تزامن عرض وثائقي «حزب الله والتحقيق الممنوع» (Hezbollah: l›enquête interdite) في اليوم نفسه من وقوف كولن باول قبل عشرين عاماً أمام مجلس الأمن الدولي لإطلاق كذبة على العالم بأسره حول وجود أسلحة دمار شامل في العراق وتبرير الغزو الأميركي له، مستخدماً «أدلّة» اعترف هو نفسه بزيفها لاحقاً. هكذا، احتفلت القناة الفرنسية الخامسة مساء الأحد الماضي بالمناسبة، بعد الضجّة التي أثارها الوثائقي المذكور في الداخل اللبناني قبل العرض وبعده، نظراً إلى استخدام ملصقه الترويجي صورة انفجار مرفأ بيروت، بالإضافة إلى العنوان الذي اعتُبر أنّه يحمل معانيَ ورسائل ودلالات. ورغم نفي القائمين على العمل أيّ علاقة لتوقيت العرض بتطوّرات المشهد المحلّي، إلّا أنّه يأتي في سياق الحملة الإعلامية على كلّ من يعارض سياسة الإمبراطورية الأميركية، التي اشتدّت في لبنان في السنوات الثلاث الأخيرة ضمن باقة من عقوبات عمّقت الأزمة التي يمرّ بها. في كلّ الأحوال، أتى العرض هزيلاً مقارنةً بالحملة الترويجية
ضمن الشقّ المتعلّق بالحرب الإعلامية التي تقودها الولايات المتحدة، يمكن وضع وثائقي «حزب الله والتحقيق الممنوع» الذي عُرض على قناة «فرانس 5» قبل أسبوع. منذ الإعلان عن موعد عرض الوثائقي (مؤلّف من ثلاثة أجزاء عُرضت بشكل متتالٍ) على France 5، شارك عدد من السياسيين والإعلاميين و«المؤثرين» اللبنانيين في الترويج له على مواقع التواصل، وجميعهم من مناصري الغرب أو أيتام 14 آذار أو المتحوّلين أخيراً. هؤلاء روّجوا للوثائقي على أنّه «سيكشف الحقيقة» حول انفجار مرفأ بيروت في آب 2020، وهو ما توحي به طريقة تقديمه واللمحة التعريفية عنه. فوق ذلك، انتشر مقطع لمخرج العمل جيروم فريتيل في مقابلة مع قناة TV5Monde الفرنسية، حيث ادّعى أنّه أثناء تنصّت محقّقين أميركيّين وكولومبيّين على المحادثات الهاتفية لكارتيل كوكايين في كولومبيا، لاحظوا أنّ المهرّبين يتكلّمون العربية وليس هناك مَن يترجم لهم. وفجأة تبيّن أنّ أحد المحقّقين الأميركيّين من أصل لبناني تمكّن من تحديد اللكنة على أنّها لبنانية جنوبية، وهذا هو الدليل (غير المستند إلى أيّ وقائع مثبتة) الذي أوصلهم إلى ربط «حزب الله» بتجارة المخدّرات.
سرعان ما أتت الحملة المضادّة من مناصري المقاومة، ما استدعى هجوم قناة mtv عليهم في تقريرها الترويجي الذي بثّته في نشرة أخبارها المسائية قبل يومين من عرض الوثائقي. تحت عنوان أنّ الوثائقي «يؤرق مناصري حزب الله»، كالت معدّة التقرير يارا الهندي العظات حول عدم الحكم المسبق واحترام حرّية التعبير، بطريقة سفسطائية مبتذلة، كأنّ المكتوب لا يُقرأ من عنوانه. وفي نشرة أخبار LBCI المسائية قبل ساعات من عرض الوثائقي، أطلّت الصحافية والمخرجة المغربية صوفيا عمارة التي شاركت في إعداده، بعدما كانت قد ظهرت في تقرير mtv المذكور آنفاً. حرصت عمارة على انتقاد «الكاوبوي الأميركي»، قبل أن يتبيّن أنّ حرصها ذلك لم يكن إلا عتباً على «إدارة مكافحة المخدّرات» التابعة لوزارة العدل الأميركية بسبب عدم استمرارها في «مشروع كاسندرا» ضدّ حزب الله. وتابعت عمارة بأنّ المعلومات الواردة في العمل «متوافرة على غوغل»، وأجابت على سؤال حول تعرّضه للانتقاد بأنّ «الافتراءات لا تعني شيئاً»، مهدّدةً بأنّ «القناة الفرنسية ستعالج ذلك عبر القضاء اللبناني».
استمرّ عرض الوثائقي ثلاث ساعات، بما أنّ مدّة كلّ جزء من أجزائه الثلاثة تقترب من الساعة. لم يقدّم أيّ جديد، بل أعاد علك اتّهامات قديمة في قالب سينمائي يشبه إلى حدّ كبير إنتاجات نتفليكس الضخمة. بدأ بسرد حول الحرب الأهلية اللبنانية وظروف نشأة «حزب الله»، وأبدى «تفهّماً» لمشروعيّته حينها وصولاً إلى التحرير عام 2000 الذي عُرض أيضاً بشكل محايد إلى حدّ ما، وكذلك حرب تمّوز 2006، قبل أن «يسيطر» الحزب على الدولة بحسب الوثائقي. ولذلك يتحمّل هو مسؤولية انفجار المرفأ (كما ذُكر في نهاية العرض) وتعطيل التحقيق فيه. ما سبق قد يُسمع من أطراف لبنانيّين، لكنّ كلّ ما بعد ذلك كان بروباغندا أميركية بامتياز.
وكما زعم كولن باول قبل عشرين سنة عن وجود وثائق وتسجيلات صوتية ومعلومات مخابراتية، عارضاً أنبوباً ادّعى أنه يحتوي على عيّنة من أسلحة الدمار الشامل العراقية، قام وثائقي «حزب الله والتحقيق الممنوع» بعروض مماثلة، فوضع رسماً بيانياً يحمل أسماء أعضاء في الحزب، مستشهداً بمسؤولين في «إدارة مكافحة المخدّرات» ووزارة الخزانة الأميركية ووكالة الاستخبارات المركزية وعاملين لدى «معهد واشنطن لسياسة الشرق الأدنى»، والإثبات الوحيد هو عبر تصديق أقاصيصهم. كأنّ كلّ هؤلاء لا يكفون، أطلّ الوزيران السابقان مروان حمادة وأشرف ريفي برأسيهما، وأعادا تكرار الأسطوانة المشروخة نفسها منذ سنوات، بالإضافة إلى الصحافي فراس حاطوم والمخرجة مونيكا بورغمان، أرملة الناشط لقمان سليم. هكذا، ظهر عدد هائل من المعارضين لـ «حزب الله» الغربيين واللبنانيين مقابل استضافة يتيمة لنائب الأمين العام للحزب نعيم قاسم. واستضافة الأخير أتت من باب «رفع العتب» وادّعاء نقل وجهة نظر الطرف الآخر، رغم أنّ كلّ المرّات التي ظهر فيها قاسم كانت بعد دقائق طويلة من بخّ السموم الأميركية، فيما اقتصرت مداخلاته على «نفي» ما قيل؛ لم تُتّبع الأصول المهنية كما اتُّبعت في مقابلته الأخيرة مع موقع BreakThrough الأميركي. كذلك، ظهر رجل يدعى «أبو قاسم» قيل إنّه مقاتل سابق في صفوف الحزب، فواكبته الكاميرا بتجوّله في ضاحية بيروت الجنوبية، لكنّ ذلك لا يُعتبر «رأياً آخر» تماماً، خصوصاً بالنظر إلى كمّية المعلومات المضادّة، بل يمكن أن يعدّ حتى نوعاً من إسباغ الشرعية على ما يقوله الضيوف.
أعاد الوثائقي تكرار موضوع سلسلة تلفزيونية من إنتاج إسرائيلي عُرضت العام الماضي تحت اسم «نبوءة كاسندرا» (Cassandra›s Prophecy) وكانت من بطولة Jack Kelly وDaniel Glaser اللذَين ظهرا فيه، فتكلّم عن إطلاق «إدارة مكافحة المخدّرات» (DEA) قبل سنوات «مشروع كاسندرا» الذي تتبّع عملاً مزعوماً لحزب الله في تجارة المخدّرات في أميركا اللاتينية وغرب أفريقيا ثمّ بيعها في الأسواق الأوروبية والأميركية. وانتهى الوثائقي إلى أنّ الاتّفاق النووي بين إيران وإدارة أوباما عام 2015 عطّل مهمّة «إدارة مكافحة المخدّرات» بعد حصول صفقة بين الطرفَين حمَت الحزب، ويُظهر المعدّون كما مسؤولون سابقون في «الإدارة» تمّت مقابلتهم (مثل Jack Kelly وDerek Maltz) نقداً واضحاً للحكومة الأميركية وإدارة أوباما تحديداً، من باب العتب والندم على عدم استكمالهم مهمّتهم، ما ترك عمليّات التجارة جارية، على حدّ قولهم. ما قيل لا يستحقّ إعادة التدوير واستهلاك الصفحات من أجله، لأنّ لا مصدر واضحاً له سوى «اعترافات» الضيوف، أمثال David Asher الذي «اكتشف» المخدّرات المزعومة، وعميل الـ«CIA» السابق Robert Baer الذي قرّر أنّ «حزب الله قتل الحريري» من دون أن يخبرنا كيف عرف ذلك، رغم إيراد الوثائقي أنّ المحكمة الخاصّة بلبنان لم تأتِ بنتيجة تمكّنها من إدانة الحزب.
المعلومة الأكثر إثارة للجدل نطق بها مروان حمادة، إذ قال إنّ في مرفأ بيروت منطقة معروفة أنّها لحزب الله. مَن يعرف؟ لا نعرف، لكن بحسب حمادة، الجميع يعرف، فيما أخبرت مونيكا بورغمان قصّة عن تحدّثها مع عماد مغنية في حديقتها حيث طلب منها عدم تصويره لاحتمال إرسالها الصورة للأميركيين في مقابل مكافأة مالية. وقالت إنّها لم تعرف هوية مَن حدّثته إلّا بعد استشهاده. واتّفقت بورغمان مع مروان حمادة وأشرف ريفي على أنّ حزب الله هو وراء اغتيال زوجها. أُخذت المقابلات أيضاً من المسؤول السابق في وزارة الخزانة Daniel Glaser والباحث Mathew Levitte الذي يعمل في «معهد واشنطن لسياسة الشرق الأدنى» المعروف بأبحاثه حول المنطقة من وجهة النظر الصهيونية. ما سبق يعطي فكرة عن مصادر الادّعاءات.
استقى «الوثائقي» مصادر معلوماته من الـ«CIA» ووزارة الخزانة و«معهد واشنطن»!
أغلب ما ورد في الوثائقي حول علاقة حزب الله بالمخدّرات ليس جديداً، وهو كان موضوع بحث لمديرية الدراسات الاستراتيجية في «المركز الاستشاري للدراسات والتوثيق» قبل سنتَين تقريباً، تحت عنوان «تفكيك المزاعم الأميركية حـول دور حزب الله في أميركا اللاتينية». وفي عدده الأوّل الذي نشرته «الأخبار» (14 تموز/ يوليو 2021)، رصد نحو 100 جلسة استماع عقدتها لجان مختلفة في الكونغرس الأميركي بغرفتَيه بين عامَي 2005 و2018 تمحورت حول المزاعم الأميركية تجاه حزب الله في أميركا اللاتينية. يرد في البحث: «ما لوحِظ بعد التدقيق بخلفيات الذين تعاقبوا على شغل منصب رئيس لجنة الشؤون الخارجية في مجلس النواب وما يسمّى بــ«العضو المميّز» (زعيم الأقلية في اللجنة) فيها، أنّ الغالبية العظمى كانت إمّا يهوداً صهاينة، أو من اليمين الإنجيلي المتصهين المتمسّك بالدفاع عن مصالح «إسرائيل»، إلى درجة يمكن الحديث عن علاقة مباشرة بين شغل المنصب والانتماء الأيديولوجي». هذا بالإضافة إلى مناصب مصادر المعلومات، كما ذكرنا، في الـ«CIA» ووزارة الخزانة و«معهد واشنطن» وغيرها من الجهات التي لا يُتّكل على معلوماتها المدفوعة من اللوبي الصهيوني. في السياق، يرد اسم ماثيو ليفيت الذي استضيف في الوثائقي، في البحث المذكور آنفاً، حيث حضر تسع جلسات للكونغرس حول المزاعم الأميركية تجاه حزب الله في أميركا اللاتينية.
بعرض وثائقي «حزب الله والتحقيق الممنوع» تكون قد اكتملت المسرحية التراجيكوميدية اللبنانية، ببطولة أميركية وإخراج فرنسي.
تابعوا آخر الأخبار من icon news على WhatsApp تابعوا آخر الأخبار من icon news على Telegramنسخ الرابط :