شهدت المناطق السورية الواقعة تحت سيطرة تركيا، في النصف الأوّل من الشهر الجاري، أحداثاً «داخلية» تمثّلت في الاشتباكات بين «هيئة تحرير الشام» و«الجيش الوطني السوري» المؤتمِر بأِمرة أنقرة مباشرة. ونتج من الاشتباكات، تمدُّد «الهيئة» وانتزاعها مناطق شمالية في عفرين وغيرها، كانت لا تزال تحت سيطرة «الوطني»، وما لبثت فصائل «تحرير الشام» أن انسحبت من بعض مناطقها الجديدة بعد تدخّل الجيش التركي وما قيل إنه «ضغوط أميركية».
ومنذ ذلك التاريخ، التزمت أنقرة الصمت، ولم يكن واضحاً ما الذي جرى، وما هي أهدافه. في هذا الإطار، حاول الباحث التركي المختصّ في الشأنَين السوري والعراقي، الأستاذ في جامعة «ألتينباش» سرهاد أركمين، شرْح حقيقة ما جرى، في ما شكّل أوّل وجهة نظر مفصّلة من الجانب التركي غير الرسمي، علماً أن أركمين يُعدّ من الباحثين المستقلّين والمعروف بمقارباته العلميّة. ويقول الباحث إن «الهيئة» سيطرت، منذ ثلاث سنوات، على إدلب، وتمدّدت اليوم لتسيطر على عفرين، ومنها تقدَّمت في اتجاه إعزاز، حيث اشتبكت مع بعض مجموعات هذا الجيش. وما لبث القتال أن توقّف بعد اتفاق «الهيئة» مع بعض فصائل «الجيش الوطني»، لكن المجموعات المهزومة التابعة للأخير، رفضت وقْف إطلاق النار، لتستأنف «تحرير الشام» القتال من جديد؛ وحاربت، ومعها فصائل من «الوطني»، الفصائل المهزومة من هذا الجيش. هنا، تدخّلت تركيا وفرضت وقفاً لإطلاق النار مع بعض الترتيبات الميدانية، بحيث باتت «تحرير الشام» مسيطرة على عفرين ومناطق أخرى شرقيّها، وصولاً إلى الباب.
وبحث أركمين في عوامل ثلاثة تُحدِّد أسباب الصراع الأخير وتأثيراتها على التوازنات هناك:
1- الصراع على السلطة داخل «الجيش الوطني السوري»:
يقول الباحث إن «الوطني» يضمّ مجموعات كانت تتصارع في ما بينها منذ 11 عاماً لأسباب أيديولوجية وقبليّة واقتصادية واجتماعية، والسيطرة على المغانم. والنقطة الوحيدة المشتركة في ما بينها والتي تجمعها، هي محاربة النظام السوري، لكنها لم تكن كافية لإزالة الخلافات البينيّة، علماً أنه جرت محاولات للتقريب بين مجموعاته، وذلك بمبادرة من أنقرة التي وضعت «الحكومة السورية المؤقّتة» تحت مظلة وزارة الدفاع التركية. مع هذا، لم يتوقّف الصراع بين المجموعات، بل إن بعضها طلب نجدة «الهيئة» للمساعدة في ضرب خصومه.
2- تمدُّد «هيئة تحرير الشام»:
يقول أركمين إن «تحرير الشام» تضمّ حوالي 20 ألف مقاتل، وتسيطر، منذ منتصف عام 2019، على إدلب (2800 كيلومتر مربع). وقد بدأت تشعر بأنها مضطرّة إلى التوسّع والسيطرة على المزيد من المناطق، علماً أن المساحة الواقعة تحت سيطرتها تعادل ثلث مناطق سيطرة المعارضة في الشمال، لكنها تشمل مجموع سكان يزيد بضعف ونصف ضعف عن سكان الثلثَين الآخرين. ووفق أركمين، فإن إدارة المنطقة لم تكن صعبةً من الناحية السياسية، لكن التأثير الاقتصادي كان سلبياً، فلا إنتاج زراعي أو صناعي في المنطقة، ما اضطرّ «الهيئة» إلى السيطرة على طرق التجارة لتغطية نفقاتها. وإذ تحصّل ضرائبها من بوابة العبور الوحيدة لمناطقها مع تركيا، «باب الهوى»، حاولت «تحرير الشام»، فتْح بوابة عبور جديدة مع النظام السوري، لكنها لم تنجح في ذلك، فعملت للسيطرة على بوابات أخرى في اتجاه مناطق سيطرة «الوطني»، مِن مِثل عفرين وإعزاز والباب، وهي أغنى بكثير من إدلب - من أجل البقاء على قيد الحياة. ويرى الباحث أن «تحرير الشام» شعرت بخطر الزوال مع تراجع مواردها الاقتصادية، وإذا بقيت في إدلب فكأنّما تنتظر موتها الحتميّ.
3- تأثير الحرب في أوكرانيا:
أدّت الحرب الأوكرانية إلى سحْب روسيا العديد من قواتها من سوريا، وتراجعت وتيرة القصف الروسي لمناطق «تحرير الشام» و«الوطني»، وهو ما أدّى إلى شعور المعارضة بأنها أصبحت أقوى من الماضي، ودَفَع «الهيئة» إلى التفكير بالتمدُّد. ويقول الباحث إن روسيا وتركيا يمكن أن تتّفقا على الكثير من الأمور في سوريا، لكنهما تختلفان على الوضع في إدلب؛ فسوريا وروسيا تريدان - لأسباب استراتيجية - السيطرة على جنوب إدلب، فيما تعتقد تركيا أن أيّ هجوم سوري - روسي هناك سيعني نزوح ثلاثة ملايين سوري من إدلب إليها. من ناحية ثانية، تَرى روسيا أنّ «تحرير الشام» هي العقبة الأولى الكبرى من عقبتَين أمام سيطرة دمشق الكاملة على البلاد، فيما العقبة الثانية الكبرى هي «قسد». وهنا، تعتقد «الهيئة» أن التوجُّه شمالاً تحوّطاً من الغرق في وحول إدلب الجنوبية، وطريق «إم 4»، هو الأنسب. وهذا يمكن ضمناً أن يزيل عقبة من طريق المصالحة بين أنقرة ودمشق. ويعرض أركمين صراعات المجموعات المسلّحة الكثيرة داخل «الوطني» في الباب وعفرين وغيرها، ومن ثم انشقاق بعضها وتعاونها مع «تحرير الشام» نفسها، مثل «لواء السلطان سليمان شاه». ولذلك، كانت «تحرير الشام» تحتلّ عفرين في الـ 11 من الجاري بمساعدة الفصائل المنشقّة عن «الجيش الوطني»، وتقيم بوابة عبور في كفر جنة مع منطقة إعزاز التي انسحب إليها الفيلق الثالث في «الوطني»، ومن ثم جاء اتّفاق على وقف النار من عشر نقاط، وتوقُّف القتال، لكن فصائل أخرى من «الجيش الوطني» رفضت الاتفاق، فما كان من «تحرير الشام»، في 17 تشرين الأوّل، إلّا أن قامت بهجوم على كفر جنة واحتلتّها، وفيما كانت قاب قوسين من دخول إعزاز، تدخّل الجيش التركي ومنعها. وجرى التوصُّل إلى اتفاق ينصّ على انسحاب «الهيئة» من وسط عفرين، على أن تدار المدينة بصورة مشتركة من «الجيش الوطني» وعناصر «تحرير الشام»، وأن تستفيد الأخيرة من جميع العوائد الجمركية من كل بوابات العبور من عفرين إلى الباب وإعزاز.
وينهي سرهاد أركمين بحثه بعرض أربعة احتمالات لمستقبل الوضع في إدلب:
1- شعور بعض مجموعات «الجيش الوطني» بأنها خُدعت وانهزمت أمام «تحرير الشام»، وبالتالي بدء اشتباكات جديدة معها.
2- تغيير اسم «الهيئة» وبنيتها وإشراك مجموعات من «الجيش الوطني» فيها، والسيطرة على كل المناطق التابعة لتركيا.
3- ظهور إدلب موسّعة، بحيث لا تكتفي روسيا وسوريا بالتوسّع في القرى الإدلبية، بل تقترب من مركز المدينة تذرّعاً بوجود «تحرير الشام».
4- الاحتمال الرابع هو مزيج من الاحتمالات الثلاثة أعلاه، وهو بدء روسيا بضرب «تحرير الشام» والفصائل الأخرى التابعة لـ«الجيش الوطني».
ويرى الباحث أن مجمل تطوّرات الوضع في شمال غرب سوريا، يَفترض تعزيز الدفع إلى التعاون بين دمشق وأنقرة لإنهاء الوضع هناك. وربما تكون لحظة شعور «هيئة تحرير الشام» بأنها وصلت إلى ذروة قوتها هي لحظة انهيارها ونقطة التحوّل نحو الاستقرار في سوريا. ويتوقّع أركمين أن تتّضح الأمور خلال أربعة أشهر تقريباً لمعرفة أيّ السيناريوات سيكون هو المتحقَّق.
نسخ الرابط :