بعد انتهاء لبنان من معركة تثبيت حقوقه البحرية باسترجاع 860 كلم من المساحات المحتلة، بات يمكن القول من دون أدنى شك إنّه دخل مرحلة جديدة في تاريخه، وخصوصاً على الصعيد الاقتصادي، إذ ستشكّل العائدات المباشرة وغير المباشرة للنفط والغاز المستخرج من بحره ثروة مرحّباً بها بشكل واسع بعد عقود من عدم الاستقرار وتكرار الصدامات والصدمات السياسية الداخلية والحروب العسكرية الإسرائيلية، ما أثقل الخزينة اللبنانية بأعباء كبيرة.
وعلى هذا الأساس، لا يجب البتة التقليل من المنافع الاقتصادية والاجتماعية، وحتى السياسية، البعيدة المدى التي يمكن أن تتدفق إلى لبنان عندما يبدأ جني ثمار استخراج الغاز، إضافة إلى ما سيقدمه هذا الملف من مساعدة في تخفيف العجز في مجال الطاقة الذي تعانيه البلاد، إذ إنه يلبي نطاقاً واسعاً من حاجاتها النفطية.
كما أنّ اكتشاف الغاز سيشكّل إغراءً للاستثمارات الخارجية، وسيساهم في تطوير الخدمات العامة في مجالات التعليم والرعاية الصحية والنقل. وبالتالي، فإنّ الآثار الإيجابية في مناخ الاستثمار والثقة ستمنح لبنان احتمالات مهمة جداً لتحقيق تنمية أكثر توازناً وعدلاً من السابق.
ما المطلوب من لبنان للانطلاق في هذا المشروع اقتصادياً؟
بما أنّ التنقيب عن الغاز واستكشافه سيحمل معه إيجابيات عدة، كما أسلفنا، فإنّ على الدولة اللبنانية أن تبادر فوراً إلى ما يلي:
1- إعادة بناء نظام اقتصادي والتخطيط لكيفية إدخال الغاز ضمن البنيان الاقتصادي اللبناني.
2- تأسيس الشركة الوطنية للنفط.
3- إنشاء مصرف للنفط والغاز.
4- العمل على تخطيط سليم لتغيير واقع الكهرباء في لبنان.
5- تأسيس الصندوق السيادي للاستثمار.
الصناديق السيادية
ونظراً إلى أهمية الصناديق السيادية للاستثمار في اقتصاد أيّ دولة، لا بدّ من الإضاءة على إيجابيات هذه الظاهرة التي انتشرت بين الدول الغنية؛ فبهدف تحصين الاقتصاد من التقلبات في أسواق النفط والغاز، لجأت الدول إلى صناديق الاستثمار للحفاظ على مواردها الناتج معظمها من استخراج المواد البترولية، على اعتبار أنّ ملكيتها لا تعود إلى الجيل الحالي فحسب، بل إلى الأجيال القادمة أيضاً.
بناءً عليه، أقرت هذه الدول قوانين تحكم عمل هذه الصناديق، وتضبط عملية استثمار الموارد الموجودة فيها ضمن أبواب معينة، مع الأخذ بالاعتبار تجنّب المخاطر التي يمكن أن تؤدي إلى خسائر قد تطيح أرصدة هذه الصناديق.
ومن المفترض بأي قانون للصناديق السيادية أن يتضمن حداً أدنى من المعلومات حول البنود الآتية:
§ هدف الصندوق.
§ موارد الصندوق.
§ تشكيل مجلس الإدارة وشروط التعيين والكفاءة والخبرة.
§ وجود نظام مالي وإداري ينظم عمل الصندوق.
§ استقلالية عمل الصندوق.
§ كيفية التوظيف وضوابطه.
§ الرقابة الداخلية والخارجية ولمن توزع التقارير.
§ الشفافية ونشر البيانات المالية المدققة والتقارير المالية.
§ الرقابة على عمل وتقييم عمل مجلس الإدارة.
§ كيفية استخدام موارد الصندوق وأرباحه.
§ المنافع والمكافآت التي يمكن أن يتقاضاها أعضاء مجلس الإدارة.
§ الإجراءات التي يجب اتخاذها في حال المخالفة أو الإهمال الوظيفي.
تجارب ناجحة
استطاعت الصناديق السيادية في بعض الدول تحقيق أرباح هائلة للدولة، ويعود الفضل في ذلك إلى إدارتها الحكيمة التي استغلت الكثير من الفرص الاستثمارية العالمية التي أدرّت عليها عائدات ضخمة، حتى تجاوزت أصول بعض الصناديق موازنات دول. ومن الأمثلة المتقدمة على هذا الصعيد، صناديق النرويج والكويت وقطر، التي تحتل مراكز متقدمة على صعيد العالم.
1- صندوق الثروة السيادي النرويجي
تعود نشأة الصندوق النرويجي إلى ستينيات القرن الماضي، عندما رأت الحكومة ضرورة إدارة العائدات النفطية بكفاءة وحكمة. وبعد الطفرة التي عاشتها البلاد في التسعينيات، لم يستخدم النرويجيون عوائد النفط والغاز لتسديد ديونهم، بل بات الهدف هو المحافظة على مستويات النموّ وتحصين الاقتصاد في المستقبل، فأعاد البرلمان صياغة الصندوق بشكل مختلف عام 1990 لدعم الاقتصاد على المدى الطويل عندما تشح الإيرادات النفطية، وذلك عبر جمع إيرادات الدولة من إنتاج النفط والغاز.
عام 1996، اقتصرت استثمارات الصندوق على السندات الحكومية، قبل أن تضاف إليها سندات الشركات والأسهم والعقارات في مرحلة لاحقة. وسُمح للصندوق في العام 2020 بتملّك حصص مباشرة في مشاريع للطاقة المتجددة.
ويُعتبر اليوم الصندوق السيادي الأكبر في العالم، إذ يدير أصولاً بنحو 1.38 تريليون دولار. ولتفادي آثار تقلبات النفط في اقتصاد البلاد، يركز الصندوق استثماراته في الخارج على 9300 شركة تعمل في قطاعات مختلفة في 75 دولة، إذ ترتكز 40% من استثماراته في أميركا الشمالية، و38% في أوروبا، و18% في آسيا وأوقيانيا، و4% في باقي دول العالم، وتشكّل 1.3% من الشركات المدرجة عالمياً، و2.4% من الشركات المدرجة في أوروبا.
وتتفوَّق القيمة السوقية للصندوق النرويجي على اقتصادات عدد من الدول القوية، على غرار إندونيسيا وهولندا والسعودية وتركيا وسويسرا والسويد وبلجيكا، وتقترب هذه القيمة من الناتج المحلي لدول كبرى، مثل المكسيك وأستراليا وإسبانيا وروسيا.
وتتوزع أصول الصندوق بين: 72% استثمارات في الأسهم، و25.4% في الدخل الثابت، و2.5% في العقارات غير المدرجة، و0.1% في البنية التحتية للطاقة المتجددة غير المدرجة، وذلك لتحصيل أعلى عائد ممكن ضمن الأطر المحددة من وزارة المالية.
يُذكر أنّ أحد المبادئ الأساسية للسياسة المالية النرويجية هو ما يسمى "قاعدة الميزانية"، إذ لا يسمح للإنفاق الحكومي بتخطي سقف العائدات الحقيقية المتوقعة للصندوق التي تقدّر عادة بنحو 4%.
2- الهيئة العامة للاستثمار الكويتية
تحتل "الهيئة العامة للاستثمار" في الكويت المركز الرابع عالمياً والثاني عربياً من حيث الأصول المدارة التي تبلغ قيمتها أكثر من 708 مليارات دولار، وفقاً لمعهد صناديق الثروة السيادية (SWFI)، وهي تحتفظ بـ13% من أصولها على شكل أموال سائلة، وتتوزع استثماراتها على نحو 230 ألف شركة في الأسواق العالمية.
يحكم الهيئة مجلس إدارة يتخذ قرارات استراتيجية للاستثمار بشكل مستقل عن حكومة الكويت، وهي تتكون من صندوقين رئيسيين، هما صندوق الاحتياطي العام وصندوق احتياطي الأجيال المقبلة.
تصل نسبة صافي الربح السنوي لاستثمارات أصول الهيئة إلى 4.5%. وبين عامي 2015 و2020، فاق النمو في الصندوق إجمالي الإيرادات النفطية للفترة نفسها، التي سجلت 221 مليار دولار. وتتوزع استثمارات الهيئة على الأسهم بنسبة 45%، والسندات 20%، والعقارات 10%، والاستثمارات البديلة 15%، والاستثمارات في شركات تكنولوجية 10%.
ونشطت "الهيئة العامة للاستثمار" بشكل متزايد في السنوات الأخيرة في أسواق رأس المال، مع التركيز على الاكتتابات الأولية، وفرص ما قبل الاكتتاب العام، كما في أسواق العقارات، وتمتلك الهيئة حصصاً في موانئ ومطارات ومحطات كهرباء في العالم، بموازاة استحواذها على حصص في شركات إقليمية.
وبالنّظر إلى الخريطة الجغرافية لاستثمارات الهيئة، يتبيّن أنّ الولايات المتحدة تستحوذ على النسبة الكبرى بنحو 50%، إذ يصل حجم الاستثمار إلى أكثر من 350 مليار دولار. وتأتي أوروبا في المرتبة الثانية، بإجمالي استثمارات تجاوزت 150 مليار دولار. وفي المرتبة الثالثة، تأتي اليابان ودول آسيا بنحو 60 مليار دولار. أما الشرق الأوسط، فيأتي في المرتبة الرابعة، باستثمارات تصل إلى نحو 40 مليار دولار.
3- جهاز قطر للاستثمار
عام 2005، أنشأت الدوحة "جهاز قطر للاستثمار" كصندوق ثروة سيادي مختص بالاستثمار المحلي والخارجي. يستثمر الصندوق في الغالب في أسواق عالمية (الولايات المتحدة وأوروبا ودول آسيا والمحيط الهادئ) وإدارة فوائض النفط والغاز الطبيعي.
تقدّر أصول الصندوق بنحو 461 مليار دولار، ويحتل المرتبة التاسعة على مستوى أكبر صناديق الثروة السيادية عالمياً، والمرتبة الرابعة عربياً، بحسب أحدث بيانات معهد صندوق الثروة السيادية (SWFI).
كان جهاز قطر للاستثمار من أنشط الصناديق السيادية استثماراً داخل أوروبا عام 2021، وفي شتى القطاعات، من التكنولوجيا والسيارات، مروراً بالعقارات والسندات، وصولاً إلى دور الأزياء والرياضة، وغيرها، وهو يستثمر في الدرجة الأولى في بريطانيا وألمانيا وفرنسا، وتقدّر قيمة استثماراته في القارة بأكثر من 200 مليار دولار.
وعام 2015، دخل الجهاز السوق الأميركية، وهو يهدف إلى زيادة حجم استثماراته فيها إلى 45 مليار دولار في العامين المقبلين، إذ تقدر حالياً بنحو 35 مليار دولار. واستثمرت قطر في قطاعات أميركية عدة، مثل الاتصالات والفحم والنفط والغاز والخدمات المالية والعقارات والسينما.
أما في روسيا، فيمتلك "جهاز قطر للاستثمار" حصة قدرها 19% في شركة "روسنفت" الحكومية العملاقة لإنتاج النفط. وقد اشترى الجهاز هذه الحصة على مرحلتين بتكلفة بلغت نحو 15 مليار دولار، ويُعد ثالث أكبر مساهم في "روسنفت" بعد الحكومة الروسية وشركة "بي بي". وقد اشترى الجهاز 24.9% من شركة "نورذرن كابيتال غيتواي"؛ صاحبة امتياز تشغيل مطار بولكوفو في سان بطرسبرغ. وفي آسيا، يستثمر الجهاز القطري أكثر من 20 مليار دولار، تتوزع على قطاعات عدة.
نسخ الرابط :