راقصة بوتين أو "جاسوسته" في لبنان

راقصة بوتين أو

 

Telegram

 

ليل 7 – 8 أيلول الجاري، كان المطار العسكري في قاعدة حميميم الروسية على الشاطئ السوري، على موعد مع مهمّة استثنائية.
وصله أمر العمليات من الكرملين مباشرة. ومن المرجع الأعلى هناك. فبدأ فوراً الإعداد للتنفيذ. جُهّزت بسرعة طائرة نقل من طراز Il-76MD تابعة للسرب 224 من سلاح الجوّ الروسي. وهو السرب الخاضع لعقوبات أميركية مباشرة على قيادته وعديده لشبهة قيامه بنقل عتاد عسكري فتّاك استُخدم في سوريا.
بعد قليل وصل الطرد الاستثنائي المطلوب شحنه. كان قد تمّ نقله من شمال لبنان بعناية فائقة. حُمّل على متن الطائرة الروسية. وأقلعت مباشرة إلى سانت بطرسبورغ.
هناك، في اليوم التالي، أعلنت إدارة القسم البيطري في المدينة أنّ الشحنة الواصلة لتوّها، صالحة للدخول. وهي كناية عن حصانين (قصيرَي القوائم - Pony) وكلبين من نوع بوكسر وبضعة حيوانات أليفة أخرى.
الخبر ليس مزحة ولا نسج خيال. بل تكمنُ خلفه قصة انتقال غريبة وشبه سرّية، لوزيرة خارجية النمسا السابقة، كارين كنايسل، من لبنان إلى روسيا.
قصة تملأها الأسرار والألغاز وأخبار الألسنة السيّئة... وهو ما يجعلها تستحقّ الرواية.

وسائل الإعلام الغربية ضجّت بالخبر بعد نحو أسبوع. اختصرته بفكرتين اثنتين: وزيرة نمساوية سابقة مؤيّدة لبوتين، كانت دعته إلى حفل زفافها وراقَصته، قرّرت الانتقال نهائياً إلى روسيا، فوضَع الرئيس الروسي بتصرّفها طائرة عسكرية لنقل حيواناتها الأليفة.
لكنّ الحقيقة أكثر تعقيداً من تلك الرواية التبسيطية. ففيها سؤالان بارزان على الأقلّ:

لماذا غادرت تلك الوزيرة بلادها فعلاً؟

ولماذا كانت مقيمة في لبنان بالذات، وبشكل شبه خفيّ أو مجهول، كمجرّد امرأة مغمورة؟

حول السؤال الأوّل اكتفى الإعلام الغربي بما يشبه الكليشيه: كارين كنايسل، أستاذة جامعية وباحثة نمساوية. عُيّنت في كانون الأول 2017 وزيرة للخارجية من ضمن وزراء "حزب الحرّية" اليميني المتطرّف. معروفة هي بمواقفها المؤيّدة للرئيس الروسي. حتى إنّها دعته إلى حضور حفل زفافها الذي شاركته فيه رقصة "فالز" أنهتها بانحناءة مفرطة كادت تلامس السجود له، وهو ما أثار عاصفة ضدّها.

بعدها قيل أيضاً إنّ هديّة بوتين للوزيرة لمناسبة عرسها كانت زوجاً من الأقراط بقيمة تناهز 50 ألف يورو. وهو رقم كافٍ لمزيد من الضجّة والسخط والتحريض.
هكذا أوحت صيغة الإعلام الغربي بأنّ ابتعاد كنايسل عن بلدها الأمّ، جاء نتيجة تقرّبها من سيّد الكرملين، بعبع أوروبا اليوم، خصوصاً بعد حرب أوكرانيا.

التدقيق في الوقائع

لكن مهلاً! فلندقّق في الوقائع. حفل زفاف السيّدة الوزيرة كان صيف 2018. بعض المصادر حدّد تاريخه في نيسان من ذلك العام. مصادر أخرى تؤكّد أنّه كان في 18 آب من العام نفسه. وبالتالي يومها لم تكن في أوكرانيا حرب، ولم يكن قد نشأ عداء لبوتين بعد.
حتى إنّ كنايسل غادرت النمسا نهائياً في أيلول 2020. أي قبل الحرب بنحو سنة ونصف. فهل كانت يومئذٍ في فيينا "روسوفوبيا" (ظاهرة الكراهية لروسيا) قادرة على طرد المفكّرين ونفي أصحاب الرأي المختلف؟
لا تنتهي المفارقات عند هذا الحدّ. تكشف كنايسل في كلام رسمي على موقعها الإلكتروني أنّها اضطُرّت إلى مغادرة بلدها بعد تعرّضها لتهديدات بالقتل. وبعدما سُدّت بوجهها فعليّاً كلّ أبواب العمل وبشكل كامل.
غريب! فمن يقدر على فعلٍ كهذا في قلب النمسا الحيادية النموذجية في ديمقراطيّتها وسلميّتها وحداثتها؟
المهمّ، انتقلت كنايسل في أيلول 2020 إلى جنوب فرنسا. بعدما كانت قد تركت المنصب الوزاري في أيار 2019. وللتذكير، لا حرب أوكرانية بعد أيضاً. لكن فوجئت هناك بتعرّضها لسلسلة مضايقات عجزت عن مواجهتها. مُنعت بداية من فتح حساب مصرفي. ثمّ تمّ التضييق على معاملات إقامتها. والأهمّ استمرّ حصارها المهني. ودائماً بذريعة لاحقة أنّها مؤيّدة لبوتين.
لكنّ جميع الذين عرضوا لمعاناة تلك السيّدة، أغفلوا حادثة بسيطة أو أسقطوا تفصيلاً عابراً في سيرتها الوزارية، كناظرة للدبلوماسية النمساوية. ذلك أنّها أواخر عام 2017، قيل إنّها أدلت بحديث انتقدت فيه الكيان الصهيوني. وقيل إنّها شبّهت ارتكاباته ضدّ الفلسطينيين بممارسات النازية... كلام مختصر. لم يتوقّف عنده أحد. إلا أنّ نتانياهو أعلن على أثره مقاطعة حكومته للوزيرة. فصارت "منبوذة" السياسة والدبلوماسية والإعلام والأكاديميا في كلّ أوروبا. حتى إنّها يوم قرّرت مغادرة جنوب فرنسا، كتبت صراحة: "أنا مضطرّة إلى مغادرة أوروبا. حيث ما من بلد يقبل استقبالي".
كان ذلك بعد سنة ونيّف من "المعاناة الفرنسية". خلالها انفجرت حرب أوكرانيا. واندلعت مشاعر الروسوفوبيا جدّياً عندئذٍ. والسيدة النمساوية الصلبة لا تخفي انتقادها للغرب في تلك الأزمة. أكثر من ذلك، كانت في آذار 2021 قد تمّ تعيينها عضواً في مجلس إدارة شركة النفط الروسية "روزنفت". وذلك لمدّة سنة. جاء تاريخ 24 شباط 2022 وبدأ هجوم بوتين على "جاره المنشقّ المتمرّد"، فازدادت مشاكل كنايسل الفرنسية والأوروبية. حتى قرّرت في أيار 2022 الانتقال من جنوب فرنسا إلى قلب جبل لبنان.
بضعة أشهر في منزل مؤقّت في قرية من أحد أقضية جبل لبنان الجنوبي. قبل أن تنتقل في أواخر تشرين الأول من عام 2022، إلى منزل ومزرعة في قرية شمالية. حرصت هي، كما كلّ أصدقائها، على كتمان العنوانين، كما على كتمان السيرة الكاملة للمقيمة الضيفة، حفاظاً على هدوء حياتها واستقرارها في القريتين، كسيّدة متقاعدة شغوفة بالطبيعة والحيوانات.
في لبنان ذكرت كنايسل أنّها عانت صعوبة أيضاً في الحصول على إقامة قانونية. وهو أمر قال معنيون إنّه من صلاحيات وزارة الخارجية اللبنانية لا مديرية الأمن العامّ، نتيجة الصفة الدبلوماسية المستدامة للوزيرة السابقة. لكنّها استقرّت لاحقاً مع حيواناتها كافّة: الحصانين والكلبين تشرشل وجاكي (تيمّناً بالسيّدة كينيدي-أوناسيس) ومجموعة هررة وغيرها.

لكن لماذا لبنان؟

في الرواية الرسمية أنّ كارين "عادت إلى بلد الأرز". فهي كانت عاشت فيه بعضاً من طفولتها وشبابها. وتعلّمت اللغة العربية هنا. وكانت تلميذة في إحدى جامعاته. وعاشت فترة في الأردن، حيث كان والدها يعمل قبطان طائرة في الخطوط الجوّية الأردنية. وهو ما سمح لها بتعلّم اللغة العبرية في إحدى جامعات إسرائيل، تماماً كما تجيد نصف دزينة من اللغات الأخرى.
في الرواية شبه الرسمية أنّ كنايسل عرفت حبّها الأوّل في لبنان، مع زميل جامعي لم يُذكر عنه شيء لاحقاً، علماً أنّ زفافها الذي حضره بوتين سنة 2018، كان من رجل نمساوي، وعلماً أيضاً وأيضاً أنّها طوال إقامتها اللبنانية لم يظهر هذا الزوج معها قطّ!

أنشطة سرّيّة

في روايات منسوجة ومكتومة، عن سبب اختيارها للبنان، يقول أصحاب ألسنة السوء إنّ الطالبة الجامعية كنايسل، في بيروت الثمانينيات، تعرّفت على الكثيرين من "دبلوماسيّي" العاصمة اللبنانية في تلك الحقبة، يوم كانت بيروت، كما هي أبداً ربّما، مسرحاً مفتوحاً لأنشطة "الدبلوماسية السرّية". وبينها طبعاً أنشطة موسكو السوفيتية. يوم كان الرفيق بوتين ضابطاً نشيطاً في جهاز المخابرات السوفيتية "كي جي بي".
فهل كانت الشابّة النمساوية مرصودة من قبل أجهزة موسكو منذ ذلك الحين؟ أم كان هناك أكثر من رصد أحاديّ الجانب، وصولاً نحو شيء من معرفة أو تعاون، وهو ما سهّل عليها تلقائياً، خيار العودة إلى لبنان، تمهيداً لانتقالها النهائي؟!
سؤال يظلّ مُلك الألسنة الخبيثة، حيث لا جواب ولا معطيات.
الأكيد أنّ آخر صورة التقطتها كنايسل لها في مزرعتها الشمالية، كانت في 4 تموز الماضي. فيما بدت منذ مطلع آب مقيمة بشكل دائم في قرية بتروشوفو الصغيرة، على بعد 300 كلم شرق موسكو.
هناك، يُفترض أن تكون قد ارتاحت الأستاذة الباحثة الأكاديمية السياسية الناقدة وغير المنضبطة، في "بلدها الثالث" روسيا. حيث تسلّمت إدارة معهد بحثيّ جديد، اسمه "المرصد الجيوسياسي لمسائل روسيا المفصليّة".

تبقى ملاحظتان على الهامش:

الأولى أنّ زعيم "حزب الحرّية" النمساوي الذي سمّى كنايسل ضمن حصّته الوزارية، ظلّ عرضة للحملات الإعلامية. حتى نُشر له شريط مصوّر سُجّل خلسةً، وهو برفقة شابّة جميلة بثوب مثير، يتمّ التعريف عنها في الشريط، على أنّها ابنة شقيق أحد أوليغارك موسكو الجدد (أو مليارديرات النظام الجديد). وهو يعِدها بمنح عمّها عقوداً والتزامات ومقاولات في النمسا، مقابل دعمه الماليّ لحزبه. وهذا الأمر كان كافياً للقضاء عليه سياسياً، لكن تبيّن لاحقاً أنّ الملياردير الروسي المقصود لا ابنة شقيق له.
الملاحظة الثانية أنّ زوج الأقراط الأسطوري، هديّة بوتين لكارين لمناسبة زفافها، أودعته لدى الحكومة النمساوية. تماماً حسب الأنظمة التي تعتمدها تلك الدول للهدايا الرسمية. وهو ما لم تخالفه كنايسل أبداً.
على موقعها الإلكتروني تستهلّ كنايسل صفحتها باستشهاد للفيلسوف سينيكا يقول فيه: "أفضّل أن أواجه الاعتراضات وأنا أقول الحقيقة، على أن أنال الرضى بواسطة الإطراء".

تابعوا آخر الأخبار من icon news على WhatsApp تابعوا آخر الأخبار من icon news على Telegram

نسخ الرابط :

(يلفت موقع “iconnews ” انه غير مسؤول عن النص ومضمونه، وهو لا يعبّر إلا عن وجهة نظر كاتبه أو مصدره)

:شارك المقال على وسائل التواصل الإجتماعي

 

Telegram