كثير من المتابعين والمفكّرين والكتّاب يتابعون تطورات الأوضاع الدراماتيكية في لبنان ويخشون أن يتحوّل “الوطن الصغير” إلى مجرد ورقةٍ في صراعات دول المنطقة، وأن يفقد هويته الجامعة ورسالته الحقيقية في الإبداع والتطور.
وقد جاءت انتفاضة السابع عشر من أكتوبر 2019 لتضع الإطار الحقيقي للثورة والتمرّد على طبقة سياسية واقتصادية ومالية ضمن أولويات الحركة الشعبية في مواجهة هذا المثلث القوي المستبد الممعن في نهب أموال الناس، وضرب مصالحهم وإمكانيات تفوّقهم وإبداعهم في لبنان والعالم.
وقد دعم أسس الثورة هذه الناس أولاً في كل مدن وقرى لبنان، ناهيك عن مجموعات تضمّ نخبًا فكرية وسياسية واجتماعية بارزة وفاعلة. ولعلّ البروفيسور فيليب سالم الطبيب اللبناني المقيم في الولايات المتحدة كان أحد أبرز دعاة الثورة على الظلم والاستعباد والاستبداد.
وكان قد صدر عام 2013 كتاب في بيروت للكاتبة والإعلامية مهى سمارة بعنوان “فيليب سالم الثائر والعالم والإنساني”.
ويُجسد هذا الكتاب فعلاً مسيرة سالم في شتّى الحقول والميادين وخاصة ما يتعلق بدوره كـ”ثائر” حقيقي في مواجهة القضايا الحياتية، بدءًا من “أسلوب التلقين” في المدرسة والجامعة، إلى “حقّ الناس في الصحة والحياة”، وصولاً إلى التمرّد على الموروث التقليدي في الممارسات السياسية والعلمية والأكاديمية.
لقد علّمت الحياةُ سالم أنّ الثورة على الواقع، والتمرد على كل ما هو بالٍ، يشكّلان الطريق الوحيد لصنع مستقبل أفضل. فكيف إذا كان الواقع ما هو عليه الآن في لبنان من تدهور وفساد وهيمنة على القرار الوطني الحقيقي؟
والحقيقة أن من يقرأ مقالاته وما تتضّمن من دعوات إلى التمرد على الواقع السياسي والاجتماعي في لبنان، وتحذيره مما يُحاك لهذا الوطن الصغير من مؤامرات من شأنها أن تؤدي به إلى الهلاك، يُدرك أن هذا الطبيب – المفكّر استشرف انتفاضة لبنان ورسم خطوات الثورة، وكانت مقالاته مدوّية وصادقة ومواكبة “لأقدس وأشرف انتفاضة عرفها لبنان في تاريخه الحديث”.
لكن مسؤولية قيامة لبنان هي في الأساس مسؤولية شعبه ومسؤولية المجتمع المدني فيه. ويؤكد سالم دائمًا على أن “السلطة السياسية لا تريده أن يقوم من موته”، لأنه كان يعلم مسبقًا أن اللبنانيين “ينتظرون الثورة من زمان، ومن زمان نحن نقول إن الذين أخذوا لبنان إلى قعر الذلّ، لا يمكنهم أن يرفعوه إلى قمة الكرامة”.
لكن سالم يقترح “التمرد دون عنف” سبيلاً للثورة، لأن الثورة تتوقّف عندما يتمّ استخدام العنف، عندها يعني “أننا نستخدم القوة ونضغط بواسطة السلاح، وليس بواسطة العقل”.
ويؤكد بأن الثوّار علّموا اللبنانيين “شيئًا أعظم، وهو التمرّد الحضاري (…) حيث أعطوا العالم أروع نموذج للثورة الحضارية”.
كما يدعو إلى تحديد أهداف الثورة التي يجب أن تكون أقرب إلى “الحلم” منها إلى الواقعية الضيّقة، لأن الأهداف الكبرى تبدأ دائمًا بالحلم. ويدعو سالم في أول مقالٍ له بعد اندلاع ثورة أكتوبر 2019 إلى اتباع برنامج عملي، فالأهداف تسلسلية، تدريجية، تبدأ بتأليف حكومة جديدة وتنتهي ببناء الدولة المدنية.
بين الحكومة والدولة المدنية مسار طويل يمرّ بوقف الهدر فورًا، واستعادة الأموال المنهوبة ومحاكمة الفاسدين، إلى انتخاب برلمان جديد، وعمليات إصلاح جذري لمؤسسات الدولة، إلى بناء الدولة. ثم فصل لبنان عن المحاور وتحييده، إلى بناء الدولة المدنية.
ويرفض سالم أن يرضخ اللبنانيون للذلّ، وأن يتأقلموا مع الواقع ويلوذوا بالصمت. يريدهم أن يخرجوا من “القعر ومن الموت السريري”. يريدهم أن يعودوا إلى “الحياة” الحقيقية. ويدعو إلى وحدة الثورة ووحدة الثوّار “لأن الثورة وحدها تعيدنا وتعيد لبنان إلى الحياة”.
وهناك ثلاثة أمور تؤرق سالم: أولاً، تغيير المشهد السياسي التقليدي حيث يتغلغل الفساد والتبعية. وثانيًا، تغيير العقد السياسي اللبناني بحيث لا يتمّ انتخاب طبقة جديدة من السياسيين مماثلة للطبقة الحالية التي أخذت لبنان إلى حافة القبر. وثالثًا، رفض الوصاية، ليسترد لبنان قراره الحرّ، قرار السيادة، وقرار السلم والحرب. إن أولويات الخطّة هي في توحيد قوى المعارضة. الثورة تخلق مناخًا داعمًا لها وتضخّ زخمًا قويًّا في نفوس المترددين للاقتراع في الانتخابات النيابية المقبلة. والثورة كفيلة بأن تحوّل الغضب الذي يضجّ في صدور المواطنين إلى أصواتٍ في صناديق الاقتراع.
وإذا كان الطبيب اللبناني يحمّل “حزب الله” و”السلاح غير الشرعي” مسؤولية الانهيار في البلاد، فهو يرى بأن حزب الله يمتلك قوّة السلاح، لكن اللبنانيين يمتلكون قوّة الحق، كما يمتلكون الحقّ في الأرض. أما لبنان “وطن الرسالة” فهو لا يكون ولا يبقى إلاّ في معانقة المسيحية للإسلام ومعانقة حضارة الشرق لحضارة الغرب.
ويبقى فيليب سالم أحد “ملهمي” الثورة في لبنان بأفكاره المتقدّمة والواقعية والفاعلة، ولبنان يحتاج إلى ناسه وشعبه وأفكار مثقفيه للخروج من واقع الانهيار الذي
تابعوا آخر الأخبار من icon news على WhatsApp تابعوا آخر الأخبار من icon news على Telegramنسخ الرابط :