قلتُ له، بعد خروجه من السجن في “إسرائيل” ونفيه إلى خارج وطنه المحتل: كيف أمضيت أيامك في السجن؟ كنا على مائدة صديقي سركيس أبو زيد في باريس، برفقة عدد من الأصدقاء، إحتفاءً بمطران القدس، إيلاريون كبوجي.
لم يجب. لم يلتفت إليَّ وأنا قربه. صمتٌ ثم ثرثرة حول المائدة. سألته مرة ثانية. أجاب من رؤوس شفتيه: لم أكن في السجن. ذُهلتُ. ما هذا الجواب؟ لذتُ بصمت وتقبلت لكمة صمته، إلى أن علا صوته قليلاً وقال: أنا لم أكن في السجن. كنت في كنيستي الصغيرة، أمارس مسؤولياتي، تجاه إلهي، وتجاه شعبي. أقيم القداس الصباحي. أتناول جسد المسيح. ثم ألبس ثيابي كمطران للقدس، وأمضي لزيارة عائلة أو عائلتين. زيارة الرعية واجب يومي، كنت عندهم ومعهم.. وكان هذا مسار كل يوم. وانتهى إلى القول: أنا يا صديقي لم أكن سجيناً أبداً.
قلتُ: ولكنهم حاكموك وحكموك، أنك هرّبَت أسلحة إلى الفلسطينيين. أجاب بحسم: غلط. أنا أقوم بما يُملي عليَّ إيماني، وما يمليه عليَّ المؤمنون. السلاح لمواجهة العدو، مسألة إنجيلية. المسيح استعمل العنف عندما احتل التجار والصيارفة باحة الهيكل. وطردهم وسمّاهم “أولاد الأفاعي”. قال لهم: “بيتي بيت صلاة وقد جعلتموه مغارة للصوص”.
قلتُ: ولكنهم حاكموك وحكموك، وكان الحكم حكم قضاة.
قال: أنا لم أكن في محكمة. دليلي أني لم أخاطبهم. وقفت كمطران القدس. رفعتُ هاتين اليدين إلى ربي، وشكوت له ما يحصل في فلسطين. سمعتُ من يود أن أصلي لشعبي. الصلاة لشعبي هي أن أعيش عذاباتهم وسجونهم واستشهادهم وتضحياتهم. رفضتُ أن يميل رأسي إلى المنصة. ذهبتُ بعيداً. كنت في الأعالي، أخاطب ربي وحبيبي يسوع. قوس المحكمة كان خلفي. أنا حكمت عليهم بأنهم قتلة.
الحقيقة، أن المطران كبوجي قام بواجبه الديني: الدفاع عن المظلومين والمضطهدين. الغريب أن “إخوته” من الرتب الكهنوتية العالية، تخلوا عنه، بل لاموه وانتقدوه. البعض نبذه. لم يكن يهمه ذلك. الأيقونة التي تُزيّن صدور “الطبقة الدينية الرسمية”، لا تشبه أيقونته. المسيح عنده فلسطين، وهو المصلوب فيها، وقيامته بإزاحة حجر الاحتلال (الموت في الإنجيل)، وقيامة الوطن.
أمضى سنواته في السجن. خرج قوياً. كأنه خرج من الجبهة إلى استراحة المحارب مؤقتاً. أفدح ما ارتكبته القيادة الدينية، أنها قبلت بأن لا يعود إلى فلسطين أبداً. وأن ينأى عنها في منفى بعيد. حكم لم يلتزم به المطران إيلاريون كبوجي.
ارتاح في منفاه. عذابه في وحدته. قرّر أن يعود إلى فلسطين. مارس يومياته، كما مارسها في سجنه. ظل يطوف في أنحاء القدس، ثم حمل القدس وفلسطين، وطاف بهما حيث كانت تطأ أحلامه في إيجاد نبض إنساني، على إيقاع الشهادات التي يُسجّلها مياومون بدمهم.
الفاتيكان مشغول بأمور كثيرة. يسمع ما يُقال ولا يقول شيئاً عن فلسطين.
زملاؤه في الرتبة المطرانية، كانوا مشغولين جداً. لديهم ترف التناسي وفضيلة الانغماس باليوميات. لا ذكر له في موعظة، في ندوة، في لقاء، في رسالة. كأنه لم يكن، ولا هو كائن.
لم ينهكه المنفى. وجد وسيلة لكسر الحظر عليه. من دون استئذان أحد. زار عواصم ذلك الزمن، تلك التي كانت فلسطينية، ولو ادعاءً. من روما، إلى باريس، إلى دمشق، إلى طهران.. ثم إلى محاولة عبوره المتوسط، للعودة عبر السفينة إلى شواطئ “الأرض المقدسة”.
كيف كانت علاقته بالمؤسسة الدينية؟ هو لم يسئ إليها. يعرفها جيداً. منذ ولادته في سوريا، كان مساره كمسيحي من أحباء المسيح. المسيح نموذجه. وعلى خطاه مشى. كان يعرف أن صليبه من صلب المسيحية. تعلّق به. بلغته رسائل من مرجعيات “دينية” وسياسية كان مضمونها: “قعود عاقل“. لم يرتكب الإستقالة من المسيح الفلسطيني وفلسطين.
المسافة بينه وبين المؤسسات الكاثوليكية مديدة ومستحيلة. تناساهم، وهم صمتوا عنه وعليه. لم يعامل كأسقف، ثم لم يُعامل كمؤمن. كثر الكلام ضده. إزداد صلابة وتعلقاً بمعلمه يسوع. عاش جلجلته برجاء قيامة فلسطين: ثم.. إنتقل إلى ربه راضياً مرضياً.
هنا كانت المفاجأة. حضرت الجثة. أدخلوها الكنيسة وبدأت الصلاة الجنائزية. كنت أتوقع حضوراً رهبانياً على الأقل. لم أجد… أو حضوراً إخوانياً. عبث. كنا ما يقارب الخمسين فقط. ذهلت. توقعت أن أختنق بالحشود. فاجعة. الصلاة جافة. المبخرة خرساء. خدمة الصلاة ركيكة. كأنه كائن ما، لم يعرفه أحد. والأغرب أن “محبي فلسطين” في لبنان، والمؤسسات الفلسطينية، بلا ذاكرة. بيروقراطية وبيانات ومزايدات. كان هذا عيباً. المطران كبوجي، قبل أن يكون مسيحياً أو مطراناً، كان فلسطينياً وظل كذلك.
السؤال: لماذا وكيف يحصل ذلك؟ الأسباب دينية؟ لخلاف على عقيدة كاثوليكية؟ لارتكاب خطايا مميتة؟ للخروج عن الدين والإنجيل؟ بفقه إيماني جديد؟
لا.. ثم ألف لا.
الخلاف سياسي. الكنيسة لها سياساتها، وتصونها من كل خروج عليها. الكنيسة غربية الهوى. غربية السياسة. أيعقل أن تكون “أرض بلاد يسوع المقدسة”، بريئة من أي صلاة تُتلى. فلسطين، ليست في الأجندة الحبرية أو البابوية. الكاثوليك الملتزمون بالكنيسة يُطيعونها ولا يخالفونها.
إيلاريون كبوجي خالف تلك الكنيسة. الأصل فلسطين، والجلجلة فلسطين، والقيامة لفلسطين، مهما طال الزمن.
الخلاف بين المطران والكنيسة ليس دينياً. هو خلاف سياسي. وبسبب هذا الخلاف، ارتقى المطران كبوجي إلى منصة النسيان. ارتاحت الكنيسة منه. طائفته تبرّأت منه. ولم يبقَ منه، إلا حفنة من جسده، تشبه تراب فلسطين.
ثلاثة في قافلة واحدة. ياسر عودة، لأنه تجرّأ على تحويل منبره، إلى منصة محاكمة للفساد والمُفسدين. خافوا منه، وخفنا عليه. رفض المساومة. قال: أنا باقٍ في صراطي المستقيم. ولكم أن تقتلوني لأصمت.. إننا نخاف عليه.
المطران غريغوار حداد، خذلوه. أهملوه. تناسوه. دفعوه إلى المجهول. رسالته الإجتماعية هي السبب في خلافه مع طغمة “آلهية الميل”. المسيح عاش فقيراً. تلامذته كذلك. هذا ماضٍ مضى. لذا، عادوا إلى تفعيل قافلة الأتباع. أقنعوها أن السياسة ركن من أركان الدين، من دون إعلان ذلك.
مطران القدس، ما زال حياً يرزق. أبناؤه على نهجه. لا تصالح مع العدو. اللغة الوحيدة هي لغة المقاومة. والثروة الوحيدة، هي ثروة الدماء التي عندما يطلبها الوطن تجدها. وها هي كذلك، والعدو مشغول بنزاعاته.
خلاصة القول: الخلافات الدينية، هي دائماً خلافات سياسية. لا تُصدّقوا الفوارق المذهبية. هذه من صنع الحاجة إليها، وليست وحياً يُوحى أو أوحي من قبل.
رجاءً: إحفظوا هذا “الثالوث المقدس”. شيخ ومطرانان.
أما بعد. فالمسيرة الفلسطينية إلى فلسطين، دين حقيقي، يكتب بالشهادة. فاشهد أيها الشعب. قال شاعر نسيت اسمه: “لا تلمني يا إلهي. أصبح الشعب إلهاً”. لا وحي أقوى من وحي المقاومة. أفضل الحجيج إليها، لأنها تنبض بالحق. فإسرائيل ماضية إلى حتفها.
تابعوا آخر الأخبار من icon news على WhatsApp تابعوا آخر الأخبار من icon news على Telegramنسخ الرابط :