الذروة على مستوى دوافع شن الحرب، وأن الفرصة المثالية لذلك امتدّت على مدى نحو خمسة أشهر حتى الآن. ومع كل ذلك، فإن عوامل الكبح والردع والضبط كانت أشد. لكن ما ينبغي استحضاره من أجل فهم أدقّ لعوامل المنع لدى الطرفين، أن تأثيرها ليس مطلقاً وثابتاً في كل زمان ومكان، ولذلك تنبغي مراقبة حدود مفاعيل هذه العوامل ومتى قد تتغيّر الحسابات، وهو أمر ينطبق على حزب الله وقيادة العدو، وعلى كل طرف إقليمي ودولي أيضاً.
في مقابل التهديدات التي تتكرر على ألسنة كبار قادة العدو، تنبغي الإشارة إلى موقف غالانت الذي ربط «الخيار العسكري لإعادة الأمن لسكان الشمال» بـ«فشل العملية السياسية»، ملتزماً بالسقف الرسمي التقليدي الذي يُظهر حرص القيادة الإسرائيلية على استبعاد خيار الحرب كأولوية. لكنّ اللافت جداً في هذا المجال، هو تكيّف إسرائيل والموفدين الغربيين الذين يلعبون دور الوسطاء مع موقف حزب الله بالاكتفاء بالاستماع إلى العروض من دون أن يعطي رأياً بها إلى حين وقف الحرب على غزة، ما يشير إلى أن إسرائيل تفاوض نفسها! ترفع سقف مطالبها وتوقّعاتها، وبعد فشل خيارات سياسية وميدانية، تتراجع تلقائياً عنها، هذا ما حصل بالتراجع عن مطلب إبعاد حزب الله بلا قيد أو شرط من جنوب الليطاني إلى شماله. وكذلك، قبل أيام، في إعلان غالانت بأن «الهدف بسيط: انسحاب حزب الله إلى المكان الذي عليه أن يتواجد فيه» في تعبير ينطوي على غموض مدروس ومفتوح على أكثر من معنى. ويعود ذلك إلى أن قيادة العدو تجد نفسها أمام خيارين: إما رفع السقف بما يلبي مطالب المستوطنين، مع علمها أن هذا السقف لن يوافق عليه حزب الله ولن يكون بالإمكان تنفيذه، أو تحديد سقف أكثر واقعية يتلاءم مع معادلات القوة التي أظهرتها جبهة لبنان، الأمر الذي سيُفجر غضب المستوطنين. فكان المخرج باعتماد عناوين عامة ومبهمة. والأهم أن كل ذلك يؤكد أن رسائل حزب الله النارية وضرباته النوعية والمدروسة حقّقت، حتى الآن، أهدافها الردعية بما يتصل بمستقبل المعادلة مع لبنان.
تابعوا آخر الأخبار من icon news على WhatsApp تابعوا آخر الأخبار من icon news على Telegram
نسخ الرابط :