الازمة اللبنانية الراهنة

الازمة اللبنانية الراهنة

 

Telegram

 

ماهية الأزمة :

إن انهيار العملة اللبنانية مقابل الدولار وفقدان السلع والمحروقات على وجه الخصوص، مما أدى الى تقنين قاسٍ جداً بالكهرباء العامة والخاصة فتعطّلت المؤسسات كالأفران وغيرها، وانهيار رواتب الموظفين وتدنّي القدرة الشرائية للمواطن، كل ذلك يكشف عن أزمة اقتصادية مالية حادة تعصف بلبنان. يترافق ذلك مع أزمة سياسيّة تبلورت باستقالة حكومتين وعجز بالتأليف يدوم اشهراً طويلة، اذ ان دولة الرئيس حسان دياب قد استقال مباشرة بعد انفجار 4 آب ولم يستطع سعد الحريري تشكيل حكومة ليعتذر ويكلّف نجيب ميقاتي الذي تمكن من تشكيل حكومته وتتجه لطلب الثقة قريباً ولكن من دون خروق جدية في جدار الأزمة.

دخل لبنان بمفاوضات مباشرة مع العدو الإسرائيلي برعاية الولايات المتحدة من أجل ترسيم الحدود، لكن المفاوضات فشلت ولا يستطيع لبنان بالتالي التنقيب عن النفط في البلوك رقم 9 حتى يتم الاتفاق، وأعتقد بكل البلوكات نتيجة المنع الأميركي الى ان يخضع لبنان لشروط العدو. تُضاف الى ذلك مشاركة لبنان في تطبيق قانون قيصر بمحاصرة الجمهورية العربية السورية وما يعكس ذلك عليه من سلبيات. من هذه الناحية لبنان يعيش أزمة سياسية دولية.

في لبنان مقاومة مجهّزة مقتدرة أجبرت العدو الإسرائيلي على الانسحاب من لبنان دون قيد أو شرط عام 2000 ومن ثم صدت هجوم العدو وأفشلت مشاريعه من المعركة وخرجت منتصرة عام 2006 وبعد ذلك شاركت مع الجيش السوري في دحر الإرهابيين عن سورية وإفشال المخطط الصهيوأميركي. ومنذ حرب تموز حققت توازن الردع مع العدو. اميركا وبعض حلفائها الأوروببين وضعوا حزب الله على لوائح الارهاب وفرضوا على بعض السياسيين عقوبات وحاصروا مصرفيين (يملكهما مواطنون من الطائفة الشيعيّة) مما أدى إلى إقفالها وقيّدوا حركة المال الى لبنان حتى من المغتربين ومنعوا كل المساعدات.

دفعت الولايات المتحدة مئات ملايين الدولارات وباعترافها لغاية تشويه صورة الحزب. وقد استجابت لها في الداخل أحزاب وجماعات وافراد وحاولوا تحميل الحزب وسلاحه وزر الأزمة. من هذه الزاوية فإن أزمة لبنان أزمة بنوية قومية مقرونة بمؤامرة خارجية.

أخيراً شهدت الساحة اللبنانية تحرّكات شعبيّة وفوضى بدأت بـ 17 تشرين الأول 2019. تلك التحركات رفعت شعار الثورة على غرار ما حدث في الربيع العربي. كانت الجماعات في تلك التحرّكات غير متجانسة بل متضادّة بالطرح والغاية. من دون قيادة ولا تنسيق ترافقت مع قطع للطرقات وتعدّ على القطاعات والأملاك العامة والخاصة مما أشاع الفوضى وأضعف هيبة الدولة مع تدخّل خارجي استهدف تفتيت الدولة بغية خلق فتن طائفيّة وأهليّة في محاولة الى جرّ المقاومة للغرق في وحول الفتن الداخليّة.

لبنان يعاني انهيار الدولة والفوضى والفلتان.

الأسباب :

نستطيع أن نقسم أسباب الأزمة الى شقين. أسباب مباشرة واسباب غير مباشرة.

 

الأسباب المباشرة

1- الاقتصادية والمالية

منذ قيام اول حكومة لرفيق الحريري عملت بالتعاون مع مصرف لبنان على تحسين قيمة العملة الوطنية ثم تثبيتها على سعر 1515 ليرة مقابل الدولار وقدّم المصرف للمواطنين عروضاً سخية مقابل الاستثمار بسندات الخزينة وصلت الى فوائد بنسبة 48%. وهذا ما يرفع الفوائد تلقائياً عند اابنوك مما يؤدي الى وقف الاستثمار بالزراعة والصناعة مع هامش ربح قليل بالمقارنة. شهدت البلاد حركة عقارية لافتة منذ منتصف التسعينيات خاصة مع شراء أراض من قبل الخليجيين والمغتربين مما رفع من قيمة الودائع بالدولار. تحسنت الرواتب عدة مرات وكبرت القيمة الشرائية عند المواطن بشكل عام ما خلق اتجاهاً واسعاً صوب الرفاهية فتم استقدام مئات الألوف من العمال والخدم الأفارقة والآسيويين وخرجت ألوف العائلات للسفر سياحة. قدمت المصارف تسهيلات للحصول على قروض في شراء العقارات والسيارات السفر السياحي والاعراس و… نمت التجارة مع الخارج استيراداً في كل الاتجاهات، المحروقات والغذاء والثياب والادوات و…. اما التوريد فكان في تناقص مما زاد في خلل الميزان التجاري ووسع العجز الى ارقام مخيفة. استمر تثبيت سعر الصرف ورغم تحذير بعض الخبراء الا ان حاكم المصرف الذي قام بعدة هندسات مالية، بحسب تسميته، كان دائماً يطمئن الناس على صحة العملة الوطنية. فجأة في أيلول 2019 أعلن المصرف عن عدم قدرته الاستمرار بدعم الليرة.

من الطبيعي ان الخلل بالميزان التجاري لصالح الاستيراد سيؤدي الى الضغط على العملة الوطنية، ما لم يكن هناك بدائل. وفي حالة لبنان فإن البدائل هي السياحة والاصطياف واموال المغتربين وبعض المساعدات يضاف اليها بعض المال غير الشرعي من تبييض تحت غطاء السرية المصرفية او مال يدفع من الخارج لاغراض سياسية. ما شهده لبنان من حروب او مشاكل أعوام 2005، 2006 و2008 عطل السياحة والاصطياف ثم ما شهدته الساحة السورية بعد العام 2011  وتأثيره السلبي على لبنان أضعفهما بشكل كبير. كل هذه العوامل كانت تزيد في العجز والذي كان من المفترض ان يؤثر في سعر العملة الوطنية سلباً بحيث تتدنى قيمتها تدريجياً، لكن مصرف لبنان استمر بدعم الليرة وطبعاً مستعملاً الودائع. من هنا فإن اتهام الحاكم بالتآمر في إحداث انهيار حاد هو امر مشروع. الازمة الاقتصادية في لبنان والعجز واقع حقيقي اما الازمة الحادة فهي أمر مفتعل.

 

2- الفساد

يعاني لبنان سوء ادارة وفساداً منذ نشأته. وهذا الامر غير خافٍ على احد، انما مع مرحلة الحريري اتخذ الفساد خطاً تصاعدياً مرعباً. حتى ان السمة العامة في اخلاقيات المجتمع قد تبدّلت. لبس الفساد ثياب الشرعية في عدة أماكن حيث أنشأت له وزارات (المهجرين، الشؤون الاجتماعية) ومجالس (الانماء والاعمار، الجنوب.. ) الكلام عن الفساد يحتاج الى مجلدات ويكفي الاطلاع على كتاب النائب نجاح واكيم بعنوان “الأيادي السوداء” لمعرفة حجمه، وليست الغاية من المقالة شرح ذلك لكننا بحاجة الى الدلالة على دور الفساد بالازمة.

 

من الناحية النقدية
الفساد القائم من جراء المناقصات والالتزامات لمشاريع من الدولة حول جزءاً كبيراً من المال من البنى التحتية الى جيوب المنتفعين من سياسيين وأعوانهم. الاولى اصبحت مهترئة (لا طرقات ولا صرف صحي ولا كهرباء لا ماء…)؛ والثاتية أصبحت منتفخة جداً، وقبل أن تطل الازمة نقل السياسيون وأعوانهم المذكورون أموالهم الى الخارج ليخسر البلد رقماً كبيراً (بالمليارات) من العملة الصعبة. هذا عدا عمّا سرق مباشرة من أموال الدولة تغطت بعدم إقرار موازنات على فترة طويلة.

ب – من الناحية الإنتاجية

وضع رفيق الحريري عنواناً لسياسته في اعمار لبنان وتقدمه بعد الحرب هو الخصخصة. ليست غايتي الآن مناقشة محاسن او سيئات ااخصخصة انما دور هذه السياسة بالازمة. فاذا كان قد نجح باقامة شركتي الخليوي عن طريق عقد BOT فانه هدر مال الدولة لصالح الخاص عن طريق فسخ العقد. حاول الحريري جاهداً خصخصة قطاع الكهرباء فلم يوفق بسبب الاعتراضات الكثيرة فكانت السياسة المتبعة لذلك هي زيادة العجز بهذا القطاع تكبير مديونيّة الدولة ثم الصراخ للتخلص من هدر المال على قطاع الكهرباء. هذا القطاع حكاية بحد ذاته بصفقات الفيول المشبوهة والبواخر وعدم إقامة معامل الغاز بدل الفيول ووو..  يُضاف الى ذلك الفساد بالجمارك والتهريب على حساب ميزانيّة الدولة. تحوّلت الدولة اللبنانية من غير مَدينة الى مَدينة جداً وخلال فترة زمنيّة قصيرة من دون أن يلحظ مشاريع مقابل هذا الدين إلى درجة ان اكثر من نصف إنتاج الدولة لا يغطي كلفة الدين العام. من الطبيعي ان حجم هذه الكلفة كان على حساب المشاريع الإنمائية او الضرورية.

 

ج – من الناحية الاجتماعية السياسية

الفساد يؤدي الى خلل في العدالة بين مستفيد بغير حق ومتضرّر. وحيث الفساد في قطاعات عامة يطال المجتمع فان الضرر يقع على كافة الأفراد. مع نمو الازمة وزيادة الحاجة والفقر ومع تعطل العمل الطبيعي لإدارات متعددة في الدولة ظهرت الى السطح مساوئ الفساد. ثم أنه ولغاية خلق الفوضى والفتن ركز الإعلام المأجور على الفساد. استمرّت ظاهرة الفساد سنوات دون رفع صوت شعبي في وجهها حتى ان نجاح واكيم كان يصرخ في البرلمان ولا يجيبه حتى الصدى. ثم فجأة “كلن يعني كلن” إعلام مشبوه وجماعات فوضوية يهدفان من خلال فساد حقيقي ورجال دولة فاسدين الى إلحاق الأذى بآخرين، مسؤولي حزب الله على وجه الخصوص، تحت هذا الشعار بأوامر خارجية. لا بأس ان يتأذى اصدقاء اميركا اذا تحقق الهدف. ألم يتأذّ حسني مبارك بمصر؟ وغيره طبعاً. تحت شعار محاربة الفساد يريد الخارج المتمثل بأميركا والأوروبيّين الملحقين محاسبة أخصامهم وكأنهم لم يكونوا حلفاء الفاسدين وما زالوا.

 

د – الاحتكار

تحت غطاء الاقتصاد الحر وبرعاية من السياسيين النافذين ربط الاستيراد بمؤسسات وأفراد محددين خاصة المواد الاساسية. الاحتكار كان وما زال أحد الوسائل الاساسية بربط السياسة بالاقتصاد وديمومة النفوذ والمكتسبات.

هذا المرض الاجتماعي توسّع، كما باقي أنواع الفساد، ليطال مستويات أدنى ومن ثم ادنى في بلد كثرت فيه الازمات وقلت فيه الأخلاق. في مراحل الازمة المستمرة كان للاحتكار الدور الاساسي إن بالمحروقات او بالدواء او بالطحين او بغيره والمحتكرون أصحاب اختصاص بمصّ الدولة يعرفون جيداً كيف يتحوّل الدعم المالي من اجل المواطنين الى خزائنهم.

 

3 – الأزمة السياسية

بخروج الجيش السوري من لبنان خرج المنظم للعلاقات بين المكونات والأحزاب. فاذا بالصراع الطائفي يعود الى حدته كما كان بالحرب الأهلية وإذا بسياسات كان من الصعب البوح بها تطفو (التهجم على المقاومة وسلاحها، الحياد، قرارا الحرب والسلم ليس في يد الدولة و.. ). اما اللافت فهو الانقسام العمودي في الشعب اللبناني إثر اغتيال الحريري وما تبعه. تبنّى فريق 14 آذار موقف أنّ من اغتال الحريريّ هو سورية وجعل منها عدواً للبنان رافضاً أية تهمة للعدو او الأميركي ومتناسيا أن “إسرائيل هي عدو” وطالب بالمحكمة الدولية. التدخل القضائي الدولي اتهم سورية واقتصّ من كبار الضباط المؤيدين لها ثم بعد ذلك تماهى مع السعودية في سياساتها وبالتالي مع اميركا طبعاً واعتبر ايران فارسية عدوة للعرب وان حزب الله اداة ايرانية. بالمقابل فإن فريق 8 اذار كان مقتنعاً ان سورية بريئة متهمة لغاية صهيونية وأن القضاء الدولي مسيّس أميركياً صهيونياً فرفض المحكمة الدولية. نستطيع ان نقول ان المخطط الاميركي الصهيوني نجح مؤقتا بإخراج سورية من لبنان وحشرها واتهامها وتأليب رأي عام كبير ضدّها وضد المقاومة تهيئة لتصفيتها عسكرياً، لكن حرب تموز أفشلت هذا المخطط وخرجت المقاومة منتصرة.

زادت حدة الأزمة الداخلية لان فريق 14 آذار قرر ان يكون رأس الحربة للهجوم الاميركي على المقاومة فاستهدف سلاح الاشارة لديها (على أمل زج الجيش ضدها) فكانت احداث ايار التي صفعت هذا الفريق وجعلته ينصاع الى تسوية تمت بالدوحة. التسوية ليست حلاً بل أشبه بالهدنة، اميركا تتنقل بالوسائل لغاية واحدة “حماية إسرائيل باضعاف خصومها واولهم حزب الله”. خلال الربيع العربي الإميركي الصنع والتنفيذ الذي يستهدف الدولة في سورية من اجل قطع طريق وصول السلاح الى المقاومة وضرب محور المقاومة بالعمق، خلال ذلك وقف فريق 14 آذار مؤيداً للإرهابيين، تحت مسمّى الثورة بينما وقف فريق 8 آذار مع الدولة. وبما ان من المتعذر على احد الفريقين الحكم وحده في لبنان كان لا بد من اتفاق على الحد الأدنى، ومع تعذر الاتفاق استمرت الازمة في البلاد. ما اعطى الازمة هذه القوة هو النظام الطائفي اللبناني وتوزع الاحزاب الكبيرة توزيعاً طائفياً. حزب الله حزب شيعي عقيدة وعناصر وحليفته حركة امل كذلك بينما حزب المستقبل هو سني. حمل حزب الله لواء المقاومة ومارسها وسجل انتصارات على العدو متحالفاً مع ايران والجمهورية العربية السورية. في المقابل فإن حزب المستقبل مرتبط بالسعودية وسياستها “الاعتدال” وعملياً العداء مع ايران وحلفاء ايران واولهم حزب الله. هذا الخلاف السياسي بثوب طائفي حمل ابعاداً خطيرة. نظام لبنان طائفي بالأصل ودستوره يكرس ميثاقية بين الطوائف فلذلك لا يستطيع أي فريق ان يحكم من منظور سياسي لان السياسة والطائفية صنوان.

فشلت اميركا باستهداف الدولة في سورية، رغم انها نجحت بتدميرها وإضعاف دورها الإقليمي وفرز جماعات طاىفية معادية لها عبر الدعم الخليجي والتركي، لذلك عادت لتركز على حزب الله في الداخل. برأت المحكمة الدولية سورية والصقت التهمة بحزب الله (ما يدل بوضوح عن تسيسها)، لكن ذلك لم يمنع من تشكيل حكومات تجمع المستقبل وحزب الله لان استهداف الأخير هو استهداف للطائفة الشيعية ككل وان التركيبة اللبنانية تفرض التوافق بالحد الأدنى بين الطوائف والا الفتنة لذلك كنا نرى تمسك حزب الله بسعد الحريري رئيساً للوزراء رغم التباعد السياسي. في خطتها الجديدة أطلقت الولايات المتحدة للأزمة النقدية العنان من خلال العقوبات ومراقبة نقل الاموال وطرد بعض اللبنانيين من الخليج وملاحقة أعمالهم في أفريقيا واثارت موضوع الفساد كما اسلفنا وطلبت من الحريري الاستقالة وطالب ما سُمّي زوراً “المجتمع الدولي” بحكومة اختصاصيين من دون السياسيين من اجل الاصلاح المزعوم لإبعاد حزب الله عن الحكم علها تستطيع استهدافه داخلياً. ان حكومة حسان دياب كانت خياراً صعباً أكد حتمية فشل المواجهة الناعمة وعدم القدرة على الحكم من قبل فريق واحد. ما معاناة التأليف الا صورة واضحة عن عمق الخلافات بالخيارات الداخلية وعن قوة التدخل الخارجي وان أية تسوية لن تكون إلا هدنة أخرى مؤقتة وادارة ازمة.

تحاول الولايات المتحدة الوصول الى تفلت امني ومن ثم فتنة وحروب داخلية تغرق حزب الله تمهيداً لحرب جديدة مع العدو واذا لم يتم ذلك فهي تمهد من اليوم الطريق لانتخابات تعود الأكثرية فيها لأتباعها مع محاولة احتضان الجيش الذي يفتقر الى الدعم من كل النواحي.. ما جرى بعد 17 تشرين اول 2019 كان مهرجان فوضى اميركياً جرف بعض الاحزاب المعادية لأميركا وبعض المواطنين الوطنيين المخلصين ظناً منهم ان الفرصة آتية لقيادة “الجماهير” نحو التغيير لكن الزمن أثبت خطأ رهانهم.

 

أسباب غير مباشرة

لبنان ليس وطناً طبيعياً ولم يكن وطناً في اي يوم من التاريخ قبل 1920. لبنان كيان صنعه الغرب دون ان يقوم بأي استفتاء لابنائه لا في متصرفية جبل لبنان ولا في الاقضية الاربعة الملحقة. إن المخطط الغربي منذ بداية الحرب العالمية الاولى يقضي بتقسيم سورية بين فرنسا وبريطانيا ومن ثم اقامة كيان لليهود على ارض فلسطين. وهذا واضح من خلال اتفاقية سايكس بيكو ووعد بلفور. دولة لليهود على ارض مغتصبة مأهولة تطلب الكثير من الإجراءات والخطط. كانت إحداها إقامة دول صغيرة ضعيفة ذات طابغ ديني او مذهبي خصوصاً للاقليات لبنان دولة بطابع مسيحي ودولة للعلويين في جبال العلويين والساحل ودولة للدروز. لم ينجح المخطط الا في لبنان. كانت العلاقة بين الموارنة في لبنان وفرنسا ممتازة منذ ما قبل 1840 فهم على قناعة بأنها ساعدتهم وحمتهم ورعتهم ولم يكن صعباً عليها إقناعهم باقامة دولة هم اسيادها خصوصا انهم كانوا لوقت طويل أبناء ذمة عدا انهم تعرضوا لمجاعة قاسية في الأمس القريب في ظل حكم جمال باشا. حصل الموارنة على امتيازات بالدولة الجديدة، وكانت لهم رئاسة الجمهورية بصلاحيات واسعة وقيادة الجيش ونسبة نواب للمسيحيين أعلى منها للمحمديين ( 5 لـ 4 ثم  6 لـ 5)..

وعند تأسيس الكيان تمت مراعاة ان يكون عدد المسيحيين يفوق عدد المحمديين (حسب احصاء عام 1932 الاحصاء الاول والاخير لسكان الكيان) انسجاماً مع وظيفته. سارت السياسة في الكيان منسجمة مع الميثاق. تغيّر التوزّع السكاني مع الزمن لصالح المحمديّين وتعرّض الميثاق لأول تجربة عام 1958 لكن الدولة رممت بالتوافق الأميركي المصري ثم اهتز الميثاق ثانية عام 1973 ليسقط كلياً عام 1975 وتغرق البلد بحرب اهلية عنيفة وقتل على الهوية. الميثاق لا يصنع وطنا إنه صيغة أقرت التعايش، والكلمة تعني العيش مع ما لا يريده المرء. لقد تغنى اللبنانيون بصيغة التعايش في الآداب والفنون والكتب المدرسية لكنهم كانوا بذلك يكرّسون صيغة الثنائية دون الوحدة الوطنية. الميثاق جمع الشركاء في كيان ولم يوحد رؤيتهم الى قضايا الاقليم. بقي التطلع المسيحي الى الغرب ولا تعنيه قضابا المنطقة خصوصاً فلسطين (هذه إحدى وظائف الكيان المسيحي الطابع عند المؤسسين)، بينما كان المحمدي مرتبط كلياً بقضايا المنطقة. وهذا ما دلت عليه حرب 1975  والتي ادت بالنهاية الى اجتياح إسرائيل للبنان 1982 بتعاون مع القوات اللبنانية التي تقبل بالعدو محتلاً وترى الشريك المحلي عدواً. أسقط دستور الطائف امتيازات الطائفة المارونية وبالتالي فإن الوظيفة الاساسية للكيان قد انتهت وكذلك مبرر وجوده الا ان مجتمعنا ليس في مرحلة  اخذ القرار بل في التخبط غارق في المؤامرات مدافع عن وجوده بالحد الأدنى. لبنان دخل مرحلة التجاذب الدولي والإقليمي وبالتالي اللاستقرار.

 

أية حلول؟

لا شك في أن أزمة بهذا العمق من الحدة ومن العمق التاريخي لا تحل لا بسهولة ولا بوقت قصير، لذلك لا بد من طرح حلول مؤقتة وحلول بعيدة مع الاعتراف أن الانهيار المالي والاقتصادي يحتاج الى سنوات عديدة لترميمه.

الحلول المؤقتة :

ان الخطوة الجبارة التي قام بها حزب الله باستيراد المشتقات النفطية من إيران لها مفاعيل كثيرة فهي:

–  تكسر احتكار المحروقات وإمساك الشركات بمصالح المواطنين وربما تلعب دوراً ايجابياً بالأسعار.

–  تواجه الحصار الأميركي وتتحداه مما يلزمه بالتراجع او بالمواجهة (المستبعدة).

–  تفتح الباب الى كسر بقية الاحتكارات، مما يؤدي الى تدمير الدولة العميقة التاريخية.

–  تلعب دوراً إيجابياً لصالح حزب الله وسلبياً لخصومه وهو ما لا تريده أميركا.

–  هذه الخطوة تشكل بحد ذاتها انتقالاً من الدفاع الى الهجوم وقد تفتح لخطوات هجوميّة أخرى تتمثل بالعلاقات مع سورية والعراق وإيران.

هذه الخطوة وضعت أساساً لخطوات ضرورية وان المعالجة قد تكون متوفرة.

– على الحكومة أن تأخذ بعين الاعتبار ما يلي:

–  رفع الدعم الكلي مع خطوات لمساعدة المواطنين عبر البطاقة التمويلية او زيادة الرواتب.

–  إلغاء الاحتكارات والامتيازات المرتبطة كلياً مع ضرورة قيام الدولة باستيراد المشتقات النفطيّة مباشرة.

–  ضرورة البدء بإصلاح الكهرباء بإلغاء معامل الفيول وإقامة معامل الغاز حيث الحاجة، لأن ربط الشبكة اللبنانية مع الشام والعراق وإيران سيكون أقل كلفة وأجدى. (ذلك يتطلب جرأة غير موجودة حتى الآن).

–  وضع قوانين تساهم برفع الإنتاج الزراعي والصناعي وتخفف من الاستيراد.

–  التدقيق الجنائيّ ورفع الحصانات وتعزيز القضاء.

–  استثمار الثروة النفطية التي يملكها لبنان في البحر وهي كفيلة بإعادة ترميم اقتصاده بأسرع وقت. هذا الأمر يتطلب سلطة تستطيع تحدي موانع استخراج النفط.

 

خطوات في مدى أبعد

تبين بالتطبيق أن دستور الطائف يحتوي ثغرات عديدة هذا فضلاً عن عدم تطبيق كل بنوده لذلك.

–  لا بد من تعديل الدستور والصلاحيات.

–  الغاء الطائفية كلياً من السياسة والمجتمع وإرساء قانون انتخابي يجعل لبنان دائرة انتخابية واحدة من خارج القيد الطائفي.

–  الإقرار أن لبنان جزء طبيعي من بلاد الشام وان اي سلبية في احدى الكيانات تطال الجميع. أن قانون قيصر حاصر لبنان كما سورية وان الحرب فيها ارتدت علينا بسلبياتها، وكذلك الحرب في لبنان ارتدت بالسلبية على الشام. لذلك لا بد من إقامة وحدة اقتصادية بين كيانات بلاد الشام ستعزز كل الحالات الاقتصادية.

–  لا يمكن أن يبقى الاقتصاد مرهونا بخيارات سياسية. ان المصلحة هي الأساس في التعامل بين الدول. وعليه فاذا اتت مصلحة لبنان من التعامل مع روسيا او الصين او إيران او اميركا يجب ان تؤمن بسيادة القرار بدل ان تتعطل بارتهانه وهو ما يسمح لنا باستثمار مواردنا من النفط والغاز واعادة دور مصفاتي طرابلس والزهراني وحتى إقامة شراكة نفطية وكهربائية مع محيطنا.

–  ان تحرير القضاء من السياسة مسألة مهمة جداً في بناء قضاء يخدم العدالة ولا يخدم السياسيين.

بالحقيقة إن خلاص لبنان النهائي لا يتم إلا بزوال أسباب أزماته وضعفه اي التدخل فيه من الخارج والتآمر عليه لحماية كيان العدو. وهذه الاسباب ستبقى الى ان ينتصر مجتمعنا على العدو كلياً ويزيل هذا الكيان.

 

تابعوا آخر الأخبار من icon news على WhatsApp تابعوا آخر الأخبار من icon news على Telegram

نسخ الرابط :

(يلفت موقع “iconnews ” انه غير مسؤول عن النص ومضمونه، وهو لا يعبّر إلا عن وجهة نظر كاتبه أو مصدره)

:شارك المقال على وسائل التواصل الإجتماعي

 

Telegram