الرئيس فؤاد السنيورة في فترة تقاعُد. ليسَ تقاعُداً سياسياً، فحسب. إنه التقاعد المأزق. لا حياة للرجل بعيداً من الحالة الحريرية التي اشتغل مرات ومرات لوراثتها. هكذا أكدت المحطات. آخرها وأحدثها كانت الانتخابات النيابية التي تسوّل لأجلها دعماً عربياً مادياً ومعنوياً، حصل على فتاته.
أثبت السنيورة فشله في إنتاج حالة سياسية وشعبية تلغي اسم سعد الحريري وتسمح له بالتربع على عرش طائفة صارت «يتيمة». وبعد تمرده الفاشل على التسوية الرئاسية عام 2016 والسقوط المدوّي للائحته في معقل التيار الأزرق في بيروت في انتخابات 2022، ما عاد السنيورة مشروعاً «ربيحاً» للخارج. أما في الداخل، وتحديداً عند المستقبليين، فهو ليسَ من المغضوب عليهم فحسب، وإنما من المنبوذين. أقصى ما استطاعه في ذكرى اغتيال الرئيس رفيق الحريري زيارة ضريح الأخير قبل يوم إحيائها، مُستبقاً التجمعات الشعبية تفادياً للمواجهة.
محاولات رئيس الحكومة السابق بناء قلعته السياسية على أنقاض الحريرية لم تبدأ أخيراً. لا حينَ جرّب «أخذ» حصته من تيار المستقبل وخوض الانتخابات بشكل مستقلّ بعدَ قرار الحريري تعليق نشاطه السياسي، ولا حتى حين كانَ أول المعارضين والمعترضين على التفاهم مع ميشال عون. بل قبلَ ذلك بسنوات، سعى إلى هذا الهدف، واضعاً نصب عينيه «التركة» العربية والدولية التي استظل بها الحريري لفترة طويلة، وكانَ دائم البحث عمن يدعم رغباته في زعامة الطائفة السنية، من دون أن يفلح في ذلك. ثم أتت الانتخابات لتكرسّ هزيمة «مشروعه» وتفشّل انقلابه الذي شرِع في تنفيذه.
في الأصل، رفضت الدوحة التعامل معه بشكل مباشر، وأوعزت إلى بعض الجمعيات القطرية بإرسال الأموال له. بينما أوقفت الرياض دعمه نهائياً بسبب اليأس من وجود أي إمكانية لديه لإحداث فرق، بعدما وعدها بأن يكون خليفة الحريري في تيار المستقبل. علماً أن الدعم السعودي كانَ محدوداً جداً، تولاه السفير السعودي في بيروت وليد البخاري، ولم تكن المخابرات أو وزارة الخارجية السعودية معنية بنشاط السنيورة الانتخابي. أما الإمارات، وبحسب وثائق ديبلوماسية سرية اطلعت عليها «الأخبار»، فقدمت إليه عرضاً بشغل وظيفة في مركز دراسات مقابل 25 ألف دولار شهرياً، لكنه رفض السفر والإقامة هناك، طارحاً أن يعمل بصفة استشارية.
وتُفيد وثائق ديبلوماسية بأن رئيس الحكومة السابق طلب دعماً مالياً مباشراً من دول الخليج وقامَ بـ«جمع تبرعات» لتمويل الحملة الانتخابية للائحة «بيروت تواجه» التي رأسها خالد قباني في بيروت وأخفقَ أعضاؤها بالفوز، باستثناء فيصل الصايغ. وهو أرسل طلباً رسمياً إلى الحكومة الكويتية عبرَ سفارتها في بيروت، في 10 أيار 2022، لتقديم مساهمة مالية لدعم لائحة قباني التي «تعمل لبناء دولة قوية تحظى بدعم المجتمعين العربي والدولي». وأبلغ السنيورة الكويتيين أنه تلقّى دعماً غير كافٍ هو عبارة عن مليوني دولار من السعودية ومليونين وسبعمئة وأربعة وثلاثين ألف يورو من قطر لتمويل اللائحة.
بعدَ الانتخابات وإخفاقه في إطلاق مشروع سياسي خاص به، بدأت أعراض هذا الفشل تترجم انحساراً في نشاط السنيورة الذي يقتصر على المشاركة ببعض الندوات، واجتماع أسبوعي مع مجموعة «العشرين» التي تضم شخصيات من بينها: أحمد فتفت، عمار حوري، حسن منيمنة، راشد فايد، عارف العبد، رشيد درباس، مازن سويد، ربيع الدندشلي، بلال الحشيمي وجمال الجراح، ويبدو أقرب إلى «منسق» للأعمال السنية بشكل محدود على عكس نشاطه الموسع سابقاً والذي انقسم إلى شقين: التحريض على فعاليات لبنانية خلال لقاءات ديبلوماسية والتملق لبعض الدول بهدف «تبنّيه» سياسياً، كما تبيّن بعض البرقيات التي اطلعت «الأخبار» على نسخ منها.
اتهامات لبري وباسيل
أسهمت الاتفاقية التي وقعتها حكومة السنيورة عام 2007 (حين افتقدت إلى الميثاقية مع غياب وزراء حزب الله وحركة أمل والوزير يعقوب الصراف عنها) مع قبرص في إعطاء «إسرائيل» مساحة واسعة من المنطقة الاقتصادية الخالصة (قبلَ أن يستعيدها لبنان من خلال ترسيم الحدود البحرية جنوباً مع فلسطين المحتلة). وتبيّن الوثائق الديبلوماسية أن تلكَ الاتفاقية سمحت لإسرائيل باقتطاع جزء من الحقوق اللبنانية، بينما كانَ السنيورة مشغولاً بتوجيه اتهامات إلى حركة أمل والتيار الوطني الحر بالسعي إلى المحاصصة حول الثروات البحرية.
خلال لقائه السفير الأردني في بيروت نبيل مصاروة (19-7-2016) هاجَم السنيورة بشدة التفاهم بين الرئيس نبيه بري ورئيس التيار الوطني الحر جبران باسيل حول استخراج النفط والغاز، وقال عنه إنه «اتفاق ارتجالي»، مشيراً إلى أنه «بحاجة إلى تفاهم بينَ الجانبين على الحصص».
وفي إطار محاولة السنيورة الدفاع عن نفسه في مواجهة الاتهامات الموجهة إليه بالتفريط بحقوق لبنان في المنطقة الاقتصادية الخالصة، قال إن «الاتفاقية التي وقعتها حكومته عام 2007 مع قبرص حول حقوق النفط تضمنت مادة تشترط على الطرفين الإشعار والتشاور بعضهم مع بعض قبل البتّ بشكل نهائي مع طرف ثالث (المقصود بذلك إسرائيل) على تقاسم الحصص في المنطقة المعنية. وقد تمّ الابتعاد عن الحدود الإسرائيلية في الشمال والجنوب لدى إبرام الاتفاقية».
وفي برقية أخرى للسفير الأردني بتاريخ 11-7-2016، نقل عن أحد السفراء اللبنانيين أن «حكومة السنيورة كانت قد وقعت اتفاقاً مع حكومة قبرص لاستخراج النفط في منطقة مساحتها 860 كيلومتراً مربعاً، إلا أن قبرص تقاسمت المساحة مع إسرائيل من دون الرجوع إلى الحكومة اللبنانية»، لافتاً إلى أن «هناك انتقادات من سفراء عرب وديبلوماسيين لبنانيين لتسرع حكومة السنيورة في توقيع اتفاق» وقد وصفه السفير بـ «الغامض» إذ «لا يوجد فيه نصّ يتضمن العودة إلى لبنان عندَ تقاسم قبرص وإسرائيل للمساحة المشتركة بما يضيع على لبنان مساحات واسعة».
«للسعودية كل الحق في الغضب»
خلال لقاء آخر مع السفير الأردني في بيروت (22-2-2016) قال السنيورة حول قرار السعودية وقف المنحة المقدمة للجيش اللبناني إن «للسعودية كل الحق في الغضب والعتب، حيث شعرت بالخذلان والخيانة من المواقف اللبنانية»، معتبراً أن «الحديث عن وجود ضغوط مالية دفعت السعودية لاتخاذ القرار غير الصحيح». وقال إن «ما تمّ إيقافه هو الشق السعودي – اللبناني من المنحة، أما الشق السعودي - الفرنسي فلا يزال قائماً»، كاشفاً أن منحة «المليار الرابع» موجودة أساساً في لبنان ويتم الصرف منها بتوقيع ثنائي من قبل السفير السعودي في لبنان علي عواض العسيري والرئيس سعد الحريري وأنه تمّ إنفاق 700 مليون دولار منها، من دون تبيين أوجه صرفها. وأبدى السنيورة، بحسب محضر الاجتماع، اعتراضه الشديد على توقيت وطريقة إخراج القرار من قبل السعودية لأن «الصراع على السلطة بينَ ولي العهد وولي ولي العهد السعوديين ينعكس علينا في لبنان».
عرضت الإمارات وظيفة على السنيورة في مركز دراسات مقابل 25 ألف دولار شهرياً
وفي برقية أخرى للسفير الأردني (بتاريخ -10-2016) حول نتائج اجتماع سفراء دول مجلس التعاون الخليجي والرئيس السنيورة، قال إن «دول الخليج وعلى رأسها السعودية غاضبة جداً من مبادرات الحريري الأخيرة في لبنان، وإن الكويت قامت بمحاولات للتوسط بينه وبين السعودية. وتبيّن أن أسباب الموقف السعودي تعود إلى غضب ولي العهد السعودي آنذاك (محمد بن نايف) على الحريري لوصفه بن نايف بالسفاح، وكذلك للخلاف المالي بين الحريري ومحمد بن سلمان بخصوص مديونية شركة «سعودي أوجيه» التي بلغت 35 مليار ريال. ونقل عن السفير الكويتي أن وائل أبو فاعور مبعوث وليد جنبلاط إلى السعودية عادَ منها بانطباع يفيد بأنها ليست مع تحركات الحريري ونيته ترشيح العماد ميشال عون للرئاسة، وأنها تعتبر تحركات الحريري ابتزازاً للسعودية في هذه الظروف، في ضوء قانون «جاستا» الأميركي، والحرب في اليمن، والصراع مع إيران والأوضاع في سوريا.
البحث عن داعمين
خلال فترة الغضب السعودي على الرئيس الحريري كانَ السنيورة يبحث عن خيارات أخرى لدعم تطلعاته لزعامة الطائفة السنية، من بينها الإمارات العربية المتحدة والأردن. نقل عن السنيورة قوله إن «الإمارات هي الدولة الوحيدة التي كانت متنبّهة ولم تتعامل مع حكومة الرئيس نجيب ميقاتي، بخاصة بعدَ انقلابه على الحريري»، مُشيداً بكون الإمارات «في صدارة الدول المانحة للبنان حتى أنها أصبحت في مرحلة متقدمة على السعودية». وذلك وفقَ محضر للقاء السنيورة مع القائم بأعمال سفارة الإمارات في بيروت حمد الجنيبي (27-6-2013). وبعد انتقاده تحرك أحمد الأسير في صيدا، معتبراً أنه «إما غبي أو عميل لصالح حزب الله»، ذكر السنيورة أنه «حاول شخصياً أن يحول ضعف السنة في صيدا بعد مواجهات جماعة الأسير مع الجيش إلى انتصار معنوي من خلال طرحه للنقاط الأربع لحل الأزمة في المدينة». واعتبر السنيورة أن «عدو الطائفة واضح، ولكن هناك اختراق للطائفة السنية من قبل حزب الله وإيران ويساعدهم في ذلك عدد لا بأس به من أبناء وشخصيات الطائفة أمثال أسامة سعد وعبد الرحيم مراد، فهم صنيعة الرئيس بشار الأسد». واعتبر أن «الزعامة السنية غير موجودة في لبنان، مشيراً إلى انتقادات كثيرة لغياب الحريري عن البلد».
وفي لقاء السنيورة مع سفراء الدول العربية في بيروت، أفادهم بأن الطائفة السنية «مخترقة بالعديد من العملاء الذين يتعاملون مع حزب الله مقابل مبالغ مالية»، مشيراً إلى «الخطر الكبير الذي تشكل على لبنان واللبنانيين بإرسال حزب الله طائرة تجسسية إلى إسرائيل»، معتبراً أن «هذه الخطوة تعطي إسرائيل الذريعة بإعلان الحرب». وطلب السنيورة من السفير الإماراتي على هامش اللقاء نقل تحياته إلى وزير خارجية دولة الإمارات عبدالله بن زايد، وطلب عقد اجتماع مع السفير للتباحث في الشأن اللبناني وفي بعض المشاريع الخيرية التي تمولها المؤسسات الإماراتية في لبنان.
وفي تقرير رفعه السفير الأردني إلى وزير الخارجية (25-2-2015) حول محضر اجتماعه مع السنيورة، نقل عنه في سياق دعوته لتغليب الاعتدال على التطرف أن «القائد المؤهل والوحيد في منطقتنا هو جلالة الملك عبدالله الثاني بن الحسين المعظم لنسبه الشريف والاحترام والتقدير الذي يكنه لشخصه وللعائلة الهاشمية».
تابعوا آخر الأخبار من icon news على WhatsApp تابعوا آخر الأخبار من icon news على Telegramنسخ الرابط :