حدّثني الكاهن الذي عرّفه - للأديب القومي الإجتماعي سعيد تقيّ الدين

حدّثني الكاهن الذي عرّفه -  للأديب القومي الإجتماعي سعيد تقيّ الدين

 

Telegram


خطاب لم يُلقَ. أُعد ووُزّع مناشير في ليل 8 تموز. استجوبني الأمن العام بشأنه في اليوم التالي. ودخل السجن بسببه عشرات الشبان. ولكنّه بعد ذلك، صار يلقى علناً وينشر في الصحف.
تلقّاني صبيان الحي بصراخ الهزء حين ترجّلت، وراح أحدهم يتباهى مذيعاً أنّ التاكسي اسمها فورد، وأعلن ترب له أنّ لونها رمادي، فيما ضجّ جمهورهم بإخباري، قبل أن أسألهم، أن الكاهن ليس هناك. بل إن أحدهم تسلّق السلم وفتح باب العلّية من غير أن يطرقه ثم أطل من نافذتها ضاحكاً: "أرأيت؟ إنه غير موجود".
ذلك لأنّ شياطين الحيّ الصغار صاروا يعرفون عمّن اسأل وأصبح يروقهم أنّي لا أجد من أفتّش عنه. ولعلّهم لمحوا من تذمّري ومن خيبتي ما استثار فيهم الساديّة، فجاء جذلهم على نسبة ما تجلّى عليّ من زعل وضياع أمل.
فلقد كانت تلك المرة الرابعة التي قصدت فيها إلى رجل الدين لأستطلعه السرّ الرهيب.
وفي المرة الخامسة توجّهت إليه ليلاً وعلى موعد، فكان هناك. وحالاً أمّحت من ذهني صورة رسمها خيالي، فلم أجد نفسي أمام شيخ متداعٍ أبيض اللحية، ولم أسمع صوتاً متهدجاً، ولا صرعتني مظاهر الوقار وكلمات أبوة، وجلسنا تحزّ مسامعي توافه الأحاديث التي تعوّد الناس مبادلتها فور اجتماعهم. وطالت النزهة الكلامية على شاطئ الموضوع، وبرّح بي القعود على عتبة باب جئت لأفتحه، فوثبت إلى الهدف مقاطعاً المحدثين قائلاً: حدّثني يا محترم عن ليل 8 تموز 1949.
وغاظني من رجل الدين أنّه لم يتلبّس حالاً بمظاهر التهيّب، بل بدأ الكلام، بشيء من غير الاكتراث. ولكنّ صوته ولهجته وخشوعه وانفعاله بل وبكاءه، كلّها تماوجت مع وقائع ما كان يرويه، فكأنّه عبقري يعزف من موسيقاه قطعة رائعة على البيانو. فدغدغت أنامله أصابع العاج أوّلاً بعفوية لا تبالي، وتوالت الألحان تتأرجح وتتسامى متجانسة متضاربة متوافقة حتّى بلغت ذروة موسيقى من غير هذه الدنيا. فإذا نحن في العلّية نكاد لا نسمع ما يقول، ولا نرى البيانو ولا اللاعب ولا نعي الألحان. بل شعرنا أنّ جدران الغرفة انفتحت وارتفعت أرضاً بمن فيها، فإذا نحن و "سعاده" في السجن، في الكنيسة، في المقبرة، في حفرة من الأرض، في مسمع الدنيا، بين المغتربين، في القصور، في المحكمة العسكرية، في المفوضيات، في غصّة القلوب، في عبسة المغاور، في لوعة المعاقل، في رصانة التهذيب، في هدوء البطولة، في عزّة الصراع، بين يدي الكبر، أمام الجلادين، في طمأنينة المؤمن، في كهف الغدر، حراب تطارد المجرمين، أعلام تصفّق للجيوش، زوبعة تمحق، وصرخة تعكس موكب التاريخ.
وتناول رجل الدين ورقة من مطاوي جلبابه الأسود الفضفاض منتزعة من دفتر مدرسي، وهم بقراءتها، فاعترضته وقلت: اسمعني حديثك لا تقرئني أوراقك، ولو كانت مذكرات.
فراح يتكلم:
حين فتحت الباب على صوت القرع الشديد في منتصف ذلك الليل، وجدت نفسي أمام ضبّاط من الجيش يطلبون إليّ أن أرتدي ملابسي وأحمل صليبي وعدّة الكهنوت بسرعة. قلت: ما الخبر؟ أجابوا: "سنعدم أنطون سعاده هذه الليلة. ونريد أن تعرّفه وتقوم بمراسم الدين قبل إعدامه".
قلت: "إن أمراً كهذا لا يسعني أن أفعله، آتوني بإذن من سيادة المطران، هكذا ينصّ قانونناً الكنائسي". قالوا: "ليس لدينا من وقت، إفعل هذا على مسؤوليتنا نحن". فاعتذرت من جديد. وراحوا يلحّون عليّ مردّدين أن خرق النظام الكنائسي هو أقل ضرراً من أن يرسل مسيحي إلى الموت غير متمّم واجباته الدينية.
وأخيراً أذعنت بكثير من التردّد والحيرة، وركبت سيارتهم في طرقات تعجّ برجال الأمن من جنود وبوليس ودرك وأسلحة مشرعة، وأطللنا على سجن الرمل، فإذا هو مُنار من الداخل والخارج، ونزلنا حيث كان ضبّاط آخرون بانتظارنا .
وأقبل عليّ مدير السجن يعرفني إلى نفسه، وأخبرني أن هذا هو الإعدام الثالث عشر الذي مرّ به، وأنّ الأمر بسيط فأجبته: "لقد مضى عليً ثلاث عشرة سنة في الثوب الكهنوتي، وهذا أول إعدام سأشهده" وكان الطبيب الذي اشترك معنا في الحديث مثلي، لم يشهد إعداماً في ما مضى.
وزاد مدير السجن فقال: "إن هذا المحكوم الخائن انطون هو رجل خائن، وكافر ملحد يبشر بالكفر والإلحاد، إنّه لن يأبه لك يا أبانا هذا الخائن الملحد الكافر".
ودخلنا حيث كان الزعيم، في حبس من الغلوّ نعتُه أنّه غرفة، فوجدناه مفترشاً بساطاً من قذارة ورُقع، وكان هذا الفراش أقصر من قامته، فجعل من جاكيته وصلة بين الفراش والحائط كي لا ترتطم به قدماه.
وكان نائماً نوماً طبيعياً، ورأسه على ذراعه اليسرى التي جعل منها بديلاً عن مخدة لم تكن هناك.
وأيقظناه فنهض حالاً، وبادرنا السلام، وخصني بقوله: "أهلاً وسهلاً يا محترم" فأبلغناه أنه لم يصدر عنه عفو وأن الإعدام سينفذ به حالاً . فشكرنا باسماً رزيناً، واستأذن بلبس جاكيته التي كانت مطوية تحت قدميه، فأذنوا له، فشكرهم من جديد، ولبسها.
وخلوت به، وسألته إن كان يودّ أن يقوم بواجباته الدينية، فأجاب: لمَ لا؟ وطلبت إليه أن يعترف، فأجاب: "ليس لي من خطيئة أرجو العفو من أجلها، أنا لم أسرق، لم أدجّل، لم أشهد بالزور، لم أقتل، لم أخدع، لم أسبب تعاسة لأحد".
وبعد أن فرغت من المراسيم الدينية، تركنا الغرفة فكبّلوا يديه، وخرجنا إلى مكتب السجن.
هناك طلب أن يرى زوجته وبناته، فقيل له ذلك غير ممكن، وقدّموا له ترويقة فاعتذر شاكراً، ولكنّه قبل فنجان القهوة متناولاً إياه بيمناه وأسنده بيسراه، وكانت تسمع للقيد رنّات كلّما ارتطم بالفنجان.
وكان الزعيم يبتسم صامتاً هادئاً مجيلاً عينيه من وجه إلى وجه وكأنه يودّعنا مهدّئاً من روعنا. هنا انفجرت أنا بالبكاء، وبكى معي بعض الضبّاط، بل أنّ أحدهم أجهش وانتحب.
وبعد أن شرب القهوة، عاد يصرّ على لقاء زوجته وبناته، فسمع الجواب السابق.
وسئل لمن يريد أن يترك الاربعماية ليرة التي وجدت معه، فأجاب أنها وقطعة أرض في ضهور الشوير هي كلّ ما يملك، وهو يوصي بها لزوجته وبناته بالتساوي.
وطلب مقابلة الصحافيين، فأخبروه أنّ ذلك مستحيل، فسألهم ورقة وقلماً، فرفضوا، فقال: "إنّ لي كلمة أريد أن أدوّنها للتاريخ". فصرخ به أحد الضباط مُنذراً: "حذار أن تتهجّم على أحد، لئلا نمسّ كرامتك"، فابتسم الزعيم من جديد وقال: "أنت لا تقدر أن تمسّ كرامتي، ما أُعطي لأحدٍ أن يهين سواه، قد يهين المرء نفسه"، وأردف يكرّر: "لي كلمة أريد أن أدوّنها للتاريخ، وأن يسجلها التاريخ" .
فسكتنا جميعاً، في صمت يلمس سكونه ويسمع دويه.
أصارحك أنني كنت في دوار من الخبل، ومن المؤكد أنني لا أعي كلّ ما سمعت، ولكن الراهن أني سمعته، سمعته يقول: "أنا لا يهمني كيف أموت، بل من أجل ماذا أموت. لا أعدّ السنين التي عشتها، بل الأعمال التي نفّذتها. هذه الليلة سيعدمونني، أمّا أبناء عقيدتي فسينتصرون، وسيجيء انتصارهم انتقاماً لموتي، كلنا نموت، ولكنّ قليلين منّا يظفرون بشرف الموت من أجل عقيدة. يا خجل هذه الليلة من التاريخ، من أحفادنا، من مغتربينا، ومن الأجانب، يبدو أن الاستقلال الذي سقيناه بدمائنا يوم غرسناه، يستسقي عروقنا من جديد".
ومشينا إلى حيث انتظرنا السيارات، والزعيم ماشٍ بخطىً هادئة قوية يبتسم، إنّه لم ينفعل، كأنّ الإعدام شيء نُفّذ به مرات عديدة من قبل. إنّه لم ينفجر حنقاً أو تشفّياً. أنّه لم يتبجّح شأن من يستر الخوف.
في تلك اللحظة وددت لو خبّأته بجبّتي، لو تمكّنت من إخفائه في قلبي أو بين وريقات إنجيلي. إنّ عظامي لترتجف كلما ذكرته .
وحين خرجت إلى الباحة رأيت إلى يميني تابوتاً من خشب. من خشب الشوح لم يُخْفِ الليل بياضه. وتطلّع الزعيم إلى نعشه فلم تتغيّر ملامحه ولا ابتسامته.
وقبل أن يرقى الجيب، طلب للمرّة الثالثة والأخيرة أن يرى زوجته وأولاده. وللمرّة الثالثة والأخيرة، سمع الجواب نفسه. فتبينت ملامحه، وفي تلك اللمحة العابرة فقط من عمر ذلك الليل لمحت وميض العاطفة خلال زوبعة الرجولة.
وسارت الجيب بالزعيم يحفّ به الضباط وخلفه تابوته، وقافلة سيارات وشاحنات من ورائه وأمامه ملأى بالجنود المسلحة. ولعل مسّاً من البَلَهِ اعتراني، فبدا لي أن تنفيذ الإعدام سيؤجّل، أو أنّ عفواً سيصدر. سيطر عليّ هذا الوهم فخدّرني، حتّى انحرفنا عن الطريق العامّة إلى درب ضيّقة بين كثبان. ووقفنا في فجوة بين الرمال كأنها فوهة العدم .
وقفز من بينهم، مكبّلاً، إلى عمود الموت المنتظر، فاقتربوا منه ليعصبوا عينيه، فسألهم أن يبقوه طليق النظر، فقيل له: "القانون".
أجاب: "إنّني أحترم القانون".
وأركعوه وشدّوا وثاقه إلى العمود. وكأنّ الحصى آلمته تحت ركبته فسألهم إن كان من الممكن إزالة الحصى، فأزالوها، فقال لهم: "شكراً، شكراً"، ردّدها مرتين، وقطع ثالثتها الرصاص .
فإذا بالزعيم وقد تدلّى رأسه وتطايرت رئته، وتناثرت ذراعه اليسرى، فلم يعد يصل الكف بالكتف إلا جلدة تتهدل.
وكوّموا الجثّة في التابوت، وتسارعت القافلة نحو المقبرة، وهناك كادوا يدفنونها من غير صلاة لو لم يتعالَ صياحي. أخيراً قالوا لي: "صلِّ ، إنّما أسرع، أسرع، صلّ من قريبو".
ودخلنا الكنيسة، ووضعنا التابوت على المذبح، ورحت اصلّي، والدم يتقطّر من شقوق الخشب، ويتساقط على أرض الكنيسة نقاطاً نقاطاً، ليتجمّع ويتجمع ثم يسيل تحت المذبح.
وخرجنا من المعبد، ووقفت أمام بابه أواجه الفجر الذي أطلّ وأُناجي الله، وأسمع رنين الرفوش ترتطم بالحصى وتهيل التراب، وترتطم بالحصى وتهيل التراب.
بذا حدّثني الكاهن الذي عرّفه.
أقول لك إن تراب الدنيا لم يطمر تلك الحفرة.
أقول لك إن رنين الرفوش في ذلك الفجر سيبقى النفير الداوي ليقظة هذه الأمة. أقول لك أن منارة الحياة قد ارتفعت على فوهة العدم.

| لمتابعة أهم وأحدث الأخبار انضموا إلينا عبر قناتنا على واتساب (channel whatsapp) .اضغط هنا

تابعوا آخر الأخبار من icon news على WhatsApp تابعوا آخر الأخبار من icon news على Telegram

نسخ الرابط :

(يلفت موقع “iconnews ” انه غير مسؤول عن النص ومضمونه، وهو لا يعبّر إلا عن وجهة نظر كاتبه أو مصدره)

:شارك المقال على وسائل التواصل الإجتماعي

 

Telegram