لا القاتل يستطيع القتل ولا القتيل يستطيع الموت؟

لا القاتل يستطيع القتل ولا القتيل يستطيع الموت؟

 

Telegram

 

سؤال لا أظنّني قادرا على الإجابة عنه من دون الاستنجاد بعلم النفس وعلم الاجتماع ومحطات التاريخ المفصلية ذات الصلة: السؤال هو:
حين يصلُ القتال الأسطوري إلى مرحلة يصبح فيها القاتل يقتل قتيلَهُ مرات ومرات من دون أن يموت.. ويواظب على قتلِه بالطريقة ذاتها أو بطرُق أُخرى، فلا يموت. ثمّ يواظبُ القتيل بدوره على عدم الموت لا بالطريقة ذاتها ولا بطرق أخرى... ماذا يمكن أن يكون قد حصل في المُعسكَرَين؟ لا القاتل يستطيع أن يقتل ، ولا القتيل يستطيع أن يموت؟ القاتل استنفد كل أعصابه وأفكاره وأوساخه التي تستعبدُ الآخَر، ولم يفعل إلّا ممارسة دوره التقليدي الذي هو القتل بلا حساب من دون أن يترك في المقتول ذرة شعور بأنه ميت، والمقتول تقلّبَ جثةً هامدة على جميع جهات جسده حسب الجهة التي طالته فيها القذيفة، وتناثرت أشلاؤه على الحيطان، ودفنوه أول مرة وثاني مرة وللمرة الخمسين وبقي يستقبل كل موت جديد بما يناسبُه من المشاعر، ويعود إلى الحياة فوراً. المقتول يتلقى ضربات القاتل بلا عددٍ وكل مرّة بتخريجةٍ مختلفة وهو مشبَع بفكرة أنها ضربة الحياة لا الموت ومقتنع بأنها لن تُميتَه مهما كانت، ومهما طالت في الوقت، ومهما عنُفَت. والقاتل يُمَني النفس بأنه سيستطيع تحقيق المستحيل. فما هو تفسير ما يجري؟ علِم النفس وعلم الاجتماع وكل علم يمكن أن يقودك، في تقديري، إلى ترجمة واحدة للواقع هي اليأس. اليأس من القتل واليأس من الموت. لا القاتل مقتنع أنه سيميتُ المقتول، إلّا تبعاً لآيات قال إنها وردت في كتابه المقدّس. ولا المقتول سيقتنع أن باستطاعة القاتل أن يخترع آية ويطبقها كيفياً ومزاجياً. هو اليأس إذن. يَئس اليهودي من أنّ شعب الله المختار هو مختارٌ فعلاً إلّا للفساد والإفساد في الأرض. ويئس الفلسطيني من حب الحياة والموت معاً له. تجاربُ اليهود وخبراتُهم في بلاد الغرب على مدى سبعمئة عام بيّنَت (ولا يعترفون!) أنهم هم حقاً على هذه الصورة الوحشية في رؤية الدين والعلاقات الاجتماعية، والمباذل التي ارتَكبوها في تلك دول الغرب «حتّمَت» على الدول الخلاص منهم لترتاح شعوبها، وهكذا كان. ارتاحت شعوبهم ودخل السرطان اليهوديّ في الجسم العربي وفي الأرض العربية. وما زال منذ مئة عام على الأقل يمارسُ أوساخَه الفكرية والدينية والاجتماعية والسياسية بين ظهرانينا..

حربنا معه اليوم، في غزة، قد تكون وصلت إلى رسم خطوط أخيرة مِنْ «حلاوة الروح» على قولة المثل الشعبي. لم يبقَ لديه سلاح ساحق ماحق في بثّ أسباب الموت إلّا استخدمه بما فيه التلويح بالقنبلة النووية. ولم يبقَ للمقاوم في غزّة إلّا التصرف على أساس أننا نروح ونجيء ونعيش ونقاوم ونساعد بعضنا فإذا أُصِبنا في القصف ذهبوا بنا إلى القبر العاري أو إلى المستشفى العاري، وغيرنا سيكمل الحركة والبَرَكة. وهكذا. كأنه سباق بين عدد الصواريخ والقنابل في المستودعات اليهودية الضخمة التي لا نهاية لها وعدد سكان غزَة. ولن نستغرب إحصاءً قد يصدر من تل أبيب عن إن عدد القذائف الاحتياطية لديها قد أصبح (بفضل البوارج والحاملات) أكثر من ثلاثة ملايين قذيفة، أي ضعف عدد سكان غزّة، أي أن قذيفتين لكل غزّاوي ومع ذلك... لا يموتون!

سيصل اليهودي إلى هذه النتيجة. وبات الموعد قريباً. انكشفت كل الأوراق العربية المُهَلهِلَة أمام إسرائيل التي تعرف جيداً أن لا عرَب يريدون قتالها، وتأكّدت وتلمست أن أمامها غزّة وفلسطين وبيروت فقط، فقط لا غير، والحرب هنا، هنا قيمة أن توصل عدوّك إلى اليأس من قوّته لأن يأسك من الموت في مواجهته أقوى.
هذا في غزّة. أمّا عندنا في لبنان فهناك معركة من نوع آخر بل حرب شعواء يتولّاها بعض التلفزيونيين/ ات، الذين يركزون في مقابلاتهم على أن التدمير (الذي يستبِقونَه!) المقبل على البلد في الحرب سيكون أكبر من طاقتنا على الصمود والمواجهة، والحرب لا أتت ويبدو أنها لن تأتي، لكنهم يريدون البكاء من الآن معتبرين أنه لا شيء على الإطلاق يجيزُ تدمير لبنان على أهله كما تهدّد إسرائيل، ويتحدثون كمن هو في بطن الحوت!
عجيب أمر هؤلاء كيف يستدعون الحيف والخراب والرثاء والشحاذة قبل حصولها، ويريدون أجوبة عنها من الآن. وأغلب هذه الأسئلة توجّه إلى إعلاميين قريبين من المقاومة لإحراجهم بدمار وشلل وبلد على قارعة الطريق!
ربما كان السائلون صغاراً على المثَل الذي سأعطيه. فحين قادَ زعيمهم بشير الجميّل الجيش الإسرائيلي إلى بيروت، عام ١٩٨٢ متعاوناً معه في الوصول إلى رئاسة الجمهورية، هل كان اجتياح إسرائيل لمدن لبنان وقراه وتطويق عاصمته بيروت وتكبيدها أشنع أنواع التنكيل بقطع الخبز والماء والكهرباء والوقود بعد آلاف الشهداء ومئات آلاف الجرحى.. هل كانوا يومها مع الاجتياح لأنه خالٍ من القتل والتدمير.. والكولسترول، أم لأن الهدف السياسي من الاجتياح هو وصول الجميّل إلى الرئاسة وإخراج الفلسطينيين بالقوة، ولو تم ذلك بهدم البلد على رؤوس ساكنيه وبِرَصْف جماجم نصف اللبنانيين إكراماً لطريق الجميّل إلى الرئاسة!
نبشُ القبور عادة الجبناء، لكن ماذا تفعل مع الذي لا يرعوي إلّا إذا نبَشتَ له قبراً... للتذكير!

تابعوا آخر الأخبار من icon news على WhatsApp تابعوا آخر الأخبار من icon news على Telegram

نسخ الرابط :

(يلفت موقع “iconnews ” انه غير مسؤول عن النص ومضمونه، وهو لا يعبّر إلا عن وجهة نظر كاتبه أو مصدره)

:شارك المقال على وسائل التواصل الإجتماعي

 

Telegram