إلى أن يأتي أوان سير الأفرقاء في عكسها، فإن انتخابات أيار واقعة حتى إشعار آخر. لن تظهر إشارات التلاعب بموعدها وتأجيلها سوى تدريجاً، ككرة تتدحرج بين أقدام فيما رؤوس أصحابها تتظاهر بالإغماض. حتى ذلك الوقت، الجميع تقريباً يخشى الاستحقاق، وهو يجهر باستعداده له
أسباب شتى تدعو أكثر من طرف إلى إجراء مراجعة في تعاطيه مع انتخابات 15 أيار 2022. قانون الانتخاب أصبح مجرّباً الآن بعدما غشّ أكثر من جهة قبلت به، ثم ندمت عليه، وهي الآن مقيّدة بالسير فيه. المرشحون المترددون في تقديم طلباتهم ـ وإن أعلن البعض منهم عزمه على خوضها ـ ينتظرون التحقق من احتمال دخولهم في اللوائح المقفلة الملزمة، وهو الشرط الفعلي لقبول ترشحهم. مع أن التحالفات باتت شبه معروفة كما بين الحزب التقدمي الاشتركي وحزب القوات اللبنانية، وبين حزب الله وحركة أمل، وبين حزب الله والتيار الوطني الحر، وكذلك شبه معروفين أعداء هؤلاء الحلفاء وهم منافسوهم، بيد أن الإفصاح عن التحالفات غير كاف تماماً في ظل فخيْ القانون: الحاصل الانتخابي المتأتي من مجموع الأصوات التي تحوزها لائحة الائتلاف، والأصوات التفضيلية الفردية المفضية إلى الفوز. كلٌ من الحلفاء يحتاج إلى آخر للوصول إلى الحاصل، لكنه مضطر إلى الاستغناء عنه عند عدّ الأصوات التفضيلية، بغية وصوله إلى أكبر عدد من المقاعد. ينطبق ذلك أيضاً على اللوائح المنافسة. بذلك يصحّ وصف قانون 2017، بعد تجربة 2018 وعلى أبواب انتخابات 2022، بأنه قانون السكاكين المسنونة.
من المفترض أن تُستعاد الأسباب هذه في استحقاق 2022، تبعاً لما خبرته لوائح انتخابات 2018. إلا أن العامل غير المحسوب في اللعبة المكرّرة هو خروج الرئيس سعد الحريري وتيار المستقبل من خوض الانتخابات، دونما أن يُعدّ ذلك إحجاماً للطائفة السنّية عن الاقتراع للمقاعد الـ27 المحددة لها. مغزى المعضلة الجديدة يكمن في توقيت خروج الحريري وتياره ـ أو إخراجهما ـ من المعادلة السياسية الحالية، على أبواب انتخابات نيابية عامة ثم انتخابات رئاسية، ناهيك بحكومة جديدة تلي الأولى، ثم حكومة ثانية تلي الثانية ما لم تعمّر حكومة الشغور، من دون أن يكون للرئيس السابق للحكومة ولتياره أي دور في كلا الاستحقاقين. لا يُبعد الرجل عن انتخابات أيار فحسب، بل عن مجمل الحقبة المهمة التي ستليها. عنى ذلك أيضاً كأن تكون طائفته، بما يرمي إليه تمثيله إياها، خارج الاستحقاقات المقبلة.
لكن الوجه الآخر للمعضلة المستجدة، بعد اعتزال الحريري، أن الأفرقاء الباقين أضحوا أكثر من أي وقت مضى معنيين باستقطاب الشارع السنّي. ليست مفارقة أن يكون السنّة، كالمسيحيين وخلافاً للدروز والشيعة، منتشرين وإن بتفاوت في كل الدوائر الانتخابية ناخبين وأصحاب مقاعد، أو ناخبين بلا مقاعد، ما يشير إلى كونهم عنصراً أساسياً تقريباً في توازنات التصويت في الدوائر كلها: في بيروت حصتهم أساسية في الدائرتين، في الشوف الأوسط مرجحون، في الشمال أصحاب البيت، في بعلبك ـ الهرمل كما في البقاعين الأوسط والغربي في صلب التحالفات كما في المنافسة، انتهاء بالجنوب. في كل من الدوائر هذه، ناخبين أو أصحاب مقاعد، هم أساسيون في التحالفات التي يحتاج إليها الأفرقاء الآخرون، مقدار ما هم أيضاً خصم مقلق لمنافسيهم في القوى والأحزاب والطوائف الباقية. للفور، على إثر انسحاب الحريري من الحياة السياسية، وإيعازه إلى تياره باللحاق به، سارع الأطراف الآخرون، حلفاؤه التقليديون أو العابرون أو خصومه، إلى التأكيد أن أياً منهم لا يفكر في وضع اليد على مقاعد الطائفة أو الاستيلاء عليها، مع أن سنّياً سيجلس على مقعد سنّي لن يبقى شاغراً، على نحو ما خبره المسيحيون في انتخابات 1992.
ما يجري داخل الطائفة السنّية منذ 24 كانون الثاني، يوم أعلن الحريري اعتزاله، يحاول ملء فراغين كبيرين نشأا للتو: غياب قائد الشارع السنّي المكرَّس للحريري منذ عام 2005 ومن قبله لوالده الرئيس الراحل رفيق الحريري مذ خاض انتخابات 1996، وتشتت الشارع السنّي الذي التصق بقائديه المتتاليين وها هو اليوم يجد نفسه من دونهما. مر السنّة في حال مماثلة، بيد أنها لم تدم أكثر من شهرين، ما بين اغتيال الحريري الأب وتولي ابنه سعد عباءة البيت. مع ذلك، لم يكن في الإمكان تكريس زعامة الابن بعد الأب إلا بمرور أربع سنوات، في انتخابات 2009. حتى ذلك الوقت، ترأس الحكومة الرئيس نجيب ميقاتي، ثم من بعده الرئيس فؤاد السنيورة الذي ظهر أمام الداخل والخارج أنه المحاور الفعلي باسم الطائفة، مع أن الحريري الابن كان انتخب نائباً وتزعّم تيار المستقبل وقاد الغالبية النيابية.
ما يدور حالياً داخل الطائفة السنّية، يحاول أن يُجيب عن بضعة هواجس خلّفها القرار الذي اتخذه الحريري. الشائع أنه أُرغم عليه، ما أحال أي تفكير في محاولة ملء الفراغ مشوباً بالحذر واليقظة: إعادة لمّ الشارع السنّي من حول مرجعية موقتة على الأقل، وتفادي الإيحاء بما يثير حفيظة الخارج المعني بقرار الحريري.
أما بضعة الخطوات المقررة، فهي:
1 ـ تحوّل الرؤساء السابقين الثلاثة للحكومة، في الإطار الذي يجمعهم في الوقت الحاضر، مرجعية سياسية تستظل المرجعية الدينية التي يمثلها مفتي الجمهورية الشيخ عبد اللطيف دريان. لا تقتصر المهمة عليهم، بل يجري الحديث على توسيع هذا الإطار بإضافة شخصيات سنّية لا تزيد على خمسة ربما، ليس فيها وجوه خشنة، غير مرشحة للانتخابات النيابية، مشهود لها دورها، تمثّل مناطق الانتشار السنّي الأساسي في المدن الثلاث وعكار والبقاع الغربي. الثلاثة الحاليون يمثلون بيروت (الرئيس تمام سلام) وطرابلس (الرئيس نجيب ميقاتي) وصيدا (السنيورة). بعض الاقتراحات المتداولة يتحدث عن ضم الوزيرين السابقين رشيد درباس وسمير الجسر. النائبة بهية الحريري ليست في وارد الانضمام إليهم والظهور في صدارتهم، ملتزمة قرار ابن شقيقها. تكرّست وجهة النظر بنشوء هذه المرجعية في عشاء الأحد 30 كانون الثاني في منزل ميقاتي جمعه والسنيورة وسلام. القاسم المشترك في ما بين الثلاثة أنهم غير مرشحين لانتخابات أيار.
2 ـ ترمي المرجعية المحدثة هذه، في آن، إلى تعويض الأبوّة التي بات الشارع السنّي يفتقر إليها باعتزال الحريري، خصوصاً أن من غير المسموح له الاضطلاع بأي عمل أو دور سياسي علني، وفي الوقت نفسه بث الدفء في الشارع السنّي أولاً، والتأكيد له أنه غير متروك وغير مكسور، وضبط حركته بمنع تفلته أو استدراجه إلى نقيض خياراته، وإعادة قيادته ووضع قواعد للاقتراع السنّي يميز المسموح عن الممنوع.
3 ـ تدرك المرجعية السنّية الجديدة أنها في حاجة إلى تحالفات انتخابية، كي تقود الشارع السنّي إلى انتخابات أيار، فلا يقاطع أو يحجم أو يساهم في إيصال مَن يقتضي أن لا يحلوا في المقاعد التي يمثلها تيار المستقبل. مآل ذلك الخوض مع الأفرقاء الآخرين في تحالفات، أقرب ما تكون على القطعة. كل دائرة انتخابية على حدة تبعاً لظروفها ومرشحيها وتوازنات قواها وأحجامها. لن تسمح لأي تحالف بأن يختار المرشحين السنّة، إلا أنها تعرف حاجتها إلى تبادل الأصوات، لكنها لن تهب الأصوات مجاناً.
4 ـ ليس خافياً أن الرؤساء السابقين للحكومة يدركون وجود أفرقاء سنّة آخرين، كـ»الجماعة الإسلامية» في الشوف الأوسط وطرابلس وبيروت وعكار وصيدا والبقاع الغربي، وكذلك «الأحباش» في بيروت. يدركون أن حزب الله نجح في انتخابات 2018 في إيصال عشرة نواب سنّة حلفاء له، شكلوا ما يزيد على ثلث مقاعد الطائفة. أما المحظور الفعلي للمرجعية المحدثة، فهو الحؤول دون تمكين حزب الله من توسيع حصته السنّية أكثر. فيما يدور الحديث عليه في ما بينهم، التخلي عن عدد من الوجوه التقليدية المألوفة التي نابت في السنوات الأخيرة، واختيار مرشحين جدد مجاراة للحراك الشعبي.
تابعوا آخر الأخبار من icon news على WhatsApp تابعوا آخر الأخبار من icon news على Telegramنسخ الرابط :