كتب رشيد حاطوم
في كل منعطف سياسي حاسم، يميل وليد جنبلاط إلى استدعاء خطابٍ تحذيري يتحدّث عن “عزل المختارة” أو تهميش الدور الدرزي في المعادلة الوطنية. هذا الخطاب، الذي أدّى في مراحل سابقة وظيفة تعبئة فعّالة داخل بيئته، يبدو اليوم أقل قدرة على التأثير، لا بسبب انتفاء المخاطر، بل نتيجة استهلاكه المتكرر، وتحويله من أداة تنبيه إلى وسيلة دفاع عن موقع سياسي مأزوم.
على امتداد سنوات طويلة، استُخدم هذا المنطق لإدارة التوازنات داخل الطائفة، حيث جرى التعامل مع التنوّع السياسي باعتباره مصدر قلق، لا تعبيرًا طبيعيًا عن تعددية داخلية. ومع الوقت، تحوّلت الزعامة من موقع تمثيل قابل للتجديد والمساءلة، إلى إطار شبه مغلق، تُفسَّر فيه المعارضة بوصفها خروجًا عن “الإجماع”، لا ممارسة سياسية مشروعة.
لا يمكن فهم المسار السياسي لوليد جنبلاط من دون التوقّف عند مرحلة الوصاية السورية، التي شكّلت ذروة نفوذه السياسي. في تلك المرحلة، لم يكن جنبلاط على هامش السلطة، بل أحد أبرز الفاعلين في منظومتها، مستفيدًا من توازناتها ومن هامش نفوذ استثنائي لم يتوافر لكثيرين في الداخل اللبناني. غير أن التحوّلات الإقليمية والدولية اللاحقة فرضت إعادة تموضع متسارعة، عكست نمطًا سياسيًا اتّسم بمرونة عالية، جعلت الثبات خيارًا ظرفيًا أكثر منه التزامًا استراتيجيًا.
ضمن هذا السياق، بقي التعاطي مع ملفات حسّاسة، وفي مقدّمها قضية دروز السويداء، موضع تساؤل مستمر. فقد غابت هذه القضية طويلًا عن أي مواجهة سياسية واضحة، قبل أن تعود إلى الواجهة في مراحل لاحقة، في سياق اختلط فيه الإنساني بالسياسي، ما فتح الباب أمام نقاش مشروع حول حدود الالتزام الأخلاقي، والفارق بين المناصرة المبدئية والتوظيف المرحلي.
كما أثارت بعض تصريحات جنبلاط العلنية، ولا سيما تلك المتعلقة بإدارته المالية واعتماده ما وصفه بـ”دفترين”، نقاشًا واسعًا حول مفهوم الشفافية في العمل العام. ففي الأنظمة الديمقراطية الراسخة، تُعدّ مثل هذه التصريحات مدخلًا طبيعيًا للمساءلة، لا تفصيلًا عابرًا في خطاب “الصراحة السياسية”، ما يسلّط الضوء على فجوة قائمة بين الخطاب الإصلاحي والممارسة العملية.
أما المحطات الأكثر دلالة، فتلك التي اقتربت فيها الطائفة الدرزية من حافة توترات كبرى، لا سيما خلال مرحلة ملف شبكة الاتصالات، حين وُضعت الطائفة في قلب مواجهة سياسية وأمنية حسّاسة مع حزب الله، عبر مواقف وتصريحات صدرت عن وزير محسوب على جنبلاط آنذاك. في تلك اللحظة، بلغ التصعيد ذروته، قبل أن يتبدّل الخطاب سريعًا مع تغيّر موازين المخاطر.
عند انحسار التهديد، عاد جنبلاط إلى خطاب التهدئة، مسلّمًا زمام المبادرة مجددًا للأمير طلال أرسلان، في مشهد يعكس نمطًا متكررًا في إدارة الأزمات: اندفاع في التصعيد، يتبعه تراجع عند أول اختبار جدّي للكلفة. وقد تكرّر هذا النمط في أكثر من محطة، حيث تُرفع راية “وحدة الطائفة” عند تعقّد المشهد، لتُطوى لاحقًا مع أول تبدّل في الحسابات السياسية.
اليوم، وبعد أحداث السويداء، ومع تصاعد مؤشرات ضغط خارج الحدود، ولا سيما من المرجعيات الروحية ومشايخ الموحدين الدروز، يعود جنبلاط إلى خطاب الوحدة ذاته. غير أن هذا الخطاب، في ضوء التجارب السابقة، يثير تساؤلًا جوهريًا حول مدى استدامته: هل نحن أمام خيار استراتيجي طويل الأمد، أم أمام وحدة ظرفية جديدة، محكومة باعتبارات اللحظة وموازين النفوذ؟
في موازاة ذلك، كشفت انتخابات عام 2022 عن تحوّل ملموس في المزاج العام داخل البيئة الدرزية، حيث ظهرت مؤشرات واضحة على تراجع قدرة الزعامة التقليدية على الضبط والتوجيه. لم تكن تلك النتائج تفصيلًا انتخابيًا عابرًا، بل تعبيرًا عن وعي سياسي متنامٍ، بدأ يفرض منطقه، ويعيد طرح أسئلة التمثيل والشرعية والخيارات.
الدروز اليوم أكثر ميلًا إلى المساءلة، وأكثر حساسية تجاه كلفة المغامرات السياسية، وأقل استعدادًا للانخراط في صراعات لا تخدم أولوياتهم ولا تحمي استقرارهم. وفي هذا السياق، يبدو التحدّي الحقيقي لا في التنوّع، بل في كيفية التعامل معه.
خلاصة القول، إن الخطابات، مهما تبدّلت مفرداتها أو ارتفعت نبرتها، لا تستطيع وحدها وقف تحوّل عميق في الوعي السياسي. فالمرحلة التي كانت فيها السرديات الجاهزة كافية لضبط الجمهور تقترب من نهايتها. وربما بات من الضروري قراءة هذا التحوّل بواقعية ومسؤولية، بدل الاستمرار في إدارة السياسة بمنطق وحدات مؤقتة، سرعان ما تتفكك عند أول اختبار فعلي.
| لمتابعة أهم وأحدث الأخبار انضموا إلينا عبر قناتنا على واتساب (channel whatsapp) .اضغط هنا
نسخ الرابط :