كان من المفترض أن تشكّل الانتخابات النيابية المقبلة منعطفاً اساسياً يؤسّس لبناء طبقة سياسية جديدة تستند الى ذهنية جديدة وصحيحة لمقاربة الشأن العام. ومع اقفال باب الترشيحات يبدو أن هذا المنال بعيد التحقق، لكي لا نقول اننا قد نشهد احباطاً اضافياً لدى اللبنانيين. شركات الاحصاء اللبنانية والاجنبية، أجمعت على ان نسبة تفوق الـ60% غاضبة من الطبقة السياسية الحالية وتريد الاقتصاص منها، وهو ما دأبَ الخبير الانتخابي كمال فغالي على ترداده خلال إطلالاته الاعلامية المتتالية.
هذه النسبة التي صقلها انفجار الشارع في 17 تشرين كان من المفترض ان تجري «كودرتها» في اطار صحي صحيح. ووفق فغالي فإنه لو قدّر لهذه النسبة ان تخوض الانتخابات تحت لواء قيادة جدية موحدة، لكانت حصدت نحو نصف مقاعد المجلس النيابي. لكن هذا لم يحصل، والغالب ان احباط الشارع مرشح لأن يترجم استنكافاً عن المشاركة خصوصا على مستوى الساحتين السنية والمسيحية.
والحماسة التي كانت سائدة والتي شعر بها المراقبون إثر الرقم المرتفع للتسجيل الذي سجله المغتربون، تراجعت بعض الشيء. وليس سراً أن اطراف الطبقة السياسية عملت على مواجهة تبدّل المزاج الشعبي الذي تَظهّر في 17 تشرين، من خلال العمل على تحقيق مسألتين:
الاولى، وهي باختراق المجموعات وضربها بعضها ببعض واظهارها وكأنها تعمل وفق مبدأ «زيح كي اجلس مكانك»، اي ان الذهنية لن تتبدل، وان اهداف البعض شخصية وتطاول استحقاقات مستقبلية.
والثانية، وهي العمل على خفض نسبة المشاركة في الاقتراع الى الحدود الدنيا، ما سيعني احتفاظ القوى السياسية بـ«بلوكاتها» للاقتراع، والتي هي قائمة على الحزبيين في مقابل تدنّي نسبة المقترعين من الشريحة التي تصنف كرأي عام وكمستقلين، وهو ما سيسمح بالحد قدر الامكان من خسارة المقاعد.
قد تبدو اللعبة عادية في اطار التنافس الانتخابي العادي، لكن ثمة ما هو أبعد وأعمق تفرضه الظروف التي تمر بها المنطقة والتوقيت الاقليمي الدقيق. فنحن على ابواب متغيرات كبرى في المنطقة لإعادة رسم الخريطة السياسية، وهو سيبدأ فور استعادة العمل بالاتفاق النووي الايراني وقد زادَ من حجم التبدلات المتوقعة والمنتظرة الآثار الهائلة المترتبة للحرب الضروس الدائرة في اوكرانيا. تكفي الاشارة الى سقوط النظرية التي سادت خلال السنوات الماضية حول تراجع الاهمية الاستراتيجية لمنطقة الشرق الاوسط والخليج العربي، بعدما تبيّن انّ وضع هذه المنطقة في درجة متأخرة من الاهتمامات هو خطأ قاتل.
وبالتالي، فإنّ النظر الى الاستحقاق النيابي من الزوايا الداخلية البحتة هو بدوره خطأ قاتل.
وخلال المرحلة الاخيرة طُرحت مئات الاسئلة حول مصير الساحة السنية بعد خروج الرئيس سعد الحريري ومعه تيار «المستقبل» من الحياة السياسية اللبنانية، والاهم موقف السعودية مما يدور.
وخلال الايام الماضية تَصدّر الرئيس فؤاد السنيورة الحركة الانتخابية على الساحة السنية. صحيح انه لم يتقدم بترشحه، لكنه اكد الانخراط في الحركة الانتخابية. غالب الظن أنه يريد بعدم ترشحه الحَدّ قدر الامكان من حساسية الحريري تجاه أي وريث لموقعه وبالتالي محاولة حماية نفسه من الحملات السياسية عليه، ولكن في مقابل تزخيم نشاطه الانتخابي.
في نادي رؤساء الحكومة السابقين ثمة تعريف للسنيورة بأنه الاقرب الى السعودية والذي ما يزال يحتفظ بعلاقة مع مسؤوليها ويليه في ذلك الرئيس تمام سلام. وهو ما يدفع الى الاستنتاج بأن حركة السنيورة ليست بعيدة عن المناخ السعودي، وما عزّز هذا الانطباع التواصل اليومي الحاصل بينه وبين رئيس حزب «القوات اللبنانية» سمير جعجع، على رغم من انّ المعروف عن السنيورة انه على الصعيد الشخصي، لا «يود» جعجع كثيراً. ما يعني انّ هنالك مَن يدفع في هذا الاتجاه، والواضح الثلاثي الانتخابي الذي يعتمده السنيورة هو في الاتّكاء بنحوٍ رئيسي على تحالف ترتكز قاعدته الاساسية اضافة اليه، على «القوات اللبنانية» والحزب التقدمي الاشتراكي.
لكن على المقلب الآخر لا تبدو الامور بالبساطة التي يتم تصويرها فلا بد من التعمق اكثر في تَشابك خيوطها.
منذ فترة ليست بقصيرة طرحَ رئيس «التيار الوطني الحر» وفي اكثر من مناسبة موضوع التعديل الدستوري، وهو الذي يعرف تماماً ان فتح باب تعديل اي بند سيعني فعلياً الانتقال الى صَوغ دستور جديد، والمعروف انّ صاحب الكلمة الفصل يكون الفريق صاحب الحضور الاقوى في المعادلة على الساحة.
لاحقاً، تحدث باسيل عن مداورة في الرئاسات بين المذاهب الثلاث، الموارنة والسنة والشيعة. وهو ما يشكل مدخلاً ممتازاً للمثالثة. وبالأمس، وخلال مهرجان اعلان اسماء مرشحي «التيار الوطني الحر»، تحدث باسيل، في ما يشبه برنامج العمل، بالعمل على تطوير النظام السياسي.
وفي الوقت نفسه قال الامين العام لـ»حزب الله» السيد حسن نصرالله، خلال لقائه كوادر الحزب، انّ «معركتنا هي بإنجاح حلفائنا».
ما من شك في أن احتكاكات اعلامية عدة حصلت بين جمهوري «التيار الوطني الحر» و»حزب الله» وقد تكون القاعدة الناخبة للحزب لا تستسيغ كثيرا اسلوب باسيل السياسي. أضف الى ذلك انّ التنافر معروف بين قاعدتي التيار وحركة «امل»، لكن ثمة ما هو ابعد واعمق دفعَ بالسيد نصرالله الى اختصار عنوان المعركة بأنها «لإنجاح الحلفاء».
في السابق قيل ان «حزب الله» سيسعى لتأمين 6 مقاعد نيابية للتيار حتى ولو غضب بعض الحلفاء مثل «المردة» والقوميين، اضافة الى المساعدة في دوائر اخرى. وانطلاقاً مما سبق فإنه من المنطقي الاعتبار أن مرحلة ما بعد الانتخابات النيابية ستفتح باب تغيير النظام السياسي المعمول به في لبنان، طالما ان المرحلة هي مرحلة صوغ دستور جديد في سوريا وترتيب الصورة في العراق. وبالتالي، فإن التوقيت يصبح مثالياً لطرح دستور لبناني جديد على بساط البحث.
ألم يحصد الرئيس الفرنسي ترحيباً حين طرح الدعوة الى عقد اجتماعي جديد لدى زيارته الثانية للبنان؟ اضف الى ذلك التزامه بالدعوة الى مؤتمر ستحضره الاطراف اللبنانية في باريس بعد الانتخابات النيابية. وهو ما سيعني ان البعض سيستعد لطرح صيغة سياسية جديدة للحكم.
وفي الاطار عينه لا بد من الاشارة الى الاهتمام الدائم للفاتيكان بالازمة اللبنانية. وكرّر قداسة البابا فرنسيس اكثر من مرة خشيته على وجود لبنان وعلى مصير التعايش بين الطوائف فيه، مُنتقداً بحدة الذين «يغلبون» المصلحة الخاصة على العامة.
وعلى الرغم من هذا الاهتمام والكوارث الهائلة التي ضربت الساحة اللبنانية وفي طليعتها كارثة انفجار المرفأ، إلا انّ البابا الذي يريد زيارة لبنان، آثَر عدم حصول زيارته في هذه المرحلة، وهو ما فُسّر بأنه لعدم منح «نقاط» للسلطة القائمة حالياً.
في الواقع، الكواليس الديبلوماسية تتحدث عن زيارة ستحصل ولكن بعد انتخاب رئيس جديد للجمهورية. وما استجدّ هو انّ الفاتيكان حَدد زيارة للرئيس ميشال عون بعد انتظار.
الأرجح انّ الكرسي الرسولي القَلِق على مستقبل لبنان «الذي نعرفه» سيطرح بالتفصيل للهواجس التي تُقلقه.
تابعوا آخر الأخبار من icon news على WhatsApp تابعوا آخر الأخبار من icon news على Telegramنسخ الرابط :