لم يلتئم بعد جرح القوات اللبنانية الذي خلّفته نتائج الانتخابات النيابية الأخيرة في بشرّي. منذ 17 عاماً، «يلعب» الحزب في هذه المنطقة وحيداً، حيث «لا يجرؤ المنافسون»... إلى أن تمكّن وليم طوق، ابن عمّ النائبة ستريدا جعجع، من اختراق الحصن القواتي واحتلال الكرسي النيابي الثاني في المنطقة. خرق آخر، ليس أقل إيلاماً، سجّله دخول ائتلاف «شمالنا»، عبر المرشح القواتي السابق رياض طوق، طرفاً ثالثاً إلى المدينة بنيله نحو 10% من أصوات المقترعين، ما نغّص على القوات حلاوة الفوز في غالبية الأقضية الأخرى.
ففي «العقيدة» القواتية، يعادل مقعدا بشري كل مقاعد المجلس. وسيطرة خصم على أحدهما يعني أن الخطر قرع الأبواب، وأنه لم يعد في إمكان «الست ريدا» الاسترخاء، خصوصاً مع نائب خدماتي نشيط ومرشح ينتمي إلى ائتلاف شبابي يحمل الخط السياسي نفسه. لذلك، تسعى ستريدا إلى تشديد الطوق المحكم منذ سنوات على كل مفاصل المدينة، ويساعدها في ذلك إرجاء الانتخابات البلدية. الحزب الذي يأخذ على خصومه تحالفاتهم مع «أنظمة شمولية»، لا يقلّ شمولية عندما يتعلق الأمر بمسقط رأس «الحكيم». هنا، كل مؤسسة عامة أو خاصة هي مركز حزبي: البلدية واتحاد البلديات ورابطة المخاتير والتنظيم المدني ومصلحة المياه ومخافر الدرك والهيئات العدلية الممثّلة بالقضاء وصولاً إلى اللجنة المؤتمنة على التراث في وادي قنوبين والجمعية المؤتمنة على حفظ غابة الأرز ولجنة مهرجانات الأرز. وضمن هذا السياق، لا يمكن أن تكون «لجنة جبران خليل جبران الوطنية» خارج جيب ستريدا.
لكنّ سفن بشري تعاند أحياناً الأهواء القواتية. ففي 11 الجاري، كان مقرّراً انتخاب هيئة إدارية جديدة للجنة جبران مؤلّفة من 15 عضواً. إلا أن ستريدا قرّرت فرض فوز لائحة تدعمها بالتزكية، عبر إلغاء رئيس اللجنة الحالية جوزيف فنيانوس ترشيحات 4 من مرشّحي اللائحة المنافسة، ما أدّى إلى اعتبارها غير موجودة وإعلان فوز لائحة «نحو المئوية الثانية… ليبقى جبران» المدعومة من القوات بالتزكية. وفيما كان فنيانوس يتحضر لإعلان فوز اللائحة القواتية الأسبوع الماضي، باعتبار الأمر «مفروغاً منه»، جاء قرار المحكمة الابتدائية في طرابلس بواسطة القاضية كاتيا العنداري ليوقف تنفيذ القرار بعد طعن عدد من مرشحي اللائحة المنافسة فيه.
جبران في خدمة سمير
أساساً، «لجنة جبران الوطنية» هي جمعية خيرية أُسست منذ أكثر من 100 عام عملاً بوصية جبران خليل جبران، على أن تضم ممثلين اثنين عن كل من العائلات السبع: طوق، رحمة، جعجع، كيروز، فخري، سكر وشدياق. وإحدى مهمات اللجنة الأساسية تنفيذ وصية جبران بتخصيص كل إيرادات كتبه ولوحاته والمتحف الخاص به لخدمة طلاب بشري وفقراء المدينة. وللمفارقة، كانت اللجنة تقدّم في بداية السبعينيات منحاً للطلاب للدراسة في جامعات خاصة، وكان سمير جعجع أحد الذين استفادوا من منحة قدّمتها اللجنة له لدراسة الطب في الجامعة الأميركية في بيروت.
ولأن جبران خليل جبران نفسه «قواتي» على ما يبدو، تتدخل القوات في انتخابات اللجنة التي تجري كل أربع سنوات، ويقترع فيها الناخبون كما يقترعون في الانتخابات البلدية. فلائحة «نحو المئوية الثانية… ليبقى جبران» برئاسة فادي حكيم رحمة أُطلقت من معراب، في 29 آذار الماضي، وألقت ستريدا كلمة يومها أعلنت فيها دعم القوات للائحة.
وبحسب مصادر مرشحين في لائحة «كاملة رحمة» (والدة جبران) المنافسة، بدأت محاولة تهريب الانتخابات وتأمين فوز اللائحة القواتية بالتزكية منذ اللحظة الأولى التي دعا فيها رئيس اللجنة الحالية إلى إجراء الانتخابات، إذ لم تُنشر إعلانات كما يقتضي النظام في الساحات العامة وعلى جدران الكنائس والمدارس الرسمية، كما سُجّل تناقض في مواعيد تقديم الترشيحات. وفي اليوم الأخير للترشح، توجّه أعضاء اللائحة لتقديم ترشيحاتهم، فتم اختراع أعذار لعدم قبول الطلبات باعتبار أن بعضهم كان قد تقدم بترشيحه وسحبه ثم قرّر الترشح مجدداً. الضغوطات شملت اتصالات من جعجع نفسه ببعض المرشحين (كنصري طوق وميريام جعجع) لثنيهم عن الترشح، ما أحدث إرباكاً في صفوفهم. ومع وصول المرشحين إلى متحف جبران خليل جبران لتقديم الطلبات، لاحظوا وجود حزبيين لا مبرر لوجودهم، قبل أن يرفض رئيس اللجنة طلبات ترشيح ثلاثة منهم، هم نصري طوق وميريام جعجع ودانيال شويري، وكتابة استقالة رئيسة اللائحة رندة شدياق والتوقيع عنها رغم أنها لم تنسحب أو تتراجع عن الترشيح. الإطاحة بـ4 أعضاء من أصل 11 أبقت على 7 أعضاء فقط لا يشكلون وفق القانون لائحة (8 أعضاء على الأقل). والمفارقة أن قرار رئيس اللجنة باستبعاد خصوم القوات جاء، كما ذكر في تقرير أعدّه بنفسه، غداة اجتماع عبر تطبيق «واتساب» حضره 11 عضواً من الهيئة الإدارية من أصل 15، عارض 3 منهم قرار عدم قبول الترشيحات، لكنّ الجميع وافقوا على أن يوقّع بالنيابة عنهم.
كل مؤسسة عامة أو خاصة هي مركز حزبي: البلدية واتحاد البلديات ورابطة المخاتير والتنظيم المدني ومصلحة المياه ومخافر الدرك والهيئات العدلية...
مصادر اللائحة المنافسة تؤكد أن 3 من أعضاء اللجنة الحالية لديهم مصلحة مباشرة بالإطاحة بهم لأن لديهم صلات قرابة مباشرة بمرشحين على لائحة القوات. أضف إلى ذلك أن عضوة في اللجنة سقطت عضويتها بعد زواجها من خارج المدينة وشطب قيدها من بشري، ما يعني أن القرار برفض الترشيحات ساقط قانوناً لعدم توفر الغالبية. رغم ذلك رفض رئيس اللجنة أي نقاش مع أعضاء لائحة «كاملة رحمة»، وأعلن فوز لائحة القوات بالتزكية.
في غضون ذلك، تقدّمت رئيسة اللجنة رندة شدياق بدعوى لإبطال قرار منعها من الترشح، كما تقدّم نصري طوق ودانيال شويري بدعوى مماثلة أمام المحكمة الابتدائية في طرابلس الناظرة في قضايا الجمعيات. وأصدرت المحكمة قراراً قضائياً يقضي بوقف تنفيذ قرار اللجنة المطعون فيه، وبالتالي وقف الانتخابات التي كانت مقرّرة في 11 حزيران. ولدى محاولة إبلاغ القرار القضائي رئيسَ اللجنة، امتنع عن تبلّغه فتُركت له الأوراق على المكتب في مركز اللجنة. وجرت محاولة للهروب من القرار القضائي عبر تسجيل محضر إعلان فوز لائحة القوات بالتزكية الإثنين الماضي، إلا أن وزارة الداخلية التي كانت قد أخذت علماً مسبقاً بوجود نزاع قضائي وقرار وقف التنفيذ رفضت تسجيل المحضر. هكذا، عُلق فوز اللائحة القواتية إلى حين، رغم وجود تخوف من حصول ضغوطات لتثبيت الفوز بقوة النفوذ السياسي هرباً من انتخابات قد تترك ندوباً إضافية في حصن القوات.
ديمقراطية القوات
مصادر النائب وليم طوق تؤكد أنه سبق أن أبلغ كل من تواصل معه أثناء التحضير للانتخابات أنه لن يعمد إلى تأليف لائحة أو فرض أي مرشح، وأن لا فيتو لديه على أي شخص تختاره العائلات. رغم ذلك، هناك تأكيدات بأن بعض المرشحين مقربون منه. بدورها، تقول مصادر ائتلاف «شمالنا» إن من الطبيعي أن يرغب شباب يدورون في فلك الائتلاف بالترشح، خصوصاً أنهم ناشطون اجتماعيون ومن أصحاب الاختصاص في الأدب والمسرح والسينما. إلا أنها أكدت أن الائتلاف لم يتدخل بشكل مباشر رغم اعتراضه، بصفته فريقاً ناشطاً في بشري، على قمع المنافسة. فـ«من حق البشراويين أن يتنافسوا على إرث جبران خليل جبران ديمقراطياً».
في اتصال مع رئيس اللجنة الحالية جوزيف فنيانوس، أحال «الأخبار» إلى بيان صادر عنه منذ نحو أسبوع على صفحة اللجنة على «فايسبوك» يشير فيه إلى أنه «بالتنسيق مع النائبة ستريدا جعجع وفاعليات المدينة، آثرنا عدم التمديد للجنتنا أسوة بالتمديد الذي أقرّه مجلس النواب للبلديات إيماناً منا بالديمقراطيّة ومبدأ تداول السلطة في مجتمعنا، وإفساحاً بالمجال أمام من يختاره البشراويون لتولي هذه المسؤوليّة». إلا أنه «في اليوم الأخير للترشيح، حضر شخصان وتقدّما بطلبات ترشيح لـ11 مرشحاً… وقد لفتنا منذ اللحظة الأولى اختلاف الخط بين تعبئة الطلب والإمضاء، وساورتنا الشكوك بأن أصحاب الطلبات لم يقوموا شخصياً بتعبئة طلباتهم بحسب ما ينص عليه القانون الداخلي… لتصلنا بعدها ثلاثة كتب تتضمّن تراجعاً عن الترشيح. والمفاجأة الكبرى كانت عندما قمنا بمقارنة تواقيعهم على كتاب الرجوع عن الترشيح بتواقيعهم على طلبات الترشيح التي قُدمت لنا عبر رحمة وكيروز، فوجدنا أنها غير مطابقة بتاتاً». بعد ذلك يقول الرئيس في بيانه إنه تسلّم «رسالة صوتية عبر الواتساب من مرشحيْن يطلبان عدم تسجيل عودتهما عن الترشح. «وبما أنني عاهدت نفسي منذ تولي رئاسة اللجنة أن أطبّق القانون بحرفيته، قمت بتسجيل الكتب في المحضر لأن ما يُطلب مني غير قانوني باعتبار أنني تسلّمت رسمياً كتب تراجعٍ عن الترشيح ويريدون مني تجاهل هذا الأمر، وكأنّ شيئاً لم يكن». وقال فنيانوس إنه فوجئ بتقدم مرشحين بدعوى قضائية نُشرت عبر مواقع التواصل الاجتماعي قبل تبلّغه بها رسمياً عبر المحاكمة، لذا «تابعت اللجنة عملها كما يجب والتأمت وأعلنت فوز» لائحة «نحو المئوية الثانيّة... ليبقى جبران» بالتزكية.
نسخ الرابط :