مفهوم سعادة للدولة القومية الاجتماعية

مفهوم سعادة للدولة القومية الاجتماعية

Whats up

Telegram

بعد سقوط الاتحاد السوفياتي برزت الولايات المتحدة الأميركية قطباً وحيداً مهيمناً في العالم، وبدا لكثيرين أن نموذج دولتها “الديمقراطية الليبرالية”، هو النموذج المنتصر الواجب تبنيه من قبل سائر المجتمعات الانسانية.

انطلقت موجة العولمة المؤمركة، وازداد تدخل الدولة الأميركية في معظم الدول والمجتمعات الانسانية، وانتشرت قواعدها العسكرية وأساطيلها البحرية في كل زوايا الأرض، وشنّت الحروب بعناوين متنوّعة: حقوق الانسان، حماية الأقليات، محاربة الإرهاب، ونشر الديمقراطية.

نشر فرنسيس فوكوياما كتابه (نهاية التاريخ) يعلن فيه انتصار نموذج الدولة الديمقراطية الليبرالية، والأسواق الحرة.

إنَّ تاريخ أميركا الحالي والحديث لا يبشر بخيرات الديمقراطية، فبعد الحرب العالمية الثانية  تحالفت مع أشدّ الأنظمة تخلفاً ورجعية وديكتاتورية، ودعمت ولا تزال، أبشع الأنظمة الاستيطانية والعنصرية، وتتحالف الآن مع الحركات الدينية المتطرفة والتكفيرية وتسخرّها في خدمة سياساتها.

بعد الخيبات المتتالية من الحروب الأميركية وأزماتها المالية ومشاكلها الداخلية، ومع سيطرة الشركات المالية والصناعية والاعلامية الكبرى على القرار السياسي، هل يمكن اتّباع النموذج الأميركي والتباهي به؟! أليس من الأجدى إعادة النظر بديمقراطية الطبقة الرأسمالية المسيطرة في أميركا لتصبح ديمقراطية حقيقية في خدمة مجموع الشعب؟!

في كتاب ديمقراطية للقلّة، يُظهر المحلل السياسي مايكل بارنتي، التناقض بين الرأسمالية القائمة والديمقراطية، وكيف ينتهك النظام الرأسمالي الديمقراطية بشكل مستمر. ويكشف العلاقة القوية بين السلطة السياسية والقوى الاقتصادية.

ويجيب على الأسئلة الكاشفة لحقيقة الواقع الاجتماعي والسياسي في أميركا:

الذي يحكم الولايات المتحدة؟ من يحصل على ماذا، ومتى، وكيف ولماذا؟ من الذي يدفع الثمن وبأي السبل ما هو النهج الذي يتبعه النظام السياسي في الولايات المتحدة وكيف يؤدي مهامه؟ ما هي القوى الرئيسية التي تشكّل الحياة السياسية؟ من يتم ذلك.

ويظهر كيف أن الحكومة تمثل أصحاب الامتيازات. وأن قوانين الدولة وضعت لدعم مصالح من يملكون على حساب البقية.

ويبيّن السيطرة البشعة لمالكي الثروات الهائلة وقوة طبقة أصحاب الأعمال والشركات العملاقة، وكيف تلتهم موارد البيئة وتسمّم الأرض والماء والهواء. وهي تبتلع ثروات فائضة هائلة وتساعد في نفس الوقت على خلق وإدامة الفقر لدى الملايين من الناس في داخل الولايات المتحدة وخارجها. (بارنتي، 2005، صفحة 10و11 و15و16و32)

في النصف الأول من القرن العشرين، ظهر أنطون سعادة، زعيم ومؤسس الحزب السوري القومي الاجتماعي (1904-1949). انتقد بشدّة ممارسات الغرب الاستعماري تجاه الشعوب، وانتقد أنظمتها الاستعمارية المنحرفة عن جوهر الديمقراطية. كما انتقد النماذج الأخرى التي ظهرت في الغرب مثل الفاشية والنازية والشيوعية. وانتقد الدعوات المنتشرة في العالم العربي، الدعوات الرومانسية والعاطفية المتطلعة إلى الوراء لإحياء الامبراطورية العربية، والدعوات إلى الدولة الدينية التي لم تعد صالحة لهذا العصر، وكذلك الدعوات لإقامة دول على أساس العصبيات الطائفية أو العرقية أو القبلية والعشائرية.

تشابهت نماذج الدول الديمقراطية الرأسمالية مع الدول الفاشية والنازية بالنهج الاستعماري العدواني والممارسات العنصرية تجاه الشعوب الأخرى.

انطلقت الفاشية الايطالية والنازية الألمانية، من النظريات العرقية بادعاء النقاء والتفوق لكل من العنصرين اللاتيني والجرماني، ومارستا العنصرية تجاه الجماعات المختلفة في الداخل وتجاه الشعوب الأخرى.

 اعتمدتا على تنظيم المجتمع وفق النظرة المثالية الروحية للقومية العنصرية وتأليه العرق والدولة. واستطاعتا استقطاب نسبة كبيرة من المجتمع المأزوم بسبب الهزائم الخارجية والأزمات الاقتصادية الداخلية، وإعادة تنظيم المجتمع وفق النظرة الجديدة فحلّت مشاكل البطالة والعمل ولكنّ النظرة اللا علمية، الضيقة والمحدودة خلقت مشاكل أكبر مع الجماعات المختلفة داخلياً ومع الشعوب المستهدفة بعدوانها ومع الدول التي سبقتها في الاستعمار.

الديمقراطية الرأسمالية تشابهت مع الشيوعية في نظرتها الأممية وفي محاربة القومية وبالنظرة المادية.

انطلقت الرأسمالية من النظرة المادية لمصالح الرأسماليين، وانطلقت الشيوعية من النظرة المادية لطبقة البروليتاريا.

خلقت الرأسمالية طبقة حاكمة من المركّب العسكري الصناعي، يسعى للهيمنة وفرض نفوذه على العالم. وخلقت الشيوعية طبقة إقطاعية جديدة مهيمنة باسم البروليتاريا وتمّ تسخير الأحزاب الشيوعية في العالم لمصلحة مركزها في موسكو وسعت أيضا لمد نفوذها والهيمنة على العالم.

الأنظمة في العالم العربي هي بالإجمال وليدة الاستعمار الغربي وخاضعة لنفوذه. والنظم التي حاولت التصدي له يتم التآمر عليها بشتى الطرق.

أسّس سعادة مشروعه النهضوي ودعا إلى الدولة القومية الاجتماعية، دولة الأمة السورية في الوطن السوري، ودفع حياته ثمنا لهذا المشروع.

ما هي هويَّة هذه الدولة وما هي منطلقاتها وتوجهاتها؟ وما هي مرتكزاتها العلمية والفلسفية؟

نظرة سعادة الفلسفية  

درس سعادة نشأة الدولة والأشكال التي اتخذتها وصولاً إلى الدولة العصرية التي نشأت في الغرب،

 نتيجة الثورة الصناعية والثورات السياسية، وسجّل باكراً انحراف الديمقراطية في دول الغرب عن مسارها.

درس الدولة في سياق دراسته لتطور المجتمعات ونشوء الأمم، وقدّم رؤيته للدولة القومية الاجتماعية، كما يجب أن تكون وفق تصوره.

ينطلق سعادة من دراسته للواقع الإنساني والاجتماعي على ضوء الحقائق المثبتة علمياً، ومن مرجعية العقل الشرع الأعلى للإنسان.

لذلك استند إلى دراسة التاريخ الإنساني وما توصلّت إليه المدرسة العلمية، خاصة في مجال العلوم الاجتماعية والأنتروبولوجية.         

موضوع فلسفة سعادة، هو الإنسان والقيم الإنسانية، لا منشأ الكون والقضايا الميتافيزيقية.

            يقول بهذا الخصوص: “لسنا من الذين يصرفون نظرهم عن شؤون الوجود إلى ما وراء الوجود. بل من الذين يرمون بطبيعة وجودهم إلى تحقيق وجود سام جميل في هذه الحياة وإلى استمرار هذه الحياة سامية جميلة.” (سعادة، الأعمال الكاملة المجلد الثامن 1948-1949، 2001، صفحة 78)

ويعتبر أن المجتمع، وليس الفرد، هو الوجود الإنساني الكامل والحقيقة الإنسانية الكلية.

يقول: “إذا غلط امرؤ في استنتاج أو تأويل أو في حس ما فيصلح غلطه باستنتاج امرىء آخر، أو تأويله أو حسه الصحيح. ويقول أيضاً: شرط الحق، في الإنسانية، ليكون حقاً، أن لا يعلن نفسه ساعة ويختفي، وأن لا يختزنه العدد الفردي أو المجموعي في نطاقه الخاص فيفنى فيه، أن لا يكون حقاً عددياً، بل حقاً اجتماعياً لا ينفرد فيه الفرد ولا يستقل به العدد بل يمتد، في المجتمع بلا حدود.

 ينظر إلى الإنسان من مستوى فكري جديد، ويرفع بنظره الإنسان من حدود فرديته المنحصرة في إمكانيتها إلى مطلق اجتماعيته المنفتحة على الكون.” (سعادة، الأعمال الكاملة المجلد الثامن 1948-1949، 2001، صفحة 174)

واعتبر أن الفلسفات المادية والفلسفات الروحية هي فلسفات جزئية خصوصية وأنانية لا تجلب سوى الخراب والدمار على العالم. هي فلسفات جزئية لأنها لا تنطلق من الوجود الانساني الحقيقي  ومن الحقيقة الكلية التي هي المجتمع –الأمة. وانما تنطلق من نظرة جزئية هي: الطبقة الرأسمالية أو العمالية، العرق والوهم الكاذب بالنقاء والتفوق العرقي علماً أن كل المجتمعات هي مزيج من عدة سلالات. وتنطلق من فلسفة جزئية هي الفلسفة المادية للرأسمالية والماركسية، والفلسفة الروحية عند الفاشية والنازية التي تنظر إلى روحية الأمة وبنائها الروحي دون الأخذ بالاعتبار أساسها المادي.

يفسّر سعادة المصطلح المادي والمصطلح الروحي بالقول: “الأمة أساس مادي يقوم عليه بناء روحي. فكل أمة يجب أن تكون مؤلفة من مادة بشرية هي الأجسام المتسلسلة من بعض العناصر، ومادة طبيعية هي المحيط بجغرافيته وجوّه وحدوده وكنوزه الطبيعية. وعلى هاتين المادتين الأساسيتين يقوم بناء الأمة الروحي الذي يميّزها عن غيرها من الأمم.

الأمم لا تتميّز إلاَّ بروحياتها وحياتها وتقاليدها التي هي نتيجة العمل العقلي ومجرى الفكر. وأما البناء الروحي فهو، على أنه غير منفصل عن الأساس المادي، نتيجة تفاعل عقول أبناء الأم الواحدة وتمكنهم من إظهار رابطة عقلية تربطهم في الشرائع والقوانين والتقاليد الاجتماعية واللغة والأدب والتربية.” (سعادة، الأعمال الكاملة المجلّد الأول 1921-1934، 2001، صفحة 453)

لذلك دعا إلى: “ترك عقيدة تفسير التطور الانساني بالمبدأ الروحي وحده وعقيدة تفسيره، من الجهة الأخرى، بالمبدأ المادي وحده، والإقلاع عن اعتبار العالم ضرورة، عالم حرب مهلكة بين القوة الروحية والقوة المادية، والتسليم معنا بأن أساس الارتقاء الإنساني هو أساس روحي-مادي(مدرحي) والانسانية المتفوقة هي التي تدرك هذا الأساس وتشيد صرح مستقبلها عليه. ليس المكابرون بالفلسفة المادية بمستغنين عن الروح وفلسفته ولا المكابرون بالفلسفة الروحية بمستغنين عن المادة وفلسفتها.

إن العالم الذي أدرك الآن، بعد الحرب العالمية الأخيرة، مبلغ الهلاك الذي جلبه عليه قيام الفلسفات الجزئية الخصوصية-الفلسفات الأنانية التي تريد أن تحيا بالتخريب-(تخريب واستغلال الشعوب والمجتمعات الأخرى، إضافة إلى تخريب مجتمعاتها)-فلسفة الرأسمالية الخانقة وفلسفة الماركسية الجامحة، التي انتهت في الأخير بالاتحاد مع صنوها المادية الرأسمالية بقصد نفي الروح من العالم،(نفي الروح أي نفي القوميات)، وفلسفة الروح الفاشستية وصنوها الاشتراكية القومية(النازية) المحتكرة الروح، (العنصرية وادعاء التفوق العرقي والقومي )، الرامية إلى السيطرة به سيطرة مطلقة على أمم العالم وشؤونها-هذا العالم يحتاج اليوم إلى فلسفة جديدة تنقذه من تخبط هذه الفلسفات وضلالها. وهذه الفلسفة الجديدة التي يحتاج إليها العالم – فلسفة التفاعل الموحد الجامع القوى الانسانية-(ثقافة إنسانية تتشارك فيها جميع الأمم والقوميات على قاعدة احترام حق الشعوب بتقرير مصيرها وعدم التدخل بشؤونها وعدم استعمارها بشكل مباشر أو غير مباشر)، هي الفلسفة التي تقدمها نهضتكم. (سعادة، الأعمال الكاملة المجلد السابع 1944-1947، 2001، الصفحات 179-180)

ويرى أن ” السلام الحقيقي الثابت لا يتم إلاَّ على أساس اعتراف كل من الفريقين المتحاربين لشعوب العالم الحرة بحق الحياة كشعوب حرة وليس كشعوب مستعبدة، ويدخل في ذلك عدم الاستعباد الاقتصادي. “(سعادة، الأعمال الكاملة المجلد الرابع 1940-1941، 2001، صفحة 148)

الواقع الإنساني

واقع العالم هو واقع أمم ومجتمعات، والعصر هو عصر تنازع الأمم، عصر تتقيد فيه الأفراد والجماعات بمصير أممها، فإن كانت الأمة ناهضة، راقية، متقدمة في ميدان الحياة كان لأفرادها وجماعاتها مقام وكرامة على نسبة ذلك. والاعتماد على النفس هو فصل الخطاب، فالأمم التي اعتمدت على نفسها وتجهزت بما يدفع عن كيانها بقيت وفازت، والأمم التي علقت آمالها على المقامرة والمضاربة في الشؤون السياسية، معتمدة على قوات ليست في قبضتها وواضعة ثقتها في تدبيرات خارجية سقطت وتلاشت.    (سعادة، الأعمال الكاملة المجلّد الأول 1921-1934، 2001، الصفحات 490-491)

التصادم هو في المصالح والحاجات وليس في المبادئ والنظريات، بل في الحاجة إلى الإكثار من المواد الأولية، والموارد الطبيعية المتولدة والمتزايدة عند الأمم الآخذة برفع مستواها الاقتصادي وزيادة نسلها.  (سعادة، الأعمال الكاملة المجلد الثاني-1935-1937، 2001، صفحة 224)

استغلت دول الغرب الاستعماري بمختلف أنظمتها النعرات الدينية في العالم العربي والاسلامي، ولا تزال حتى اليوم تستخدم هذه النعرات.

ويشير سعادة في مقالاته إلى استغلال المحور الألماني-الايطالي النعرات الدينية المحمدية والحاج أمين الحسيني وشكيب إرسلان وأمثالهما، وكذلك المحور الإنكليزي-الأميركاني الذي يستغل هذه النعرات عينها. ويقول إنَّ هذه الدعاوات جميعها لدليل على مبلغ احتقار الدول الاستعمارية الكبرى مدارك الشعوب التي لا تزال تجهل ما هو الفرق بين القومية والدين، وبين الأمة والجماعة الدينية وبين السياسة والعقائد الدينية. (سعادة، الأعمال الكاملة المجلد السادس 1942-1943، 2001، الصفحات 408-409)

يحذّر سعادة جميع الأعضاء من الوقوع فريسة للدعايات الأجنبية. ويقول:” إننا نعترف بأن هنالك مصالح تدعو إلى إنشاء علاقات ودية بين سورية والدول الأجنبية وخصوصاً الأوروبية. ولكننا لا نعترف بمبدأ الدعاية الأجنبية. يجب أن يبقى الفكر السوري حراً مستقلاً أما المصالح المشركة فنحن مستعدون لمصافحة الأيدي التي تمتد إلينا بنية حسنة صريحة في موقف التفاهم والاتفاق.

يجب على الدول الأجنبية التي ترغب في إيجاد علاقات ودية ثابتة معنا أن تعترف في الدرجة الأولى بحقنا في الحياة وأن تكون مستعدة لاحترام هذا الحق.” (سعادة، الأعمال الكاملة المجلد الثاني-1935-1937، 2001، صفحة 8)

 “نشترط أن تكون كل علاقة لنا مع أية دولة أجنبية قائمة على أساس الاعتراف بسيادتنا القومية. إن الذين قبلوا ويقبلون سيادة فرنسا وبريطانيا على أمتنا ووطننا، هم أنفسهم يقبلون كل سيادة أجنبية أخرى، وهم المسؤولون عن كل نكبة جديدة تحل بأمتنا ووطننا.” (سعادة، الأعمال الكاملة المجلد الرابع 1940-1941، 2001، صفحة 53)

في شروحه للمبدأ الإصلاحي الخامس: “إعداد جيش قوي يكون ذا قيمة فعلية في تقرير مصير الأمة والوطن.” يؤكّد سعادة أنّ تنازع موارد الحياة والتفوق بين الأمم هو عبارة عن عراك وتطاحن بين مصالح القوميات. ومصلحة الحياة لا يحميها في العراك سوى القوة، القوة بمظهرها المادي والنفسي. والحق القومي لا يكون حقاً في معترك الأمم إلاَّ بمقدار ما يدعمه من قوة الأمة. فالقوة هي القول الفصل في إثبات الحق القومي أو إنكاره.

وكل أمة أو دولة إذا لم يكن لها ضمان من نفسها من قوتها هي، فلا ضمان لها في الحياة على الإطلاق. فالعقود والضمانات والمعاهدات تقوم ما ثبتت المصالح التي تؤمنّها لجميع الأطراف المشتركة فيها. فإذا بطلت المصالح أو انتفى بعضها، نقضت المعاهدة أو الاتفاق أو العهد. (سعادة، الأعمال الكاملة المجلد الثامن 1948-1949، 2001، صفحة 117و120)

الواقع الاجتماعي

الاجتماع البشري أمر واقع ملازم للبشرية وخصائصه ملازمة لخصائص الإنسان.

الاجتماع صفة عامة في الإنسانية، ولكنّ الإنسانية ليست مجتمعاً واحداً. انها عدة مجتمعات تبعاً لانقسام الأرض إلى بيئات وأقاليم متنوعة.

البيئة هي التي تهيئ تكوّن شخصية المجتمع من خلال شكلها وحدودها والامكانات التي تقدمها ووفق مؤهلات الجماعات البشرية واستعدادها.

            “الرابطة الدموية هي الرابطة الأولى. ولكن عوامل الحياة الانسانية التي قضت بانتشار البشر، سعياً وراء الرزق أو طلباً للنجاة من وجه الأعداء أو اضطراراً لا إرادة فيه، لم تلبث أن جعلت الجماعة البشرية تتكون بعاملي الاقتصاد والاجتماع على أساس الاختلاط الدموي الذي يدمج الجماعات الصغرى بعضها ببعض، ويولّد منها جماعة أكبر شرط أن تتوفر مقومات نشوء الجماعة الكبيرة كالاستقرار وصلاح البيئة واستتباب تهيؤها للتفاعل والتدامج.

أما حيث لا تتوفر هذه المقومات فالحالة الابتدائية تسود ويظل الاجتماع قائماً على أساس الرابطة الدموية التي تقتصر على أنواع من الحياة محدودة ولا أمل لها بالارتقاء في مثل هذا النظام.” (سعادة، الأعمال الكاملة المجلد الثالث 1938-1939، 2001، صفحة 43)

نشأت الأمة وشخصيتها ونفسيتها وقضيتها في سياق التطور الاجتماعي المستمر. وتطورت الدولة بموازاة هذا التطور وصولاً إلى الدولة العصرية دولة الأمة.

شهد التاريخ نموذج دولة المدينة الذي بدأ في سوريا ثم انتقل الى اليونان، ولم يصمد هذا النموذج طويلاً، فسقط أمام الدول الامبراطورية التي سادت معظم التاريخ.

نموذج الدولة القومية / الدولة الأمة ظهر في الغرب بعد الثورة الصناعية، وكان عصر الاستعمار الذي جعل من الدولة القومية في الغرب دولة قومية على مستوى مجتمعها وامبراطورية على مستوى الشعوب الخاضعة لسيطرتها.

عندما طرح سعادة مشروعه النهضوي وتصوره للدولة القومية. كان نموذج الدولة القومية ذات البعد الامبراطوري مسيطراً في الغرب المتقدم وكان إلى جانبه، نماذج الدول الكلية: الشيوعية والنازية والفاشية.

وانتشر في باقي دول العالم نماذج متنوعة من الدول وأشباهها الحاملة إرث القرون الوسطى واستبدادها، وثقافتها من الدولة الدينية الى الدويلات الطائفية والعرقية.

الدولة القومية الاجتماعية التي يدعو إليها سعادة هي دولة الأمة، لا دولة دينية ولا دولة طائفية ولا دولة عرقية ولا دولة طبقية.

وهذه الدولة تستند إلى الوجدان القومي الذي يعرفّه سعادة بأنه: ” أعظم ظاهرة اجتماعية في عصرنا، وهي الظاهرة التي يصطبغ بها هذا العصر على هذه الدرجة العالية من التمدن.

إذ أن هذه الشخصية مركّب اجتماعي -اقتصادي-نفساني يتطلب من الفرد أن يضيف إلى شعوره بشخصيته شعوره بشخصية جماعته، أمته، وأن يزيد على إحساسه بحاجاته إحساسه بحاجات مجتمعه وأن يجمع إلى فهمه نفسه فهمه نفسية متحده الاجتماعي، وأن يربط مصالحه بمصالح قومه، وأن يشعر مع ابن مجتمعه ويهتم به ويود خيره، كما يود الخير لنفسه.  (سعادة، الأعمال الكاملة المجلد الثالث 1938-1939، 2001، صفحة 5)

والأمة هي وحدة حياة، لا حاجة إلى أصل واحد معيّن لنشوء الأمة، لنشوء القومية. فالأمة موجودة بتفاعلها ضمن بيئتها ومع بيئتها. (سعادة، الأعمال الكاملة المجلد الثامن 1948-1949، 2001، صفحة 50)

الأمة بدون وطن معيّن لا معنى لها، ولا تقوم شخصيتها بدونه. هذا الوضوح يخرج معنى الأمة من الخضوع لتأويلات تاريخية أو سلالية أو دينية مغايرة لوضع الأمة، ومنافية لمصالحها الحيوية والأخيرة. كل فكرة قومية بلا أساس من وطن يخرج الأمة عن وضع واقعها الاجتماعي. (سعادة، الأعمال الكاملة المجلد الثامن 1948-1949، 2001، صفحة 43)

القومية هي وعي الأمة وجودها. والأمة ليست لغة ولا ديناً ما، بل هي واقع اجتماعي-هي مجتمع إنساني وأرضي.

 فلو أطلقت لغة واحدة في العالم كله لما جعلت العالم أمة واحدة. ولو أطلقت فيه مذهباً دينياً واحداً لما صار أمة واحدة.

 فلا اللغة ولا الدين ولا الاثنان معاً يجعلان من الناس أمة واحدة، أي مجتمعاً ذا شخصية سياسية. (سعادة، الأعمال الكاملة المجلد الثامن 1948-1949، 2001، صفحة 264)

إنَّ الأمة التي تنشئ نهضتها على الأخوة القومية الحقيقية المتولّدة من الاشتراك الفعلي في الحياة الواحدة في الوطن الواحد، أمة تستغني بالانتساب إلى حقيقتها عن الانتساب إلى أوهامها، فالأوهام تزول ولا يبقى إلاَّ الحقيقة.

إننا أمة ليس لأننا نتحدر من أصل واحد، بل لأننا نشترك في حياة واحدة في وطن واحد يحتّم علينا أن نكون إخواناً قوميين متحدين في هذه الجامعة الوطنية، التي قلّ مثيلها، من أجل كرامتنا نحن وحقوقنا نحن ومصالحنا نحن ووطننا نحن. (سعادة، الأعمال الكاملة المجلّد الأول 1921-1934، 2001، صفحة 405)

ثمّة ترابط عضوي بين الأمة والوطن، والوطن السوري هو بيئة طبيعية واحدة تقوم عليها وحدة شعبية وأنحاؤها تكمل بعضها بعضاً، وصيانة أية جهة من جهاتها ضرورية لصيانة الجهات الأخرى، فالسوريون المقيمون في الجنوب تهمهم الحدود الشمالية كما تهم السوريين المقيمين في الشمال الحدود الجنوبية. وهنالك مراكز في الحدود إذا خرجت من قبضة الجيش السوري عرّضت البلاد كلها لأشد أخطار الفتوحات والاستعمار والذل. وأي اجتياح حربي للخطوط الاستراتيجية الجنوبية أو الشمالية جعل سورية الطبيعية كلها تحت خطر السقوط. أي جيش يحتل أية منطقة صغيرة ضمن نطاق الوحدة الاستراتيجية يمكن اعتباره محتلاً البلاد كلها احتلالاً استراتيجياً! فيمكننا القول إن الجيش التركي الذي يرابط في كيليكية والإسكندرونة يمثّل احتلالاً استراتيجياً لسورية. (سعادة، الأعمال الكاملة المجلد الثامن 1948-1949، 2001، الصفحات 66-67)

الدولة العصرية

يعالج سعادة في كتاب نشوء الأمم في الفصول الخمسة الأولى ما يسميه الأساس المادي للاجتماع البشري وأحواله، هذه الفصول هي:

نشوء النوع البشري-السلائل البشرية-الارض وجغرافيتها -الاجتماع البشري-المجتمع وتطوره.

وعندما يصل إلى الفصل السادس المخصص للدولة يقول: “تقصّينا فيما دوّناه آنفاً الأساس المادي للاجتماع البشري وأحواله، وبهذا الفصل نبدأ بدرس البناء النفسي لهذا الاجتماع.

الدولة شأن ثقافي بحت، لأن وظيفتها، من وجهة النظر العصرية، العناية بسياسة المجتمع وترتيب علاقات أجزائه في شكل نظام يعيّن الحقوق والواجبات إما بالعرف والعادة – في الأصل- وإما بالغلبة والاستبداد. (سعادة، الأعمال الكاملة المجلد الثالث 1938-1939، 2001، الصفحات 73-74)

الدولة تعبّرعن حاجة المجتمع الى التنظيم، بغض النظر عن طابع الغلبة والاستبداد الذي يرتبط بنشوء الدولة التاريخية.

نشأت الدولة بعامل الحياة الانسانية. وأصبحت هي شخصية المجتمع وصورته، يعظم بعظمتها ويصغر بصغرها.

الدولة هي التي صهرت جماعات متباينة في بوتقة واحدة وكوّنت من المزيج وحدة نظامية حيثما مكّنت من ذلك البيئة ووجهة الحياة. (سعادة، الأعمال الكاملة المجلد الثالث 1938-1939، 2001، صفحة 87)

تكمن أهمية الدولة بما تنطوي عليه من حقوق. فلا بدّ لنا من إلقاء نظرة على بداءة الحقوق لكي نتمكن من فهم نشوء الدولة وتطورها في ظروفهما. يجب أن ننظر إلى الحقوق إذا كنا نريد أن نحصل على تحديد حقيقي للدولة. (سعادة، الأعمال الكاملة المجلد الثالث 1938-1939، 2001، صفحة 75)

يعيد سعادة، فكرة الديمقراطية العصرية، التي تعني تمثيل الإرادة العامة في الحكم، إلى الثورتين الأميركية والفرنسية. وهذا يعني جعل الإرادة العامة للشعب، للأمة. (سعادة، الأعمال الكاملة المجلد الثامن 1948-1949، 2001، صفحة 89)

ويفسّر عوامل هذه الظاهرة، بنشوء المدن ونموها والعمل الصناعي والاتجار التي أوجدت المحيط والجو الصالحين لحرية العمل وتبادل الأفكار والمعارف. إن المدينة كانت دائماً أصلح مكان لنمو الفكرة الديمقراطية. وهي المكان الوحيد الذي يمكن أن تتمركز فيه الحياة السياسية.

وظهرت الحركات الاجتماعية والسياسية التي أعدّت لعصر جديد هو عصر الديمقراطية ونشوء القومية، التي عيّنت شكل دولة البلاد العصرية ووسعت دائرة المساهمة في الدولة أو معدوديتها إلى حدود لم تكن معروفة من قبل.

الدولة الحديثة قائمة على مبدأي القومية والديمقراطية. (سعادة، الأعمال الكاملة المجلد الثالث 1938-1939، 2001، صفحة 105)

الدولة الديمقراطية هي دولة قومية حتماً، فهي لا تقوم على معتقدات خارجية أو إرادة وهمية، بل على إرادة ناتجة عن الشعور بالاشتراك في حياة اجتماعية اقتصادية واحدة. الدولة أصبحت تمثل هذه الإرادة. فتمثيل الشعب هو مبدأ ديمقراطي قومي لم تعرفه الدول السابقة.

تحت عامل القومية الظاهر في تولّد روح الجماعة والرأي العام، تغيّر معنى الدولة من القوة الحاكمة المستبدة إلى سيادة المتحد وحكمه نفسه.  والوسيلة التي مكّنت المتحد من تحقيق هذا المبدأ الجديد هي التمثيل السياسي الذي مكّن من الفصل بين السلطة الاشتراعية والسلطة التنفيذية وترجيح كفة السلطة التشريعية، لأنها تمثل إرادة الشعب.

الدولة القومية تتميّز بأنها لم تعد دولة تجبل الأقوام جبلاً في مساحة الأرض التي تبسط ظلها عليها، لأنها أصبحت تصطدم بإرادة متحدها هي، قوميتها، وإرادة القوميات الأخرى. فإذا اتسع نطاق الدولة حتى جاوز نطاق الأمة أصبحت الدولة إمبراطورية أو استعمارية كما هي الدول الأولى الآن. كانت الدولة قبل نشوء القومية إرادة خصوصية تفرض نفسها على المجموع الذي تشمله، أما بعد نمو القومية فقد أصبحت النظام والهيئة الممثلين لإرادة الأمة.(سعادة، الأعمال الكاملة المجلد الثالث 1938-1939، 2001، الصفحات 111-112)

يعرّف سعادة الدولة بأنها جمعية الشعب الكبرى، وكل فرد من أفراد الشعب مشترك في حياة الدولة هو عضو في الدولة.

إنّ لكل حكومة حداً تقف عنده فيما يختص بأمر تقرير المصير العام الأخير الذي هو مصير الشعب، لا مصير الحكومة. وكل حكومة تحاول أن تربط مصير الشعب بمصيرها هي تكون حكومة خائنة مصلحة الدولة. والحكومة التي تمنع أعضاء الدولة من التفكير في مصير دولتهم ومن استعمال حقوقهم المدنية والسياسية في تقرير هذا المصير حكومة قد تجاوزت حدودها وخرقت حرمة المبادئ التي تقوم هي نفسها عليها وعصت إرادة الشعب الذي له وحده حق تقرير مصيرها ومصيره. (سعادة، الأعمال الكاملة المجلد الثاني-1935-1937، 2001، صفحة 107)

يرى هارولد لاسكي أنَّ التمييز بين الدولة والحكومة هو من المبادئ الأساسية في علم السياسة، فالحكومة هي وكيل عن الدولة إذ أنها تقوم بتنفيذ أغراضها وهي ليست في حد ذاتها السلطة الإلزامية العليا، وهو التعريف الذي يعطى للدولة، ولكنها الجهاز الإداري الذي يقوم بتنفيذ أغراض الدولة. وعلى ذلك إذا تخطت الحكومة حدود السلطة الممنوحة لها فإنها قد تحاسب على ذلك.

والواقع أن وسائل الحد من سلطة الحكومة مثل الدساتير المكتوبة وقوانين حقوق الأفراد ومبدأ فصل السلطات وغيرها من الوسائل، ما هي إلاَّ أساليب أوحت بها الخبرة لمنع استغلال الحكومة للسلطة التي تمنحها لها الدولة، وذلك لأن كل حكومة تتألف من أشخاص ليسوا معصومين من الخطأ إذ أنهم قد يتعمدون استغلال سلطتهم في سبيل تحقيق أغراضهم الخاصة. (هارولد، الطبعة الثانية ترجمة 2012، صفحة 20-21)

الحقوق السياسية   

ترتبط الحقوق بالدولة ذات السيادة الحقيقية والاستقلال الصحيح والتي لا تستند إلى نفوذ أجنبي.

على أساس وحدة اجتماعية صحيحة. يمكن إنشاء دولة قومية صحيحة وتشريع قومي اجتماعي مدني صحيح، ففيه أساس عضوية الدولة الصحيحة وفيه يؤمّن تساوي الحقوق لأبناء الأمة، دون أي تمييز على أساس الدين أو الطائفة والمذهب أو العرق أو اللغة أو الجنس.

إن التساوي في الحقوق والتوحيد القضائي هما أمران ضروريان لنفسية صحيحة موحدة. (سعادة، الأعمال الكاملة المجلد الثامن 1948-1949، 2001، صفحة 73)

لا معنى للتصويت إذا كان على أساس طائفي أو شخصي وبغياب الأحزاب والبرامج السياسية،

وإذا كانت دوافعه المنفعة الفردية أو العائلية أو الطائفية. ولا قيمة ديمقراطية له إذا لم يستكمل شروطه.

المنافع الخصوصية المستعجلة لا يمكن أن تكون أساساً للسيادة القومية وحفظ المصالح العامة. حتى الأمم العريقة في الديمقراطية كثيراً ما تكون فريسة في كثير من المصالح للشعوذات التي يقوم بها مهرة متخصصون في استخدام المبادئ العامة. ولكن قضية الشعب عندنا ليست فقط في الأساليب، بل في الأساس. في العقائد الأساسية ومعتقديها. (سعادة، الأعمال الكاملة المجلد الثاني-1935-1937، 2001، صفحة 194)

ينتقد سعادة واقع المجلس النيابي في لبنان لأن أساليب التمثيل غير صالحة لأنها تجعل التمثيل للطوائف بدلاً من الأحزاب، وللأشخاص بدلاً من البرامج الحزبية. (سعادة، الأعمال الكاملة المجلد الثاني-1935-1937، 2001، صفحة 13)

ويقول بوجوب فسح المجال للأحزاب لأن الأحزاب هي الطريقة الوحيدة لجعل النظام البرلماني صالحاً لتمثيل مصالح الدولة وإرادتها. (سعادة، الأعمال الكاملة المجلد الثاني-1935-1937، 2001، صفحة 139)

إن الدولة التي تمنع فيها حرية إبداء الرأي والاجتماع وتأليف الأحزاب السياسية دولة لا قيمة تمثيلية لمجالسها النيابية (سعادة، الأعمال الكاملة المجلد الثاني-1935-1937، 2001، صفحة 87)

الديمقراطية التعبيرية

يطرح سعادة ما يسميه الديمقراطية التعبيرية بديلاً عن الديمقراطية التمثيلية، ويقول:

إن الديمقراطية الحاضرة قد استغنت بالشكل عن الأساس، فتحولت إلى نوع من الفوضى لدرجة أن الشعب ذاته أخذ يئن من شلل الأشكال التي أخذت على نفسها تمثيل الارادة العامة. العودة إلى الأساس والتعويل على “التعبير عن الإرادة العامة” بدلاً من “تمثيل الإرادة العامة” الذي هو شكل ظاهري جامد.

الإرادة العامة إذا لم تجد “التعبير” الصحيح في فكرة واضحة وقيادة صالحة تصبح عرضة لأن تقع فريسة للمطامع والمآرب التمثيلية.

التمثيل شيء جامد يتعلق بما حصل، أما التعبير فغرضه الإنشاء وإدراك شيء جديد.

يجب إنقاذ الديمقراطية من الهلاك. وذلك بإزالة ما دخل إليها من الفساد، وإدخال تفكير ينطبق على ما وصل إليه الناس من العلم والمعرفة، فتصير صالحة لنفع الإنسان وتكفل حقوق الإنسان من كل مهاجمة وتعدّ. (سعادة، الأعمال الكاملة المجلد السابع 1944-1947، 2001، صفحة 38و41)

الديمقراطية التعبيرية هي إزالة الخلل والفساد الذي لحق بالديمقراطية نتيجة الفلسفة الفردية الليبرالية المتوحشة التي سهّلت للطبقة الرأسمالية استغلال الطبقات الشعبية والأمم الضعيفة ونهب مواردها وخيراتها.

هذه الديمقراطية تتحقق بنظرنا من خلال:

1- أحزاب وطنية تنطلق من مفهوم وحدة الأمة كهيئة اجتماعية واحدة، وهي قاعدة تحديد المصالح الأساسية، ومن اعتبار مصلحة الأمة فوق كل مصلحة.

لا يجوز أن يقوم ضمن الأمة أحزاب أو تكتلات، على أساس مصالح جزئية: عرقية، دينية، طائفية، طبقية أو مناطقية.

2- يجب تحديد شروط ومؤهلات من يحق لهم الترشح لمناصب في الدولة وبشكل خاص للنيابة والوزارة، تضمن امتلاكهم القدرة في فهم ومعالجة قضايا الشأن العام والقضايا القانونية والسياسية التي سيتولونها.

 3- التحقق من مناقبيتهم ومسلكياتهم التي تثبت وعيهم القومي وعملهم لمصالح المجموع وليس لمصالح فردية أو فئوية، وذلك من خلال اختبارهم ضمن المؤسسات والأطر الحزبية التي ترشحهم لهذه المناصب.

4- تربية وتثقيف المواطنين على الاهتمام بالشأن العام والمصالح العامة.

5- تحديد الشروط التي تكفل نزاهة العملية الانتخابية وتمنع المال الانتخابي وتضمن تساوي المرشحين في الوصول إلى وسائل الاعلام.

6- منع الاحتكارات والتكتلات الاقتصادية.

7- حرية الوصول إلى المعلومات والتواصل الاعلامي ومنع احتكار المؤسسات الإعلامية.

8-منع التواطؤ بين أصحاب المصالح الاقتصادية والطبقة السياسية وتجريم أي عمل من هذا النوع.

9- ضمان حقوق المواطن في التعليم والصحة والعمل والنصيب العادل من الانتاج، والحق في مستوى لائق من المعيشة.

 10-ضمان تجدّد الطبقة السياسية باستمرار وعدم تحولها إلى طبقة مغلقة.

العدل الاقتصادي

يركز سعادة على وحدة المجتمع ووحدة العمل ضمن المجتمع. وعلى دور الدولة في حماية المجتمع والوعي القومي الذي يقضي على التنافر بين عناصر الأمة والناجم عن وضع اجتماعي تتنازعه العصبيات البدائية القامة على أساس ديني أو طائفي أو دموي. مشدداً على مفهوم الأخوة القومية وتربية المواطنين على الولاء القومي وإعطاء الاهتمام اللازم لمصلحة المجموع.

“الدولة القومية تشمل المجتمع القومي كله، ذا الدورة الاقتصادية الكاملة التامة وتمثل مصالح شعب تام كامل. هذه الدولة تنظر في حالة المجتمع الاقتصادية وفي النظام الاقتصادي الذي يوفر الاستقرار والطمأنينة والارتقاء وزيادة الخير. لا يمكن ترك مساحات واسعة من الأرض في أيد فردية، يتصرف الفرد بها وفاقاً لنظرة فردية محضة، بصرف النظر عن أية فكرة اجتماعية أو معنى أساسي عام.” (سعادة، الأعمال الكاملة المجلد الثامن 1948-1949، 2001، صفحة 103)

            الصراع القومي الاجتماعي هو صراع مزدوج، ضد الإقطاعيين والرأسماليين المتحالفين مع الإقطاع والرأسمال الدوليين. التوحّد بقوميتنا ووضع مواردنا تحت سيادتنا يضمنان لنا الخير والهناء بتوزيع الإنتاج القومي توزيعاً عادلاً. وإن أول حق من الحقوق الطبيعية والاجتماعية لكل مواطن هو حق العمل والانتاج. (سعادة، الأعمال الكاملة المجلد الثامن 1948-1949، 2001، صفحة  357و358)

في مقال بعنوان “العقيدة السورية القومية الاجتماعية وبحث الديمقراطيين عن عقيدة،” يشير سعادة إلى أهمية التصريحات التي أدلى بها بعض المسؤولين البريطانيين، المطالبة بتحويل السياسة الديمقراطية إلى “ديمقراطية اقتصادية” وأن لكل عضو من أعضاء الدولة الحق في “ستندرد”، أو مستوى معيشة لائقة، معيّن يشمل الصحة والنظافة ووسائل الراحة.

وأشار أيضاً إلى أهمية مقالات أستاذ العلم السياسي هارولد لاسكي، والدعوات والخطب التي ألقيت تحت ضغط الحرب والداعية إلى حل مشاكل التصادم بين العمال والرأسماليين، وتكوين عقيدة للمستقبل يحارب الشعب من أجلها.

يدعو هارولد لاسكي إلى تدخل الدولة لحماية المجتمع من نتائج التنافس الحر غير المقيّد بين المصالح الخاصة وما قد يؤدي إليه من نتائج سلبية. (هارولد، الطبعة الثانية ترجمة 2012، صفحة 40)

 يقول سعادة في هذا المقال أنَّ الديمقراطية التي خبرتها الشعوب المتمدنة، حتى اليوم، لم تتمكن من حل الأضاليل الاجتماعية-الاقتصادية التي نشأت مع تقدم عهد الآلة. فقبل الحرب العالمية الثانية، كانت أوروبة وأميركة ما عدا روسية وألمانية وإيطالية، تعيش في ظل الديمقراطية. ولكن شعوبها كانت متعبة، رازحة. وبلغت أوروبة بديمقراطيتها الفاسدة حضيض الفوضى. والديمقراطية الرأسمالية، أصبحت كابوس العامل والفلاح.

وهذه الديمقراطية سهّلت، للمحافظين الإقطاعيين، والرأسماليين، في بريطانية، والرأسماليين في الولايات المتحدة، الوصول إلى ثرواتهم الفاحشة من أسهل الطرق.

ويقول عن حزبه أنه الوحيد، من بين جميع الأحزاب التي نشأت في العقود الأخيرة في أوروبة وأميركة، الذي أوجد عقيدته الاجتماعية منذ أول تأسيسه.

فوضع المبدأ الإصلاحي الرابع، وهو: “إلغاء الإقطاع وتنظيم الاقتصاد على أساس الانتاج وإنصاف العمل وصيانة مصلحة الأمة والدولة.” ويشير أيضاً إلى النظريات الاجتماعية الاقتصادية، من كارل ماركس وأنغلز إلى الاجتماعيين الاقتصاديين الجدد، التي ألقت نوراً قوياً على مشاكل المجتمع الإنساني الاقتصادية. ولكن الاشتراكية، لم تتمكن من حل القضايا الإنسانية الاجتماعية المعقدة. وهنا تأتي أهمية الفلسفة السورية القومية الاجتماعية، التي تقدّم نظرات جديدة في الاجتماع، بأشكاله النفسية والاقتصادية والسياسية، وتقدّم النظرة الجامعة للمذاهب الإنسانية المتنافرة.    (سعادة، الأعمال الكاملة المجلد السادس 1942-1943، 2001، الصفحات 91-98)

تنظيم الاقتصاد القومي على أساس الإنتاج هو الطريقة الوحيدة لإيجاد التوازن الصحي بين توزيع العمل وتوزيع الثروة. كل عضو في الدولة يجب أن يكون منتجاً بطريقة من الطرق. الإنتاج هو الأساس الهام للاقتصاد القومي. وبدون الانتاج لا يمكننا مطلقاً التفكير برفاهية الشعب. على أساس الإنتاج فقط يمكن النظر في إيجاد العدل الاجتماعي الحقوقي بين الذين يشتركون في الإنتاج.

الإنتاج أساساً هو المفتاح للقضية الاقتصادية كلها. وبدون الإنتاج لا يمكننا أن نحل مشكلة واحدة من مشاكل الاقتصاد في مجتمعنا.

كان الانتاج قديماً يقوم على عمل واحد (فرد) أو عمل عائلي. في تلك الحالة كان الاقتصاد شيئاً لا قومياً، فرديا.

في الإنتاج الفردي لم تكن هنالك حاجة إلى نظر الدولة. لم تكن هنالك دولة قومية بالمعنى الصحيح ولم تكن هنالك حاجة إلى النظر في نظام اقتصادي، يمكن أن يشرّع له الشرع أو يجب أن تسن له القوانين. الحالة التي تتوجب ذلك هي حالة الاقتصاد الاجتماعي أو القومي الاجتماعي، الذي يعني الإنتاج والتبادل الخارجي، وليس التبادل الداخلي.

لا يمكننا التفكير بأي نتيجة اقتصادية متقدمة للشعب إلاَّ على أساس وحدة سورية الاقتصادية وخصوصا الزراعية. (سعادة، الأعمال الكاملة المجلد الثامن 1948-1949، 2001، الصفحات 104-106)

الرأسمالي عندنا أشد الناس ابتعاداً عن الاهتمام بأية قضية قومية أو وطنية أو بأي مصير للجماعة القومية. إن تخطيطه تخطيط فردي محض والمصلحة مصلحة فردية محضة، ولذلك لا يحجم حتى عن التحالف مع أي رأسمال أجنبي مجموعي ضد مصلحة المجموع الذي هو أحد أفراده.

الرأسمال الفردي الآخذ في أن يزداد أمام أعيننا في هذه البلاد ويسيطر على مصير هذه البلاد والشعب، هو من أسوأ حالات الرساميل في العالم على الاطلاق.

لكي يمكن أن ننظر في حالة العمل والعمال والرأسمال يجب أن نصل إلى الطور الصناعي وإنا بدون شك نرى أنه لابدَّ للدولة القومية المقبلة من أن تسير في إيجاد حالة صناعية في هذه البلاد تخرج الأمة من حالة الرق للنظام الرأسمالي القائم على الصناعة الكبرى في الأمم المتقدمة.

إن الأمة التي تبقى في حالة زراعية محضة تبقى حتما مستعبدة للأمة التي هي منظمة صناعياً تنظيماً عالياً يمكنها من إحداث الآلات الصناغية والحربية لإخضاع أي شعب لا يخضع لأحكامها الاستبدادية. (سعادة، الأعمال الكاملة المجلد الثامن 1948-1949، 2001، صفحة 110)

النظر إلى الإنتاج كشيء قومي، المصلحة فيه للشعب، للمجتمع، للأمة، وليس للأفراد كأفراد.

إن الإنتاج المشترك هو حق عام لا حق خاص. والرأسمال هو ضمان استمرار الإنتاج وزيادته، هو بالتالي، وبما أنه حاصل الإنتاج، ملك قومي عام مبدئياً، وإن كان الأفراد يقومون على تصريف شؤونه بصفة مؤتمنين عليه وعلى تسخيره للإنتاج. من هذا يعني أننا لا نرمي إلى إبادة الملكية الشخصية كملكية عملية، ولا إلى أخذ الرأسمال من أيدي الأفراد رأساً ونزع حق التصرف من أيديهم، ولكن يعني أن الأفراد الذين يتصرفون الآن بالرأسمال تصرفاً فردياٍ يتصرفون به تحت إشراف الدولة لضبطه وتوفيقه، لأنهم مبدئياً مؤتمنون عليه ائتماناً من قبل المجتمع، يبقي لهم قوة الاستنباط والتفنن لإنتاج ما يشعرون بأنفسهم الكفاية لإنتاجه، ويتصرفون بحرية ضمن شروط تضعها الدولة. ولكن يكون من حق الدولة أن تنظم للأفراد وتحدد لهم وتسنّ القوانين اللازمة لضبط الإنتاج وتقسيم العمل وتوزيع الإنتاج الحاصل من العمل، فلا يعود الرأسمالي الفردي من جهة حقوقية حراً أن يتصرف تجاه العمال وتجاه الذين يستأجرهم أو يستأجر منهم الأرض أو ما شاكل ويفعل ما تمليه مصلحته الفردية بصرف النظر عن مصالح المشتركين معه في الإنتاج والذين يجب أن يكون لهم حق في نصيب من الإنتاج.

 

 الدكتور يوسف كفروني

مفكّر وأستاذ جامعي

اذا كنت ترغب بمتابعة اخبار موقع " icon News" اضغط على الرابط التالي :

نسخ الرابط :

(يلفت موقع “iconnews ” انه غير مسؤول عن النص ومضمونه، وهو لا يعبّر إلا عن وجهة نظر كاتبه أو مصدره)

:شارك المقال على وسائل التواصل الإجتماعي

Whats up

Telegram