إنتهت الانتخابات النصفية الاميركية ويبقى صدور النتائج النهائية لبضعة ايام، نتيجة التنافس المحموم والمتقارب في بعض الولايات الحساسة. لكن النتيجة الاولى التي ظهرت، والتي اعلنها السيناتور الجمهوري ليندسي غراهام، أنّه لم تحصل «موجة حمراء»، أي موجة شعبية لمصلحة الحزب الجمهوري، كما توقّع كثيرون قبل حصول الانتخابات.
ربما لو بقي الاهتمام محصوراً بالملف الاقتصادي المتراجع من دون ظهور القرار بمعارضة الإجهاض، لكانت حصلت فعلاً موجة انتخابية حمراء. لكن النساء اللواتي اقترعن بكثافة تحت تأثير هذه القضية، كان رأيهن مختلفاً. والملاحظة السريعة الثانية، هي خسارة عدد من المرشحين الجمهوريين الذين اختارهم ترامب بنفسه ووضعهم تحت رعايته المباشرة، والذي كان من أبرزهم محمد أوز، الذي خسر مقعده في مجلس الشيوخ عن ولاية بنسلفانيا. ففي هذه الولاية حصلت مواجهة حامية استدعت استقدام ترامب شخصياً لدعم مرشحه، في مقابل استقدام الرئيس الاميركي جو بايدن ومعه الرئيس السابق باراك اوباما لدعم المرشح الديموقراطي، والذي فاز في نهاية المطاف. ولا شك في أنّ المواجهة ستنتقل سريعاً إلى داخل البيت الجمهوري، حيث ستحفّز هذه الخسائر الفريق المناوئ لترامب، وهم بالمناسبة كثر، ولو انّ بعضهم يمالق ترامب لأسباب متعددة، وسيتهم هؤلاء ترامب بأنّه وضع مصالحه الشخصية وثأره السياسي قبل المصلحة الكبرى للحزب.
والملاحظة السريعة الثالثة، أنّ النجم الصاعد في الحزب الجمهوري رون دي سانتيس، والذي فاز بسهولة وبفارق مريح على خصمه الديموقراطي على حاكمية ولاية فلوريدا، يستعد لخوض غمار المنافسة على البيت الابيض. وترامب الذي تعاطى ببرودة مع حملة دي سانتيس بات قلقاً من تصاعد نجومية حاكم فلوريدا، مهدّداً بمهاجمته إعلامياً. وإذا ما أضفنا الى ذلك ما أورده مركز «اديسون» الاميركي في آخر استطلاع له، بأنّ نحو 60% من الاميركيين بات رأيهم سلبياً في ترامب، إضافة إلى 70% ضد إعادة ترشح بايدن، فهذا يعني أنّ مشوار عودة ترامب إلى البيت الابيض لم يعد سهلاً. لكن الأهم ما توهّمه كثر، من أنّ نتائج الانتخابات النصفية ستؤدي إلى تبدّل في السياسة الأميركية الخارجية. وهذا ما يسخّر منه خبراء في النظام السياسي الاميركي. فخلال الحملات الانتخابية الحامية التي حصلت، تصدّرت مواضيع كثيرة مثل الاقتصاد والإجهاض والضرائب ومسائل اخرى داخلية، ولكن العنوان المتعلّق بالسياسة الخارجية لم يظهر بتاتاً، رغم الحماوة والمشاركة المرتفعة في هذه الانتخابات، والتي قاربت نسبة المشاركة في الانتخابات الرئاسية. فالمعروف انّ 95% من الاميركيين لا يهتمون بالسياسة الخارجية، لذلك تمّ تفويضها إلى الحكومة الفدرالية.
وأهمية الكونغرس بغرفتيه، أي مجلسي النواب والشيوخ، أنّه يسن التشريعات ويمسك بأرقام الموازنات، والتي تشكّل ورقة ضغط على إدارة الرئيس الاميركي، من ضمن لعبة التوازنات الدقيقة التي يمتاز بها النظام السياسي الاميركي المعقّد جداً. واستطراداً، فإنّ الاعتقاد الذي ساد حول «موت سريري» للإدارة الديموقراطية في حال فوز الجمهوريين في الانتخابات، هو كلام غير واقعي وغير صحيح. وفي مثال على ذلك، إنّ معظم الادارات السابقة على تنوعها كانت تخسر الانتخابات النصفية. فهل هذا كان يؤدي الى شلل مهماتها؟ بالتأكيد لا.
وهذا الواقع قد يُزعج الإدارة الاميركية في تأمين الموازنات التي تطلبها، ما سيضطرها لإنجاز مقايضات جانبية لإمرار مطالبها المالية، وغالباً ما ترتكز هذه المقايضات على مسائل داخلية.
في كل الحالات، فإنّ السؤال سيُوجّه من الآن وصاعداً حول الملفات الخارجية الشائكة التي تعترض ادارة بايدن، وفي طليعتها ملف الحرب في اوكرانيا، إضافة الى ملف ايران والشرق الاوسط. ففيما تتصاعد التسريبات حول وجود نيات للذهاب إلى تسوية سياسية في اوكرانيا تحت عبء الواقع الاقتصادي الاوروبي الضاغط والروسي الصعب جداً، يبدو مسرح الشرق الاوسط وكأنّه يستعد لحفلة «كباش» ولو أنّها ستبقى محصورة في نطاق مدروس.
ووفق نظرة سريعة، يتبين انّه مع انتهاء الانتخابات الاسرائيلية اكتملت خريطة الزعماء الصقور ما بين ايران واسرائيل والسعودية وتركيا. وفي واشنطن كذلك، فإنّه لا بدّ من إدراج نتائج الانتخابات النصفية في اطار تعزيز وضع الصقور داخل الكونغرس، وهذا ما يتوافق إلى حدّ بعيد مع الأجواء التي كانت تسرّبت في الآونة الاخيرة من العاصمة الاميركية، والتي تؤشر الى تراجع حظوظ إحياء الاتفاق النووي مع ايران. فحتى المفاوض الاميركي المسؤول عن الملف النووي روب مالي، كان قد أوحى في مواقفه الاخيرة أنّه لا يوجد طريق للمضي قدماً. وجرى ربط ذلك بالدعم الايراني العسكري لروسيا في حرب اوكرانيا، وايضاً بالاحتجاجات داخل ايران، وهو ما ادّى الى تبدّل المعطيات.
ومشهد الصقور معطوفاً على «تبدّل معطيات» الإدارة الاميركية، يدفع الى الاستنتاج بأنّ ثمة جولة «لي أذرع» ستشهدها ساحات الشرق الاوسط خلال الاسابيع والاشهر المقبلة.
وبوادر هذه المرحلة الحامية بدأت بالظهور، إن من خلال ازدياد التوتر في العلاقات بين ايران والسعودية، أو من خلال المؤشرات المتزايدة لعودة النزاعات إلى الداخل العراقي، أو حتى بسبب التسابق على ملء الفراغ الروسي الجزئي في سوريا، وأخيراً وليس آخراً، بسبب الاوضاع في الضفة الغربية.
وكان آخر هذه المؤشرات السلبية ما حُكي عن استهداف قافلة لصهاريج وشاحنات ايرانية كانت عند الحدود السورية- العراقية، كانت وجهتها الاراضي اللبنانية كما قيل.
واستطراداً، فإنّ الساحة اللبنانية ستتأثر مباشرة بمرحلة «لي الأذرع» التي ستشهدها المنطقة، وهو ما سيؤدي الى النقاط الآتية:
1- طالما انّ الكباش الاقليمي سيطاول ايران، وانّ الاتفاق النووي جرى وضعه جانباً، فهذا يعني انّ «حزب الله» سيعود الى انتهاج سياسة هجومية، وانّه سيعمل على تجميع اوراق المواجهة.
2- طالما انّ الاتفاق النووي موضوع جانباً فإنّ التسوية المنتظرة حيال الوضع في لبنان، والتي يجب ان تسبق الاستحقاق الرئاسي، سيجري وضعها جانباً في هذه المرحلة، وهو ما يؤدي إلى الدخول في مرحلة غير محدّدة من الشغور الرئاسي.
3- ليس من المفترض ان تتطور السخونة السياسية الى توترات أمنية. فالعبث بالاستقرار الامني سيُعتبر تجاوزاً للخط الاحمر، ولا نية لأي طرف بهز الاستقرار الأمني الهش، في وقت اعلن قائد الجيش العماد جوزف عون بوضوح، التزام المؤسسة العسكرية بالاستقرار الامني.
4- سيندفع «حزب الله» بقوة الى تعزيز حظوظ سليمان فرنجية الرئاسية. ويمكن وضع اللقاء الذي جمع الامين العام لـ»حزب الله» السيد حسن نصرالله بالنائب جبران باسيل في هذا الإطار. صحيح انّ موقف باسيل من ترشيح فرنجية بقي سلبياً، لكن «حزب الله» سيعمل على رفع مستوى حركته في هذا الاتجاه، وهو ما سيظهر خلال الاسابيع المقبلة.
5- في المقابل، سيزداد تفاقم الأزمات المعيشية والحياتية والاقتصادية، ما يوحي بشتاء صعب.
6- بخلاف السنوات الماضية، فإنّ حركة دولية ناشطة ستواكب التطورات اللبنانية إن على مستوى العواصم الكبرى المهتمة مثل واشنطن وباريس، او على مستوى الامم المتحدة ومجلس الأمن، حيث من المتوقع صدور قرارات جديدة حيال لبنان.
7- من غير المستبعد عودة سياسة العقوبات على لبنانيين على المستويين الاميركي والاوروبي هذه المرة.
8- يُتوقع حركة فرنسية للعمل على إنجاز تسوية بالتفاهم مع الاميركيين، كونها تتمتع بعلاقات جيدة مع ايران ومباشرة مع «حزب الله»، ولكن بعد ان تكون الضغوط قد وصلت إلى ذروتها، وهو ما ترجّحه الاوساط المراقبة مع الدخول في السنة الجديدة، وتحديداً مطلع فصل الربيع المقبل.
تجدر الاشارة، الى انّ الملف اللبناني يحظى بتوافق بين الحزبين الديموقراطي والجمهوري في واشنطن، كما انّ الفاتيكان يستمر في حركته الديبلوماسية لتجنيب لبنان أثمان النزاعات الكبرى الحاصلة، رغم الملفات الدولية الضاغطة وعلى رأسها حرب اوكرانيا.
وفي إطار متابعتها للوضع في لبنان، استدعت باريس سفيرتها في بيروت للتشاور معها حول الملف اللبناني، وستغادر نهاية الاسبوع الجاري.
صحيح انّ الأزمات الاقليمية تعقّد الوضع في لبنان مجدداً، لكن يجب الاعتراف بأنّ ازمتنا الفعلية من صنع ايدينا.
الرئيس الاميركي الرابع جيمس ماديسون، والمعروف بأنّه واضع الدستور الاميركي قال: «لسنا ملائكة ولن تحكمنا الملائكة».
المشكلة في لبنان انّ الاطراف السياسية والحزبية تؤمن بالعكس. فكل فريق يعتقد نفسه أنّه من الملائكة وانّ «زعيمه» من «أنصاف الآلهة». وهنا تكمن المشكلة الحقيقية.
تابعوا آخر الأخبار من icon news على WhatsApp تابعوا آخر الأخبار من icon news على Telegramنسخ الرابط :