تلهث التطورات تطبيعياً على الصعيد الرسمي العربي. لقد جرى التوقيع في دبي، في 31 أيار/مايو الفائت، على اتفاقية تجارة حرة إماراتية - إسرائيلية، باتت مرشحة لأن تصبح اقتصادياً الاختراق التطبيعي الأعمق والأوسع منذ توقيع "كامب ديفيد"، منتزعةً ذلك "السبق" من اتفاقية الغاز المصرية - الإسرائيلية عام 2020، والتي "انتزعته" بدورها من اتفاقية الغاز الأردنية - الإسرائيلية عام 2016.
ليس بعدُ طبعاً، فاتفاقية التجارة الحرة الإماراتية - الصهيونية يُتوقَّع أن تبلغ قيمتها 10 مليارات من الدولارات خلال خمسة أعوام، بينما تبلغ قيمة صفقة اتفاقية الغاز المصرية مع الكيان الصهيوني أكثر من 20 مليار دولار، وبلغت قيمة اتفاقية الغاز الأردنية - الإسرائيلية أكثر من 15 مليار دولار خلال 10 أعوام، لكن التسارع الكبير في وتيرة التطبيع الاقتصادي الإماراتي - الصهيوني، والآفاق التي تفتحها اتفاقية التجارة الحرة الإماراتية - الصهيونية للتغلغل في مفاصل الاقتصادات العربية، كما سنرى، وضعتها في المقدمة لنيل "جائزة التطبيع الأولى" لهذا العام.
وكان الأردن وقّع اتفاقية تجارة تفضيلية مع الكيان الصهيوني عام 1995، بعد عامٍ من توقيع وادي عربة، لكنها كانت اتفاقية تخفض الرسوم الجمركية على آلاف السلع، وليس اتفاقَ تجارة حرة كاملاً. وفي بداية عام 2010، أصدرت دائرة الجمارك الأردنية بلاغاً يقضي بإعفاء 2500 سلعة مستوردة من الكيان الصهيوني من كل الرسوم الجمركية، استناداً إلى اتفاق عام 1995. بيد أن ذلك الاتفاق، ومتعلقاته، لم يصل، في شموله وزخمه على الأرض، إلى أي شيء يشبه اتفاق التجارة الحرة بين الكيان الصهيوني والإمارات، ولم يسفر عن نقلة نوعية في العلاقات الاقتصادية بين الأردن والكيان الصهيوني، كما الاتفاق الإماراتي.
ولا داعي للتذكير بأن كل تطبيع مدان، صغيراً كان أو كبيراً، وإنما الرجاء إبقاء الاتفاقات الاقتصادية الإماراتية والمصرية والأردنية مع الكيان خلفيةً لما سيأتي في السطور التالية.
التطبيع عربياً يُنتج علاقة هيمنة بالضرورة
إن نشوء منظومة "مركز - محيط"، بين الكيان الصهيوني والمطبّعين العرب، ينبثق من قوانين الاقتصاد السياسي للتطبيع أولاً، والتي ستفرض بالضرورة علاقة غير متكافئة، في صيغة مركز إمبراطوري مهيمن (متروبول) وأطراف تابعة، متأخّرة عنه صناعياً وتكنولوجياً وإدارياً، تدور أصلاً في فلك رأس المال المالي الدولي الذي يحتل فيه اليهود مواقعَ بارزةً (وهو مكوِّنٌ مهم في ظاهرة الإمبريالية المعاصرة، يخاف يساريون كثر المساسَ به حتى بوردة).
كذلك، تنبثق علاقة الهيمنة، على نحو موازٍ، من لدنّ قوانين الجغرافيا السياسية ثانياً، والتي ستفرض علاقة غير متكافئة في صيغة ميزان قوى متهالك بين محيطٍ مفكَّك، مفتقد للإرادة السياسية الموحّدة وللمشروع وللقطب - المرجعية، وتائه هوياتياً، يتوهم أنه "شرق أوسطي"، لا عربي، وينطلق صانعو القرار فيه من حسابات صغيرة، من جهة، وبين غدة سرطانية اسمها "إسرائيل"، من جهةٍ أخرى، هي استعمار في حد ذاتها، لا مجرد امتدادٍ للغرب، وترتبط بحركة صهيونية عالمية تمثل قطباً وشريكاً في المنظومة الإمبريالية العالمية، ككتلة مالية وسياسية منظِّمة لذاتها؛ حركة صهيونية عالمية هي في الواقع أخطبوطٌ دولي، لا مجرد احتلالٍ لفلسطين، وتُمْلي استراتيجيةُ أمنها القومي ضرورةَ تفكيك محيط "إسرائيل" الجغرافي - السياسي ومحو هويته. وأثبتت العقود الماضية أن الكيان الصهيوني، وإن تراجعت قدرته على الغزو والاحتلال المباشِرين، فإن قدرته على التفكيك وإثارة الفتن والاختراق ما برحت خطراً شديداً.
ذلك هو الفارق الجوهري، بالنسبة إلى الشعب العربي، بين العلاقة التطبيعية بين أي طرف عربي، رسمي أو شعبي، وبين الكيان الصهيوني، وبين علاقة الأخير بأي جهة أخرى. فالتطبيع، الذي يجب أن نحاربه في كل حال، أخطرُ، ومدان بصورةٍ أكبر، عندما يكون عربياً، بحكم الجغرافيا السياسية والهوية والانتماء. وكلما اقترب التطبيع من القلب العربي، أو من الشعوب الإسلامية والصديقة، كان أكثر خطراً وإيلاماً، وانطبق عليه، بصورةٍ أدق، تعبير "اختراق".
لذلك، قد لا نكترث كثيراً عندما نعرف أن للكيان الصهيوني اتفاقات تجارة حرة مع كلّ من الولايات المتحدة الأميركية وكندا وعددٍ كبيرٍ من الدول الأوروبية، ومع الاتحاد الأوروبي ذاته. وربما نسخر عندما نعرف أن الكيان الصهيوني وقّع اتفاق تجارة حرة مع أوكرانيا في 21/1/2019. ولا نتفاجأ بأن لديه اتفاقيات تجارة حرة مع المكسيك أو كولومبيا أو باناما، وأنه وقّع اتفاقية تجارة حرة مع كوريا الجنوبية في الشهر الفائت. وربما ننزعج من أن لديه اتفاقيات تجارة حرة مع دول "ميركاسور" في أميركا اللاتنينية، أي الأروغواي وباراغواي والبرازيل والأرجنتين. ومن المؤكد أننا ننزعج أكثر لأنه يفاوض من أجل إقامة اتفاقيات تجارة حرة حالياً مع الهند والصين وفيتنام والاتحاد الاقتصادي الأوراسي وغيره (وكل ذلك هو من "بركات" اتفاقية أوسلو في الواقع).
أمّا تركيا، فالموضوع مغاير عندها، بمقدار اقترابها من الوطن العربي، جغرافياً وثقافياً وسياسياً ودينياً، وبمقدار ما يروّج نظامُها خطاباً منافقاً مؤيداً للقضية الفلسطينية. يُذكَر أن تركيا وقّعت اتفاقية تجارة مع الكيان الصهيوني عام 1996. ولمن يحبون تبرئة حزب العدالة والتنمية الحاكم من تهمة التطبيع، نشير إلى أن تلك الاتفاقية جرى تحديثها مرتين في ظله، عامي 2006 و2007، وهي أساس تصاعد العلاقات التجارية أسياً بين الطرفين إلى مستوى ما برح هو الأعلى في المنطقة حتى اليوم.
لكنّ العبرة ليست في درجة الإدانة فحسب، بل في درجة الخطورة، اقتصادياً وسياسياً، لأن الكتلة الأكثر تماسكاً تطغى على الكتل الأقل تماسكاً، كما يقطع الألماس الفولاذ، بينما المشهد الرسمي العربي الراهن أقرب إلى البلاستيك فعلياً.
في خطورة اتفاقية التجارة الحرة بين الإمارات والكيان الصهيوني
يشكل الألماس أكثر من نصف قيمة التبادل التجاري بين الكيان الصهيوني والإمارات حالياً، والتي بلغت، من دون النفط، أكثر من 2.5 مليار دولار منذ توقيع الاتفاقية بينهما، في أيلول/سبتمبر 2020 حتى آذار/مارس 2022، منها أكثر من مليار دولار في الأشهر الثلاثة الأولى من عام 2022؛ أي أن وتيرة التبادل تتسارع.
قبل الاتفاقات "الإبراهيمية"، كانت وتيرة التبادل التجاري بين الإمارات والكيان الصهيوني نحو 250 مليون دولار سنوياً، وهو معدل قريب من المعدلين الأردني والمصري. لكن، إذا استمرت الحال على هذا المنوال، فإن من المتوقع أن تسبق الإماراتُ حتى تركيا في حجم تبادلها التجاري مع الكيان الصهيوني. وتقدّمت الإمارات، منذ الآن، على التبادل التجاري بين الكيان الصهيوني من جهة، ومصر والأردن من جهة أخرى، من دون الغاز، بعد عقودٍ طوالٍ من "كامب ديفيد" و"وادي عربة".
كذلك وقّع المغرب اتفاقاً للتعاون الاقتصادي مع الكيان الصهيوني في شباط/فبراير الفائت، يُفترض أن يرفع حجم التبادل بينهما إلى نصف مليار دولار سنوياً. أمّا الاتفاقية الاقتصادية مع الإمارات فأوسع نطاقاً بكثير، وهي اتفاقية تُعفي 96% من السلع المتبادلة من الرسوم والجمارك فوراً أو بالتدريج. ووفقاً لوكالة الأنباء الإماراتية الحكومية، "وام"، يوم التوقيع، فإنّ الاتفاقية تهدف إلى "توطيد العلاقات التجارية والاستثمارية وتحفيز التجارة البينية غير النفطية، وصولاً إلى 10 مليارات من الدولارات سنوياً، في غضون الأعوام الخمسة المقبلة".
يغطي الاتفاق الإماراتي مساحاتٍ أوسع من الصادرات والواردات، بالمعنى الحرفي. فهو يشمل المنتوجات الغذائية والزراعة ومستحضرات التجميل والمعدات الطبية والأدوية والتكنولوجيا والألماس والمجوهرات والأسمدة والكيميائيات وغيرها. وهو يحدّد قواعد للمواصفات والمقاييس وضريبة القيمة المضافة على السلع المصنعة excise tax وأسس التعاون بين الطرفين والمناقصات الحكومية والتجارة الإلكترونية وحقوق الملكية الفكرية، بحسب موقع "غلوبس" Globes "الإسرائيلي" في 31/5/2022.
في اليوم ذاته، أشارت صحيفة "وول ستريت جورنال" الأميركية، من جهتها، إلى ما يؤكد أن الاتفاق الاقتصادي الإماراتي - الصهيوني هو موطئ قدم نحو ما يتجاوز التجارة، إذ يقول تقرير الـ"وول ستريت جورنال"، وأترجم حرفياً: "إن الأمل المعقود على المدى الطويل للعلاقة بين البلدين، هو أن تؤسس الشركات الإسرائيلية مشاريع صناعية في الإمارات العربية المتحدة، التي تمثل بؤرة أو محور أسواق "الشرق الأوسط" وآسيا وأفريقيا، والتي لقيت "إسرائيل" صعوبةً في وضع موطئ قدمٍ فيها".
بعيداً عن نظرية المؤامرة، إذاً، وآراء "القوميين العرب المتطرفين"، تقول "وول ستريت جورنال"، في يوم توقيع الاتفاقية الاقتصادية مع الإمارات، إن تلك الاتفاقية هي خطوة في اتجاه جعل الإمارات موطئ قدمٍ للكيان الصهيوني لاختراق الأسواق العربية والآسيوية والأفريقية صناعياً.
وهو قولٌ لا يصدر عن هوىً، بل يعزّزه عدد من التقارير الأخرى. على سبيل المثال، نشر موقع "سويس إنفو" Swiss Info، في يوم توقيع الاتفاقية أيضاً، تصريحاتٍ لرئيس مجلس الأعمال الإماراتي -"الإسرائيلي"، دوريان باراك، يقول فيها: "أصبحت دبي بسرعة مركزاً للشركات الإسرائيلية التي تتطلع إلى جنوب آسيا و"الشرق الأوسط" و"الشرق الأقصى"، كأسواق لسلعها وخدماتها". وتابع أن "ما يقرب من 1000 شركة إسرائيلية ستعمل في الإمارات العربية المتحدة، ومن خلالها، بحلول نهاية العام".
المسألة ليست مسألة تحليلٍ أو وجهة نظرٍ، إذاً، بل مسألة توجه استراتيجي صهيوني واضح من أجل جعل الإمارات (والمغرب لاحقاً) منطلقاً للاختراق في الوطن العربي، اقتصادياً وصناعياً. أمّا الأسواق الآسيوية، فعلى الصهاينة أن يناطحوا عمالقتها الاقتصاديين، ولن يستطيعوا استباحتها. أمّا الأسواق الأفريقية جنوب الصحراء، فعلى الصهاينة أن ينافسوا الشركات الصينية والغربية فيها، حتى لو تغلغلوا بعض الشيء في جنباتها. أمّا الميدان الاقتصادي (وغير الاقتصادي) المستباح، فهو الميدان العربي الذي أطلقت عليه المؤسسات الإمبريالية زوراً مسمى "الشرق الأوسط" وشمال أفريقيا MENA تمهيداً لاستباحته ذاتها، لأن نزع الهوية، ونزع الروح، صنوان.
ذلك هو معنى استراتيجية تجديد حياة "إسرائيل" في عقدها الثامن: التحول إلى إمبراطورية "شرق أوسطية" على أنقاض الوطن العربي؛ أي السعي لقطف ثمار الوحدة العربية من دون وحدة عربية، لا بل في ظل مزيد من التفكيك. وسبق أن وضعتُ بحثاً بعنوان "المصلحة الاقتصادية في الوحدة العربية كمسألة رياضية"، أشرت في خاتمته إلى أن الكيان الصهيوني يمكن أن يجيّر تلك المصلحة لجيبه من دون وحدة عربية:
"لا بد من التنبيه أيضاً إلى أن فوائد الوحدة الاقتصادية العربية ليس بالضرورة أن تذهب للعرب، فلو تمكّن الاستعمار التركي منا مجدداً مثلاً، أو لو تمكّن العدو الصهـيوني من التغلغل تطبيعياً في الأقطار العربية، فإن الفوائد الاقتصادية للوحدة العربية ستذهب لأعدائنا، وسيبدو للسطحي ضيق الأفق أن من يحتلنا يمتلك "سحراً" لا نعرف كنهه، وأننا ملعونون إن لم نتبعه ونقلده. فيما مشروع تفكيك الأقطار العربية الجاري على قدمٍ وساقٍ اليوم يعني اقتصادياً أن الصناعات والنشاطات الاقتصادية المجدية في الأقطار المفككة ستكون أصغر فأصغر، وأقل قدرةً على القيام بأود من يعيش فيها. وحيث كانت الصناعات ذات الدوالّ الإنتاجية ثابتة العائد والتكلفة مجدية، لن يعود مجدياً إلا النشاط الاقتصادي الأصغر حجماً والأقصر مدى والأسرع مردوداً، أي الأقل إنتاجيةً. وذلك هو معنى التطبيع أو الالتحاق بالمشروع العثماني أو "المشرقي" بالمحصلة" (المصدر: مجلة "طلقة تنوير"، العدد 79، 1 كانون الثاني / يناير 2022، ص. 16).
اتفاق الشراكة الصناعية بين الإمارات ومصر والأردن: هل هو ملحق سري؟
الداعي إلى الحديث عن المصلحة الاقتصادية، التي يمكن إثباتها رياضياً، في الوحدة العربية، هو إعلان اتفاق شراكة صناعية بين الإمارات ومصر والأردن، قبل يومين فقط من توقيع الاتفاق الاقتصادي الإماراتي - الصهيوني، يشمل الزراعة والأغذية والأسمدة والأدوية والمنسوجات والمعادن والبتروكيميائيات. وجرى تأسيس صندوق من 10 مليارات من الدولارات لتمويل مشاريعه.
من البديهي أن أي مواطن عربي مخلص لأمته وبلاده، ومدركٍ مصلحتَه الخاصة، لا يمكن إلّا أن ينتعش من أي خطوة تكاملية حقيقية بين الاقتصادات العربية. لكنّ السذاجة، في المقابل، لا تُسعف أحداً في تقييم الواقع موضوعياً، إذ لا بد من التساؤل هنا:
أ - هل هي صدفة أن اتفاق الشراكة الصناعية الإماراتي – المصري - الأردني جرى توقيعه في أبو ظبي، قبل يومين فقط من توقيع الاتفاق الاقتصادي بين الإمارات والكيان الصهيوني في دبي؟
ب – هل هي صدفة أن تلك الدول العربية الثلاث مرتبطة باتفاقيات ومعاهدات مع الكيان الصهيوني؟
ج – هل هي صدفة أن اتفاق الشراكة الصناعية الثلاثية يغطي كثيراً من المنتوجات ذاتها التي يغطيها الاتفاق بين الإمارات والكيان الصهيوني؟
هل هو اتفاق رباعي يضم الكيان الصهيوني، بصورةٍ غير معلنة، إذاً؟ وهل نتحدث هنا، فعلياً، عن خطوة من خطوات ترجمة رؤية شمعون بيريز، التي قدمها في كتابه "الشرق الأوسط الجديد"، الصادر عام 1993، عن "سوق شرق أوسطية مشتركة"، تقوم على تضافر رأس المال الخليجي واليد العاملة العربية والعقل اليهودي، على حد تعبيره؟ ويُذكَر أن ستة فصول من كتاب بيريز المذكور، المتكون من 14 فصلاً، تتناول الشأن الاقتصادي حصرياً، بينما تتضمن سائر فصول الكتاب مكوناً اقتصادياً بارزاً.
قد لا نحتاج إلى انتظار قادم الأيام كي نعرف الإجابة. فرأس المال الخليجي يتدفق بغزارة في اتجاه الكيان الصهيوني، منذ أشهر، لتمويل شركات التكنولوجيا الصاعدة (العقل اليهودي؟). ويشير تقرير لصحيفة "وول ستريت جورنال"، في 14/1/2022، إلى أن "شركة مبادلة للاستثمار"، المملوكة بالكامل لحكومة أبو ظبي، والتي تجلس على رأس مال يقارب 300 مليار دولار، ألقت 100 مليون دولار في بداية العام الجاري في اتجاه عددٍ من شركات التكنولوجيا الإسرائيلية المبتدئة كي تمكّنها من التوسع في "الشرق الأوسط". وكانت تلك مجرد "فتحة عدّاد"، بينما تتوجه العشرات من شركات التكنولوجيا الإسرائيلية إلى تأسيس فروعٍ لها في الإمارات.
وكانت الذراع النفطية والغازية لـ"شركة مبادلة للاستثمار" اشترت حصة بقيمة 1.1 مليار دولار في حقل "تامار" الغازي العربي الفلسطيني المحتل، بلغت 22% من قيمته وقت الشراء، عام 2021. ويُذكَر أن لدى الإمارات عدة صناديق سيادية، وأن صناديق أخرى غير "مبادلة"، مثل "شركة أبو ظبي التنموية القابضة"، التي تجلس على نحو 110 مليارات دولار، كانت استثمرت 105 ملايين دولار في مزارع "ألِف" الصهيونية، والتي تعمل على تطوير شرائح لحم steak في المختبر، على سبيل المثال، لا الحصر. فهناك، مثلاً، اتفاقية شركة الصناعات الجوية الإسرائيلية مع الخطوط الإماراتية لتحويل 4 طائرات ركاب إلى طائرات شحن، واتفاقها مع شركة عسكرية إماراتية، اسمها Edge، لإنتاج مسيّرات بحرية، تبحر في المياه، وذلك في تشرين الثاني/نوفمبر 2021. وهناك اتفاقات ذات بُعد إقليمي أيضاً، مثل الاتفاق الإماراتي – الأردني - الصهيوني، في تشرين الثاني/نوفمبر 2021، والذي تبني شركة إماراتية بموجبه مصنع طاقة شمسية في الأردن لتزويد مصنع تحلية مياه في الكيان الصهيوني بالكهرباء، كي يزوّدَ المصنعُ الصهيوني الأردنَ بمياه البحر المحلاة.
الانجراف في لعبة دولية كبرى تستهدف الصين (وإيران)
تَرافَق توقيع الاتفاق "الإبراهيمي" بين الإمارات والكيان الصهيوني في أيلول/سبتمبر 2021 مع إعلان إنشاء صندوق إماراتي عام وخاص بقيمة 10 مليارات من الدولارات للاستثمار في "إسرائيل" و"بمحاذاتها". وربما لا يكون هذا مفاجئاً البتة، مهما يكن مؤسفاً، بيد أن إعلان إنشاء صندوق استثماري إماراتي آخر مؤخَّراً بقيمة 10 مليارات من الدولارات في تركيا كان هو المفاجئ، بالنظر إلى سجل العلاقات المتوترة بين الطرفين، والصراعات الإقليمية الحادة التي دخلا فيها على طرفي نقيض في الأعوام الفائتة.
انفرجت التوترات الإماراتية - التركية فجأةً، من دون أن تنفرج الصراعات الإقليمية التي سببتها. لماذا تلقي الإمارات بطوق نجاة إلى نظام أردوغان الذي حارب الإمارات وحلفاءها، وأساء إليها كما لم يفعل أحد من قبلُ، لنراهما يتفاوضان الآن على اتفاق تجارة حرة أُسوةً بالاتفاق الموقع بين الإمارات والكيان الصهيوني؟
للأسف، القصة أكبر من الإمارات وتركيا وعلاقاتهما البينية (لذلك، لا تنعكس إيجابياً بالضرورة على سوريا، بل تشجع إردوغان على التمادي في الاعتداء على الشمال السوري). القصة تبدأ من الهند، إذ إن اتفاق التجارة الحرة الإماراتي - الصهيوني كان الثاني بعد اتفاق الشراكة الاقتصادية الشاملة بين الإمارات والهند، والذي دخل حيز التنفيذ في شهر نيسان/أبريل الفائت.
ثمة مايسترو غربي، أميركي تحديداً، يضبط الإيقاع. وفي ورقة مهمة بعنوان "التعاون الاقتصادي الإماراتي - الإسرائيلي: جذور قديمة وعائدات وفيرة"، نُشرِت في موقع معهد هوفر الأميركي، Hoover Institute، في 8 آذار/مارس من عام 2022، وأعاد نشرها موقع "مركز واشنطن لسياسة الشرق الأدنى"، أحد معاقل اللوبي الصهيوني، في اليوم ذاته، ثمة رؤية لمجموعة رباعية اقتصادية، تضم كلاً من الولايات المتحدة والهند والإمارات و"إسرائيل"، وتوازي الرباعية السياسية والأمنية، أو ما يسمى "الحوار الأمني الاستراتيجي"، الذي يضم كلاً من الولايات المتحدة والهند واليابان وأستراليا، وتلك الرباعية، الأولى، المعروفة باسم Quad، موجَّهة علناً من أجل احتواء الصين. فماذا عن الثانية، التي تضم الإمارات والكيان الصهيوني؟
مشروع الرباعية الثانية واضح، وثمة طموح إلى ضم تركيا وإندونيسيا إليه. وهو يقوم على إنشاء تكتل اقتصادي قاري يمتد من تركيا، إلى الإمارات، إلى الهند وأندونيسيا، في وجه الصين. وكما تقول الورقة التي تُختَتَم بالفقرة التالية: "بينما ما برحت "الرباعية الجديدة" (أو الرباعية الثانية؟) حديثة السن، إلّا أنها نشطة. من الممكن أن يحفّز التكامل الإقليمي الأكبر، ونشوء كتل اقتصادية ما فوق قومية، مزيداً من المنافسة في الأسواق الإقليمية، بحيث لا يبقى الخيار محصوراً بين الولايات المتحدة والصين فحسب".
لكنّ الكلام على بديل ثالث للصين والولايات المتحدة هنا هو نوعٌ من الهراء الدعائي في الحقيقة، لأن الولايات المتحدة هي الركن الأساس فيما يُفترض أن يصبح بديلَ الصين، في الرباعيتين! وذكرت ورقة "معهد هوفر" ذاتها أن إحدى ثمار الاتفاقات "الإبراهيمية" كانت تأسيس "مجموعة عمل" في تشرين الأول/أكتوبر من عام 2021، أي بعد أسابيع قليلة من توقيع الاتفاقات "الإبراهيمية"، تضم وزراء خارجية الولايات المتحدة الأميركية والهند والإمارات و"إسرائيل"؛ أي أن العمل بدأ فعلياً في هذا الاتجاه، فأهلاً وسهلاً بالخيار "الثالث"!
من البديهي أن الأطراف المشتركة في مثل هذه الرباعية الثانية تنطلق من أولويات متباينة، ولو اجتمعت على الإطار العام. فالهم الأعظم للولايات المتحدة والهند هو احتواء الصين، والهم الأعظم للكيان الصهيوني والإمارات هو احتواء إيران. وتمت الموافقة على منح إيران العضوية الكاملة في "منظمة شانغهاي للتعاون" بعد 48 ساعة من توقيع الاتفاق "الإبراهيمي" في 15 أيلول/سبتمبر 2021 في "البيت الأبيض"، وهو توقيتٌ ذو مغزى في رقعة الشطرنج الكبرى، لخريطة الاصطفافات الدولية، ولإيران التي كانت أبدت رغبةً في الانضمام إلى "منظمة شانغهاي للتعاون" منذ عام 2000.
تشكَّلت "منظمة شانغهاي للتعاون" من روسيا والصين وعدد من دول آسيا الوسطى عام 2001، وجرت توسعتها بالموافقة على منح الهند (القريبة من روسيا) وباكستان (القريبة من الصين) العضوية في اليوم ذاته عام 2015، لتحقق الهند وباكستان شروط الموافقة كاملة في اليوم ذاته أيضاً عام 2017.
وفي 17/9/2021، بعد يومين فقط من توقيع الإمارات والبحرين اتفاقيهما مع الكيان الصهيوني برعاية أميركية، جرت الموافقة رسمياً على ضم إيران إلى "منظمة شانغهاي للتعاون". ولا تزال إيران في حاجة إلى وقتٍ لتحقيق شروط الانضمام كاملة. كما تمّ اتخاذ خطوة أخرى ذات مغزى كبير، في اليوم ذاته أيضاً، هي فتح حوار استراتيجي بين "منظمة شانغهاي للتعاون" من جهة، وكلّ من مصر وقطر والسعودية من جهة أخرى.
الولايات المتحدة، إذاً، تسعى لجرّ الهند بعيداً عن روسيا، ولتعميق تناقضاتها مع الصين. والكيان الصهيوني يسعى للتربّع على عرش إمبراطورية "شرق أوسطية"، وأن يعبّئ رأس المال الخليجي والقوة العاملة العربية ضمن ذلك الإطار. وتعمل الولايات المتحدة على توظيف ذلك المشروع الصهيوني في إنشاء قوس اقتصادي آسيوي، أو جبهة اقتصادية - سياسية قارية، تمتدّ من تركيا إلى إندونيسيا من أجل احتواء الصين (وروسيا). والعقدة في ذلك القوس، بالنسبة إلى الأميركيين، هي منطقة إيران والعراق وسوريا ولبنان. وعلى الهامش، يصعب فهم السعي الأميركي للتهدئة في اليمن خارج سياق هذا المشروع الأميركي.
من هنا، دخل الروس والصينيون على الخط، وأعلنوا إيران جزءاً من "منظمة شانغهاي للتعاون"، وحاولوا إحداث اختراق في القوس بتعزيز العلاقة بقطر ومصر والسعودية. أمّا الصراع على العراق فما برح مفتوحاً، وربما يكون مرشَّحاً للتصاعد إذا لم ينجح نظام إردوغان أولاً في تجفيف العراق من الماء حتى الموت.
ومن البديهي أن الصراع على سوريا، والسعي لاستخدام أسلوب "العصا والجزرة" معها، ليسا مرشَّحين للانفراج قريباً، إن لم نقل إنهما مرشحان للتصاعد. ولا خيار، لسوريا، ولكل عربي شريف، إلّا الاصطفاف مع روسيا والصين وإيران في هذه المعادلة، كما لا خيار للحلفاء إلا الوقوف مع سوريا أكثر فأكثر، وهو ما ظهرت تباشيره، على سبيل المثال، بلهجة روسية وصينية أكثر وضوحاً وصرامةً في مجلس الأمن.
من جهةٍ أخرى، إن تناقض الأنظمة الخليجية مع إيران، والذي دفعها إلى تعميق علاقاتها بالكيان الصهيوني، في ظل انسحاب الإدارة الأميركية من المنطقة، والانسحاب من أفغانستان، وترك نظام زيلينسكي لمصيره في أوكرانيا، وظَّفه الكيان الصهيوني بفعالية من أجل إحداث اختراقات تطبيعية عميقة وبنيوية عبر البوابة الإماراتية (والمغربية). وقد تبدو تلك الاختراقات التطبيعية اقتصاديةً محضة، وهي في جانبٍ منها اقتصادية فعلاً، لكنّ مآلها يبقى جيواستراتيجياً في المحصلة.
التطبيع السعودي مع الكيان الصهيوني اقتصادياً
في عام 2005، أعلنت السعودية إنهاء الحظر على السلع والخدمات الإسرائيلية لتحقيق أحد شروط انضمامها إلى منظمة التجارة العالمية. لكنّ مقاطعة المنتوجات الإسرائيلية لم تُرفَع رسمياً بعد. وفي 23 تموز/يوليو (والتاريخ ذو مغزى) من عام 2016، زار أنور عشقي الكيان الصهيوني على رأس وفد من الأكاديميين ورجال الأعمال السعوديين المعنيين ببناء علاقات بالعدو الصهيوني. وفي 2/9/2020، سمحت السعودية للطيران القادم من الكيان الصهيوني والذاهب إلى الإمارات بالمرور عبر أجوائها (ويجري الحديث الآن عن انفتاح جوي شامل على الطيران "الإسرائيلي"). وفي الشهر الذي يليه، التقى بنيامين نتنياهو ومايك بومبيو، وزير الخارجية الأميركي آنذاك، محمد بن سلمان في مدينة "نيوم".
وعلى الرغم من تقارير كثيرةٍ بشأن علاقات تجارية سرية بين السعودية والكيان الصهيوني، منها مثلاً بعض ما يجري استيراده عبر ميناء حيفا ونقله عبر الأردن إلى الدول الخليجية، فإن تلك العلاقات بقيت في الظلال، ولم تتضح معالمها، باستثناء تسريبات هنا وهناك، يسهل تكذيبها، عن علاقات تجري في الخفاء تحت لافتة شركات غربية أو شرقية.
أمّا في الأسابيع الأخيرة، فبدأت العلاقات الاقتصادية السعودية - الصهيونية تتخذ شكلاً شبه علني، يتضمن معلومات محددة من مصادر غربية وإسرائيلية، وهو ما يؤكد فكرة أن التطبيع السري هو دوماً موطئ قدمٍ للتطبيع العلني، كما يؤكد أن التطبيع "الإبراهيمي" يعزز مسارات التطبيع غير "الإبراهيمي".
الخبر - القنبلة جاء في تقرير لصحيفة "وول ستريت جورنال" الأميركية، في 8/5/2022، يقول إن الصندوق السيادي السعودي أوكل ملياري دولار لشركة صهر دونالد ترامب، واسمها Affinity Partners، مع تفويض لجاريد كوشنر، صهر ترامب، باستثمار ما يراه ملائماً من ذينك المليارين في الكيان الصهيوني. وتشير التقارير إلى أن توجّه كوشنر هو تركيز الاستثمار السعودي على شركات التكنولوجيا المتقدمة الإسرائيلية. ونلاحظ أن ضخّ الأموال في هذا الاتجاه هو التوجه الإماراتي ذاته الذي أشرنا إليه أعلاه، وأنه يصبّ في المآل الجيوسياسي ذاته.
يشير تقرير آخر في موقع "المونيتور" الأميركي، في 2/6/2022، إلى أن هذه ليست الحالة الوحيدة التي تستثمر فيها السعودية في شركات تكنولوجيا إسرائيلية، وإلى أنها تموّل أيضاً شركات تكنولوجيا عسكرية إسرائيلية تعمل بعقود مع وزارة الدفاع الأميركية، مثل شركتي Zimperium وCybereason، عبر صندوق آخر يديره وزير المالية السابق في عهد ترامب، ستيف منوخين. ومنوخين وكوشنر، كلاهما يهودي طبعاً، وصهيوني. (للعلم، فإن منوخين مستثمر كبير جداً، وأحد نشاطاته الجانبية هو تمويل بعض أفلام هوليوود البارزة، مثل سلسلة X-men، والجزء الرابع والأخير من سلسلة Mad Max: Fury Road، وغيرهما).
على صعيدٍ آخر، يشير تقرير "المونيتور" ذاته إلى أن عشرات رجال الأعمال الإسرائيليين تدفّقوا مؤخراً وأتوا إلى الرياض و"نيوم"، وأن صفقات كثيرة يجري توقيعها حالياً مع القطاع الخاص السعودي. وهذا فضلاً عن اللقاءات والصفقات، التي تُعقد بين رجال الأعمال السعوديين ورجال الأعمال الإسرائيليين، في كلّ من أبو ظبي ودبي والمنامة.
قالت صحيفة "جيروزاليم بوست"، من جهتها، في 2/6/2022، إن بعض رجال الأعمال الإسرائيليين يركب طائرات خاصة من مطار "بن غوريون" إلى الرياض، وإن اجتماعاً سرياً يجري التحضير له حالياً بين مسؤولين سعوديين وإسرائيليين، سوف يتناول قضايا عسكرية واقتصادية، وربما يتضمن توقيع اتفاقات في مجال أبحاث الطاقة والزراعة والطب.
أمّا التطبيع البحريني مع العدو الصهيوني، اقتصادياً، فأرقامه المتاحة للعموم تبدو متواضعة حتى الآن، وتقتصر على بضع عشرات ملايين الدولارات، على الرغم من كثرة التقارير عن جلسات واتفاقات لتعزيز التجارة والاستثمار بين الطرفين، ولاسيما بعد توقيع اتفاق التطبيع "الإبراهيمي" بينهما. وستُبدي لك الأيام ما كنت جاهلاً.
تابعوا آخر الأخبار من icon news على WhatsApp تابعوا آخر الأخبار من icon news على Telegramنسخ الرابط :