خلف قضبان سجون لبنان أنين وصرخات مرضى محرومين من حقهم بالرعاية الصحية، بعد توقف الأطباء عن زيارتهم لمعاينتهم وتشخيص حالتهم وتحويل من هم بحاجة منهم إلى المستشفيات لإجراء الفحوص المخبرية وصور الأشعة والعمليات الجراحية.
ورغم مفارقة عدد من النزلاء الحياة، لم تحرّك السلطة اللبنانية ساكناً لإنقاذ من لا يزالون يصارعون المرض من دون علاج.
الشهر الماضي استسلم عدد من السجناء للموت، والثلاثاء الماضي عمّت حالة من الغضب داخل المبنى (ب) في سجن رومية بعد تدهور صحة سجين، من دون وجود طبيب للكشف عليه، وإحالته إلى المستشفى، كي لا يلقى مصيراً مشابهاً لمرضى غيره استسلموا للموت نتيجة عدم تلقي العلاج.
وبحسب منظمة العفو الدولية، تضاعف عدد الوفيات في الحجز في خضم أزمة اقتصادية مستمرة منذ 4 سنوات، من 14 وفاة في ،2015 إلى 18 في 2018 و34 في 2022، معتبرة أن هذه الأرقام يجب أن تكون جرس إنذار للحكومة اللبنانية بأن السجون بحاجة إلى إصلاح عاجل وهائل، وبأن عليها "إعطاء الأولوية بصورة مُلحّة لصحة السجناء".
ومنذ بداية الأزمة الاقتصادية، تقاعست الحكومة اللبنانية، بحسب ما أوردت منظمة العفو في تقرير نشرته في يونيو الماضي "عن تسديد فواتير المستشفيات المتعلقة بعلاج المحتجزين، مما أدى إلى رفض العديد من المستشفيات قبول المرضى الوافدين من السجون أو اشتراط دفع مبلغ مالي مقدماً، حتى في الحالات التي تتطلب علاجاً طارئاً، مما يشكل انتهاكاً للقانون اللبناني. وبحسب الأرقام التي أطلعت وزارة الداخلية المنظمة عليها، أُدخل 846 محتجزاً إلى المستشفى في 2018 و107 فقط في 2022".
وفي حين ينص القانون اللبناني على أن وزارة الداخلية مسؤولة عن تقديم الرعاية الصحية لجميع الأشخاص الذين تحتجزهم، تبين لمنظمة العفو الدولية أن سلطات السجون تطلب من العائلات دفع تكلفة العلاج لأقربائها، بما في ذلك في الحالات التي تحتاج إلى علاج طبي طارئ.
استهتار خطير
منذ حوالي شهرين وسجناء لبنان من دون أطباء، لاسيما نزلاء سجني رومية وزحلة، بحسب ما تؤكده نائبة رئيس جمعية لجان أهالي الموقوفين، رائدة الصلح، شارحة لموقع "الحرة" أن "رفض الأطباء المتعاقدين مع قوى الأمن الداخلي زيارة السجون، يعود إلى كون البدل المادي الذي يحصلون عليه لا يكفي بدل تنقلات إلى السجن، إذ يعادل ستة دولارات عن كل يوم".
وفيما يتعلق بأطباء الأسنان، حتى لو توفّر أحدهم، بحسب الصلح "فإنه يقتصر خدماته على خلع الضروس بعد تأمين المريض ثمن حقنة البنج، فلا يتعب نفسه في العلاج، ومن يتمكّن من السجناء من حجز دور عنده يكون إما ذي نفوذ في السجن أو لديه وساطة، أما صيدلية السجن فخالية من معظم أنواع الأدوية".
وتضيف "في ظل ارتفاع درجات الحرارة تنتشر حالات الاسهال ونتيجة قلة الغذاء يحتاج معظم السجناء إلى فيتامينات، كما أن المياه لا تصل إلى سجن رومية لأكثر من ساعة يومياً".
ومنذ الأزمة الاقتصادية بدأت مستشفيات لبنان تعاني، كما يقول مدير مركز سيدار للدراسات القانونية، المدافع عن حقوق الانسان، المحامي محمد صبلوح، من نقص طاقمها الطبي، بعدما هاجر عدد كبير ومن الأطباء للعمل خارج وطنهم، فازدادت الأوضاع الصحية في السجون سواء، في وقت لا تقوم السلطة السياسية بواجبها تجاه السجناء ولا تضع قضيتهم بين أولوياتها، وأكبر دليل على ذلك أنه رغم العدد الكبير لسجناء رومية لا يوجد مستشفى ميداني فيه، ولا حتى عيادة للحالات الطارئة، وغالبية الأطباء المتعاقدين مع إدارة السجون من دون خبرة.
قانوناً، الأطباء المتعاقدون مع إدارات السجون ملزمون، كما يقول صبلوح لموقع "الحرة"، "بالحضور لمعاينة السجناء، لكنهم يتحججون بتآكل قيمة راتبهم، فيتم غض البصر عن مخالفتهم القانونية، رغم أنهم يغامرون بحياة المرضى، ومن يتحمّل مسؤولية ذلك أولاً وزارتي الداخلية والدفاع ثم الحكومة فوزارة الصحة التي يقع على عاتقها الإشراف على العيادات الطبية في السجون ومتابعة سير العملية الصحية".
ويشدد "على وزير الصحة عدم التهرب من المسؤولية والقيام بالدور المطلوب منه"، لكن مدير العناية الطبية في الوزارة أكد لموقع "الحرة" أن لا علاقة لوزارة الصحة بطبابة السجون بل وزارة الداخلية، مضيفا أنه "من الخطورة الاستهتار بالوضع الصحي في السجون، خاصة من يحتاج من السجناء الى عمليات جراحية، من هنا إيجاد الحلول لهذه القضية أمر ضروري، وأبسطها تكمن في فرض نقابة الأطباء على كل طبيب المناوبة مرة في الشهر في سجن محدد".
تحذير
جمعيات عدّة تحاول مدّ يد العون للسجناء، من بينها جمعية "نضال لأجل الإنسان" التي أكدت رئيستها ريما صليبا أن "وضع الطبابة في السجون لامس منذ ما يزيد عن السنة الخط الأحمر، وقبل شهرين تخطاه، المعاناة كبيرة منها تأمين فواتير المستشفيات التي أصبحت تفرض الدفع مسبقاً وبالدولار قبل إعطائنا الإذن بنقل أي سجين إليها، في وقت لا يمكن لكافة الجمعيات أن تحل مكان السلطة السياسية في هذه المهمة، نتيجة العدد الكبير للسجناء، ففي سجن رومية وحده ما يزيد عن الـ3700 سجين، كما أن الموازنة المخصصة لقوى الأمن الداخلي لا تسمح لهذه المديرية بتحمّل كل هذه الأعباء".
"الملف الاستشفائي في لبنان على مقربة من الارتطام الكبير"، لاسيما بحسب صليبا "في ظل رفض العدد الأكبر من الأطباء الوفاء بقسمهم وتأدية رسالتهم الإنسانية كونهم المؤتمنين على حياة الناس، إذ نواجه رفضاً من غالبيتهم بالحضور إلى المستشفيات لمعاينة السجناء قبل التأكد من تأمين بدل معاينتهم الذي لا يقل عن 50 دولار، ومن دون أن تضع إدارات المستشفيات حداً لجشعهم".
فرضت الظروف الراهنة على الجمعيات "غربلة" المرضى من السجناء، بمعنى تأمين طبابة واستشفاء الحالات الخطرة أولاً ثم الأقل خطورة، أما وزارة الصحة فتتحجج كما تقول صليبا "بعدم قدرتها على تقديم المزيد لإنهاء هذه المعاناة، رغم أن عدم تلقي المريض للعلاج يؤدي إلى تدهور وضعه الصحي ومن ثم الوفاة، وبدلاً من تسريع المحاكمات للتخفيف من اكتظاظ السجون، فإن القضاء لا يتحمّل مسؤولياته وذلك على عكس القوى الأمنية التي تقوم بدورها على أكمل وجه".
وما يزيد الطين بلّة، بحسب الصلح، أن "المحاكمات وإخلاءات السبيل كلها مؤجلة إلى ما بعد العطلة القضائية، مما يعني المزيد من الاكتظاظ والامراض".
وتؤكد أن "الوضع كارثي، ليس فقط في سجن روميه المركزي، بل في جميع السجون والمخافر والنظارات المكتظة بالموقوفين، ومن ليس لديه معيل يموت جوعاً وعطشاً ومرضاً، والمعاناة لا تقتصر فقط على السجناء، بل تمتد كذلك إلى عناصر وضباط قوى الأمن، الذين يعيشون أوضاعاً مادية صعبة مع تراجع قيمة رواتبهم وتضخم الأسعار وبدلات النقل، في وقت يعملون كل ما في وسعهم لمساعدة السجناء ضمن القدرات المتاحة لهم".
وليست الرعاية الصحية المشكلة الوحيدة في سجون لبنان، بل كما سبق أن أشار وزير الداخلية والبلديات، بسام مولوي، هناك 3 مشكلات "أولها الاكتظاظ، حيث بلغت نسبة المساجين 323% من القدرة الاستيعابية إضافة إلى مشكلة الطبابة والتغذية"، كاشفاً في مؤتمر صحفي عن وجود أكثر من 8000 سجين، من ضمنهم 20.9 بالمئة فقط من المحكومين، أي أن هناك 79.1 بالمئة في السجون اللبنانية غير محكومين.
وطالب مولوي، باتخاذ إجراءات ضرورية لحل مشكلة اكتظاظ السجون منعاً لتدهور الأمور، مضيفاً خلال رعايته ومشاركته في ورشة عمل عن واقع السجون "نسعى إلى تأمين المتطلبات الملحة لسجون لبنان التي تواجه تحديات الاكتظاظ، ويعاني نزلاؤها، بسبب نقص الموارد المادية، من تراجع حاد في الخدمات الطبية والاستشفائية نظراً لمحدودية المبالغ المخصصة لذلك في الموازنة وانهيار قيمة الليرة اللبنانية مقابل الدولار".
وانخفضت القيمة الحقيقية لميزانية وزارة الداخلية المخصصة لتقديم الرعاية الصحية إلى السجناء من 7.3 مليون دولار في 2019 إلى حوالي 628 ألف دولار في 2022، ونتيجة لذلك، لا يوجد عدد كاف من الموظفين في السجون، وتفتقر صيدلياتها إلى الأدوية الأساسية مثل المُسكّنات والمضادات الحيوية، بحسب ما ورد في تقرير منظمة العفو الدولية.
وللتخفيف من وطأة الاكتظاظ، لفت مولوي إلى أنه تقدم باقتراح قانون لتخفيض سنة السجن إلى ستة أشهر، آملاً من النواب إقراره في أقرب وقت، ومن القضاة "سرعة البت بطلبات إخلاء السبيل وتسريع المحاكمات".
"أعذار واهية"
يعجز 93 بالمئة من اللبنانيين عن تسديد كلفة الطبابة والاستشفاء، بحسب ما سبق أن أعلنه مدير "الدولية للمعلومات" جواد عدرا، في تغريدة عبر حسابه على "تويتر"، وسبق أن أشارت لجنة الأمم المتحدة الاقتصادية والاجتماعية لغربي آسيا (إسكوا)، في تقرير أصدرته في سبتمبر من العام الماضي إلى أن نسبة الأسر المحرومة من الرعاية الصحية ارتفعت إلى 33 في المئة كما ارتفعت نسبة الأسر غير القادرة على الحصول على الدواء إلى أكثر من النصف.
وفي ظل الظروف الصعبة التي يعيشها السجناء على كافة الأصعدة "تتوالى حالات الانتحار في السجون اللبنانية وحالات الوفاة المُبهمة الأسباب"، كما سبق أن ذكر النائب ملحم خلف، في منشور عبر مواقع التّواصل الاجتماعي، في مايو الماضي، مشيراً إلى أن "مسؤولية إدارة السّجون تقع مباشرة على وزارة الداخلية، المطلوب منها فوراً توضيح ماذا يحصل في داخلها! وهل الحدّ الأدنى من معايير حقوق الإنسان مؤمّنة"؟
قضية عدم توفّر الأطباء داخل السجون، قيد المعالجة، بحسب مصدر مسؤول في قوى الأمن الداخلي، أكد في حديث لموقع "الحرة"، "توافر أطباء من قوى الأمن ومنظمة الصحة العالمية في السجون خلال الفترة الصباحية، وبعد الظهر يتابع أطباء قوى الأمن الحالات المرضية، وعلى مدار الساعة يتوافر ممرضون" ويشدد "نقوم بأقصى ما يمكن، لكن بلا شك هناك أمور خارجة عن ارادتنا".
وبعد أن ألقت السلطات اللبنانية باللوم عن تدهور صحة السجناء على الأزمة الاقتصادية، و3 حالات وفاة في الحجز على الأقل حدثت في 2022، بحسب تقرير منظمة العفو الدولية، أكدت نائبة مديرة المكتب الإقليمي للمنظمة في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، آية مجذوب، أن الأزمة الاقتصادية "ليست عذراً تسوقه سلطات السجن من أجل حرمان السجناء من الحصول على الأدوية، أو إلقاء كلفة الاستشفاء على كاهل عائلات السجناء، أو تأخير نقل السجناء إلى المستشفيات".
وينبغي على القضاء، بحسب ما شددت مجذوب، إجراء "تحقيق سريع ونزيه في كل حالات الوفاة في الحجز، ويجب معالجة أي تقصير وإهمال من جانب السلطات، بما في ذلك – بحسب مقتضى الحال – من خلال مقاضاة المسؤولين عن ذلك".
تابعوا آخر الأخبار من icon news على WhatsApp تابعوا آخر الأخبار من icon news على Telegramنسخ الرابط :