لطالما اعتبرت مصر أنّ عقيدتها للأمن القومي المصري في فلسطين التي هي بوابه أمنها الشرقية، ولذلك اعتبرت أنّ الملف الفلسطيني هو ملف أمني بالدرجة الأولى و سياسي بالدرجة الثانية. فقد لعبت مصر دورًا وريثًا عربيًا وإسلاميًا للدولة العثمانية بعد انهيار دولة الخلافة مع نهاية الحرب العالمية الأولى، باعتبارها دولة مستقلة ومتقدمة، ثم إنها الأكبر في العالمين العربي والإسلامي، ولاحقًا وفي عهد الرئيس جمال عبد الناصر أضافت الى دوائر نفوذها وزعامتها الدائرتين الأفريقية والعالمية، وتحولت الى الدولة الأفريقية الأولى والقائدة للقارة السمراء، وتشاركت مع الهند والصين ويوغسلافيا في قيادة القطب العالمي الثالث، محور عدم الانحياز في العالم.
تراجع الدور المصري عربيًا وأفريقيًا بعد الانتصار العسكري الجزئي في حرب تشرين الأولى عام 1973 وعجزت مصر عن استثمار نتائجها العسكرية في السياسة، هذا العجز أنتج معاهدة كامب دافيد وخروج مصر عن الإجماع العربي، وكان من نتائج الحرب ارتفاع أسعار البترول العالمية وتعاظم مداخيل دول البترو- دولار العربية، وإلى ظهور السعودية كقوة فاعلة تنافس مصر على دورها العربي والإسلامي، ويمكن القول أنّ ازدياد أزمات مصر وفشل مشاريعها التنموية وارتهانها للبنك الدولي وقروضه و شروطه، قد ساعد السعودية على أن تتجاوز مصر التي أخذ دورها بالتراجع التدريجي.
الأردن بدورها ترى أنّ الملف الفلسطيني حق حصري لها وأولويّة لديها، فالأرض واحدة والعائلة منقسمة ما بين ضفة النهر الشرقية وضفة النهر الغربية والحدود ممتدة لمئات الكيلومترات والاقتصاد مترابط والضفة الغربية كانت جزءًا من المملكة الأردنية الهاشمية التي خسرتها في حرب حزيران 1967، وبقيت تعتبرها أرضًا أردنية حتى قرار فك الارتباط القانوني والإداري مع الضفة الغربية الذي أعلنه الملك الراحل بخطاب معلن عام 1988، والذي كان قرارًا سياسيًا لا يحمل أي صفة دستورية تتنازل به الدولة الأردنية عن جزء من أرضها الوطنية، وترى عمان أنّها لا زالت حتى مع ذلك القرار السياسي صاحبة الولاية والحق برعاية الأماكن الدينية في القدس خاصة الإسلامية منها، وإن جاءت رعايتها ملتبسة كما وردت في نص اتفاقية وادي عربه، وتتسبب السياسات “الإسرائيلية” بالسماح للمستوطنين والمتطرفين باقتحامات المسجد الأقصى المتكررة برعاية الشرطة ووزراء ونواب إحراجًا لها.
حاولت دول أخرى الدخول على خط الملف الفلسطيني، فدولة الإمارات دعمت القيادي في فتح محمد دحلان واستضافته بعد خلافه مع قياده السلطة الفلسطينية في رام الله، وحاولت أن تلعب أدوارًا سياسية وأخرى مالية في القدس، فيما دعمت قطر حركه حماس واستضافت قيادتها وفتحت قنوات مالية مع غزة عبر الحقيبة المالية التي كان يحملها السفير العمادي شهريًا الى غزة، و تمثّل قطر أهم قنوات الاتصال ما بين “إسرائيل” والولايات المتحدة وحركة حماس فيما فضائيتها الجزيرة تعتبر أهم منبر إعلامي يدافع عن حركة حماس وجماعة الإخوان المسلمين.
على الصعيد الإقليمي ترى إيران أنّ مسألة فلسطين مسألة دينيّة مقدسة وركنًا من أركان سياستها الدولية والإقليمية، وجعلت لفلسطين أيام ومناسبات منها يوم القدس العالمي، وهي تدعم حركات المقاومة في الساحة الفلسطينية خاصة الإسلامية منها، وأعلن أكثر من قيادي إيراني أنّ بلاده معنيّة بتسليح الضفة الغربية، وأنّ إسرائيل هي غدة سرطانية يجب إزالتها من الوجود، فيما حاولت تركيا الأمر ذاته ولكن بشكل مختلف وخاصة بعد وصول حزب العدالة والتنمية الى الحكم، و نتذكر المواجهة التي استطاع بها أردوغان تحجيم “وشرشحة” شمعون بيريز في إحدى لقاءات مؤتمر دافوس عام 2009، ثمّ عبر سفن الإغاثة التي كان يرسلها الأتراك برعاية من حكومتهم لفك الحصار عن غزة، وأصبح دبلوماسيو أنقرة ومراكزها الثقافية نشطة جدًا في القدس وفلسطين التي لا زالت تراها إرثًا عثمانيًا.
احتفظت مصر ولو شكليًا بالزعامة الأفريقية ولكن انتشرت الحساسية بين مصر والسعودية على زعامة العالمين العربي والإسلامي وبين الدولتين وتركيا وإيران حول زعامة العالم الإسلامي وأحقية الدفاع عن فلسطين وبين كل هؤلاء والأردن حول مشروعية الوصاية الهاشمية على المقدسات في بيت المقدس وأكناف بيت المقدس “الضفة الغربية”، وبين جميع من ورد أعلاه وبين السلطة الفلسطينية في رام الله التي ترى أن منظمة التحرير هي الممثل الشرعي والوحيد للشعب الفلسطيني وصاحبه الولاية على الأرض الفلسطينية والشعب الفلسطيني وإن ارتبط ذلك بمقدار ما يسمح لها بذلك “الإسرائيلي”.
هذا ما جرى عبر عقود، أمّا ما جرى عبر ال 100 يوم الأخيرة فقد كان من الجدية بحيث قلب كل ما تقدم رأسًا على عقب، فالسيف أصدق أنباء من الكتب، ومبادرة المقاومة الفلسطينية في غزة صبيحة السابع من تشرين الأول وخوضها المعركة بشجاعة وحكمة واقتدار وصمود ترافق مع سياسة الصمت الاستراتيجي في رام الله وعجز القوى الفاعلة عربيًا وإقليميَا في الدفاع عن غزة وتركها وحيدة باستثناء ما نراه من مشاغلة تزداد يومًا بعد يوم في جبهة الشمال (الجليل- جنوب لبنان) مع الاحتلال، وجبهة العراق وشرق الفرات مع القوات الامريكية، لكن من يبادر هو من يستطيع أن يقود وأن يحظى بالزعامة والداعي لهذا الكلام والشاهد عليه مسألتان:
الأولى أنّ جنوب افريقيا هي من بادرت في رفع الدعوى في محكمة لاهاي على دولة الاحتلال جراء جرائمها في غزة متهمة إياها بممارسة الإبادة الجماعية، وجندت لها المحامين والسياسيين والإعلاميين وهو الدور الذي كان يجب أت تقوم به السلطة الفلسطينية و مصر والدول المتنافسة على الملف الفلسطيني. وفي النهاية يمكن القول أنّ جنوب أفريقيا قد استطاعت ان تأخذ من مصر دورها القيادي في أفريقيا، لا بل إنّ محكمة لاهاي تناولت في جلساتها من يشارك إسرائيل تهمة الإبادة الجماعية عبر الحصار وذلك ما يمكن ملاحظته من مرافعة وفد محاميي الدفاع “الإسرائيلي” بأنّ إسرائيل غير مسؤولة عن معبر رفح لتسمح أو تمنع دخول المساعدات الإنسانية أو إخراج الجرحى، فمعبر رفح هو معبر مصري و هي من تملك السيادة عليه، و هو ما يدعو مصر الى توضيح ذلك لا من خلال بيان إعلامي وإنما بفتح المعبر لإدخال المساعدات وإخراج الجرحى الذين لم يخرج منهم حتى الآن إلا قرابة 700 جريح من 60000، بما يقارب 10% من مجموع الجرحى.
الثانية أنّ اليمن الذي تلقّى الضربات البالغة القسوة من دول البترو- دولار طيلة ثماني سنوات وأوقعت به دمارًا على ذات الطريقة التي يضرب بها الإسرائيلي غزة، نراه وقد تحوّل برغم كل ما عاناه وإصابه الى اللاعب الأول عبر مبادرته، وفي نشاطه العسكري الجدي في البحر الأحمر و بحر العرب هو من قاد التصدي العربي للاحتلال ولداعميه، وجعل من إمدادات النفط والتجارة بين الشرق والغرب مرتبط بوقف الحرب والقتل والهدم في غزة، لا بل واستعد للدخول في حرب مع العالم كله من أجل فلسطين ليفتح لنفسه الطريق نحو دور طليعي في زعامة العالمين العربي والإسلامي، ماذا يملك اليمن من القوة والمال والسلاح ليفعل كل ذلك؟ اليمن يملك الإرادة فقط لا الموارد.
حرب تشرين الثانية هي حدث فارق، وعلّمتنا ولسوف تعلّمنا كثيرًا من الدروس المهمة، و تقلب من مفاهيم وبديهيات تعاطينا معها عبر عقود من الزمن أثبتت أيام الحرب القليلة تهافتها، من هذه الدروس الدرس الجنوب أفريقي وذلك أنّ السياسة هي فعل متواصل الحركة وأنّ من لا يمارس دورة وواجبه يخلي مكانه لمن يمارس الدور والوظيفة، فيما تعلّمنا بلاد العرب السعيدة أنّ سعادتها ليست بالثروات النفطية او بالأبراج العالية والفنادق الباذخة وما يتحقق من أرقام قياسية تذكرها إحصائيات جينس، وإنما سعادتها بما تملك من الإرادة التي جعلتها على هذا القدر من القوة والأهمية، أما الدرس الثالث فهو الذي يؤكد لرام الله أنّ سياسة الصمت الاستراتيجي لن تؤدي في نهاية المطاف الا الى الضياع والتلاشي الاستراتيجي وأنّ سياسة الفعل هي من تمنح الدور والنفوذ، أمّا سياسة الانتظار والترقب السلبي والالتهاء بإصدار البيانات فهي تمنح الشهادة بالعجز والضعف.
تابعوا آخر الأخبار من icon news على WhatsApp تابعوا آخر الأخبار من icon news على Telegram
نسخ الرابط :