بحسب التقرير، فإن ضباط فرع المعلومات درسوا سلسلة البيع المتصلة بتوزيع الطحين المدعوم لمعرفة دور كل حلقة فيها. فالوزارة تدعم من المال العام استيراد القمح المخصص للخبز العربي بسعر صرف يبلغ 1520 ليرة مقابل الدولار، ويفترض أن توزّع الكميات على مطاحن، ومن هناك يتم توزيعها على الأفران. لذا، السؤال الأساسي: كيف يمكن أن يتلاعب المعنيون بهذه السلسلة ونهب الدعم؟
ما تبيّن لفرع المعلومات، هو أن توزيع الطحين على الأفران يتم بواسطة بونات تستند إلى لوائح معدّة في مديرية الحبوب والشمندر السكري وتتضمن أسماء الأفران وحصص كل منها. وتبيّن للفرع، بعد مراقبة البونات ومساراتها، أن صاحب الفرن يعمد إلى بيعها بدلاً من عجنها وخبزها. إذ إن البيع يوفّر أرباحاً أسرع من صناعة الرغيف بكلفة استهلاكية مرتفعة. فعلى سبيل المثال، يبلغ سعر طنّ الطحين المدعوم (وفق سعر صرف 1520 ليرة لكل دولار) نحو مليونين و 850 ألفاً أي ما يقارب 1900 دولار، فيما يمكن بيع الطن بما يراوح بين 1000 دولار أو 1500دولار نقداً، أي ما يزيد على 40 مليون ليرة.
السؤال الثاني يتعلق بحلقة المطاحن. هذه الأخيرة وعوضاً عن طحن كل الكميات المدعومة لتوزيعها على الأفران، تقوم بإخفاء قسم من الكميات المدعومة لطحنها لزوم استخدام صناعة الحلويات، ما يكسبها الكثير من الأرباح الإضافية أيضاً.
الحلقة تبدأ بالمستوردين من أصحاب المطاحن، وتصل إلى مصرف لبنان ووزارة الاقتصاد ثم تستكمل لدى أصحاب الأفران، ووسط هؤلاء كلهم هناك السماسرة الناشطون في شراء البونات وبيعها. وفي هذا السياق، علمت «الأخبار» أن الوزير السابق وائل بو فاعور اتصل بكل من المدعي العام المالي علي إبراهيم والقاضية دورا الخازن التي تتولى التحقيق في الملف وزوّد إبراهيم بتقرير مفصّل ليل أمس يتضمن أسماء مدراء وموظفين وسماسرة متواطئين في ملف أزمة الطحين. ويتضمن التقرير لوائح تُظهر عمليات توزيع الطحين والنهب اللاحق بها. فعلى سبيل المثال، ليس واضحاً لماذا يحصل الـ wooden bakery على 370 طناً من الطحين، يذهب قسم كبير منها إلى إنتاج الحلويات؟ ولماذا يعدّ «فرن قمرين» من الأفران المحظية لدى الوزير؟ وعلمت «الأخبار» أنّ بو فاعور ضمّن في تقريره اسم كل من شقيق الوزير كريم سلام ومستشاره محمد الحريري.
مغارة وزارة الاقتصاد: أفران مقفلة حصلت على بونات طحين مدعوم
الإجابة تكمن في آلية النهب المعتمدة. إذ إنّ صاحب الفرن يتقدم بطلب لدى رئيس دائرة التموين حسن حمود، يطلب فيها الكمية التي يحتاجها. يدرس حمود الطلب ليُقدر الكمية، ثم يُرسل تقريره إلى مدير عام الحبوب في وزارة الاقتصاد جريس برباري الذي يقع على عاتقه إجراء التدقيق اللازم قبل أن يُرسلها إلى الوزير أمين سلام للاستحصال على موافقته. في محطات مختلفة من هذه العملية، تزدحم أرقام الكميات ليتم توزيعها بين أفران محظية وأخرى محرومة تبعاً لحجم العلاقات التي يملكها الشخص أو ارتباطه بالسمسار. وفي هذا السياق، علمت «الأخبار» أنّ التحقيقات كشفت أنّ هناك أفراناً مقفلة تمكنت من الحصول على بونات طحين مدعوم. كما تبين أنّ كميات كبيرة من الطحين المدعوم بدلاً من استخدامها في إنتاج الخُبز، تستخدم في صناعة الكرواسان والحلويات.
هنا تُثار الشكوك حول دور مديرية الحبوب. فهل تقوم بوظيفتها لجهة التثبت من استيفاء الأفران الشروط؟ أو للتأكّد من الوضعية الفعلية لهذه الأفران وما إذا كانت وهمية أم قائمة وتعمل فعلاً؟ والشكوك أيضاً تثار حول دور الوزير ومستشاريه في الضغط على المديرية، أو التباطؤ في ما بينهم وبين الأفران والمطاحن، ولا سيما أنّه من صلب مهام هذه المديرية، بحسب القانون، الإشراف على عمل المطاحن ومراقبة إنتاجها وعمل الأفران والسهر على بيع هذا الإنتاج بأسعار مدروسة ومقبولة. هذا ما يرد حرفياً في نص النظام الداخلي.
كما أن هناك معلومات تشير إلى وجود فواتير مضخّمة و«تمريقات» لمطاحن من دون أخرى واستفحال أزمة الطحين، علماً بأن النيابة العامة المالية تتولى التحقيقات: كيف تصدر البونات؟ من يُقرر الكمية الموزّعة؟ من المستفيدون؟ من المتواطئون؟
هذه الأسئلة الأولية بدأ التحقيق فيها بعد الإخبار الذي تقدم به وزير الاقتصاد أمين سلام الذي استمعت القاضية الخازن لإفادته الأربعاء بناء على الإخبار المقدم، ثم عمدت إلى استدعاء كل من جريس برباري وحسن حمود واستجوبتهما لساعات طويلة قبل تركهما. لكن يجب النظر إلى المسألة من زاوية أوسع، إذ إن فساد المطاحن والأفران والوزارة ليس جديداً. فقد حصل الأمر أيام وزير الاقتصاد سامي حداد، واستمرّ لغاية اليوم من دون أي مساءلة أو محاسبة رغم تحقيقات كثيرة أجريت.