 
                    
بقلم: مدير مكتب الميادين في بيروت روني ألفا
الشهيد إبراهيم سلامة لم يكن أكثر من موظف عادي في بلدية بليدا. يفتح الباب كل صباح، يحتَسي القهوة. يضحك إذا تعطل الحاسوب الصدئ، يهمس لنفسه: "كل شيء سيحلّ، يا إبراهيم… فقط صبر قليل"
في دُرج مكتبه مفتاح مخدوش، وورقة صفراء مكتوب عليها بخط متردد: "لا تنسَ توقيع معاملة أرملَة" ورغم بساطة حياته، كان يشعر بأن عمله صغير لكنه جزء من شيء أكبر، شيء اسمه البلدة، اسمه الحياة، اسمه الدولة.
 
فجر اليوم، جاء العدو. دخل مبنى البلدية دون إنذار، دون صدى خطوات تحذيرية. رصاصات باردة أصابت إبراهيم وهو نائم. انطفأت ضحكته. انكسر المفتاح المخدوش في دُرج مكتبه.
 
لاحقًا، سيقولون إنهم استهدفوا عنصرًا من حزب الله. شماعة جاهزة لكل جريمة، للقتل، للاعتداء على المدنيين.
لكن الحقيقة واضحة: هذا فعل وحشي، جريمة ضد موظف مدني، ضد بلدية، ضد كل شريان للحياة. إبراهيم لم يكن مقاتلًا. لم يكن يملك سلاحًا. لم يختبئ في الملاجئ. كان موظفًا، خادمًا للمعاملات، للناس، للشريان الصغير الذي يربط البلدة بالحياة. كان الهدف واضحًا: قتل البلديات، خنق الحياة المدنية، وتعطيل الدولة نفسها.
 
بين دفاتر المعاملات والمكاتب، كان هناك آخرون يقفون صامتين، يقاومون بما لديهم من قوة. المقاومة لم تكن على الجبهات وحدها، بل في كل قلب يرفض الانكسار، في كل من يحافظ على الحياة رغم كل تهديد.
 
بعد الجرافات وسائقيها، جاء دور البلديات. حين يُقتل موظف، تتوقف المعاملة، تتعطل الخدمات ويزداد إحباط الناس ويضعف قلب الدولة شيئًا فشيئًا.
إبراهيم لم يكن مجرد رجل. كان دفترًا مفتوحًا. كان هاتفًا قديمًا يرنّ بلا توقيت محدد. كان مفتاحًا في دُرج صدئ. قتلوه وكأن المطلوب قتل البلديات كلها، وليس الرجل وحده.
 
الغضب لم يقتصر على الغبيري. عشرات البلديات في الجنوب والبقاع والجبل والساحل وفي لبنان صرخت بصوت واحد.
استنكرت الجريمة ووحشيتها. إبراهيم سلامة ليس شهيد بليدا وحدها، بل شهيد كل بلدية تؤمن أن الخدمة العامة ليست جريمة.
من صريفا إلى الهرمل، من النبطية إلى عاليه، من بنت جبيل إلى بيروت، تصاعد الصوت: البلديات ليست وحدها، والشهيد ليس وحيدًا.
 
الناس رغم الحزن العميق، عرفوا شيئًا آخر. القتل لن يتوقف عند مبنى البلدية. غدًا قد ينتقل إلى المستشفى، المدرسة، الدير، الجامع، وإلى النادي الصغير حيث يركض الأطفال حفاةً وراء كرة. الذرائع تتبدّل، لكن الهدف واحد: خنق ما تبقّى من حياة مدنية، قتل أي شكل من أشكال التنظيم المدني، تعطيل أي شعور بأن الدولة حاضرة حتى ولو كانت مخفية خلف الجدران والأوراق والخزائن القديمة.
 
رحم الله إبراهيم سلامة. نام بصدق الموظف، واستيقظ شهيدًا للدولة. ليس الدولة الكبرى في القصور، بل الدولة التي تُضاء بمصباح خافت في بلدة حدودية، الدولة التي تمنح البسطاء شعورًا بأن حياتهم ومؤسساتهم ليست وحيدة، وأن شريان البلديات لا يزال ينبض رغم الرصاص والدم.
في دُرج صغير، مع مفتاح مخدوش، ومعاملة أرملة، ومع هاتف قديم يرنّ بلا توقيت، بقي إرث إبراهيم: شهادة على أن الخدمة العامة مقاومة، وأن ورقة موقّعة في بلدية مهدمة قد تكون أقوى من ألف خطاب.
وبين هذه الحياة اليومية، كانت المقاومة حاضرة أيضًا، صامتة، تحرس الجنوب من الانكسار، وتذكر كل من يعيش هنا أن البقاء على الحق والمكتب والدفتر هو شكل من أشكال الصمود.
 
أما الفعل نفسه، فهو إدانة لكل من يشهد على وحشية الاحتلال: رصاصاته تقتل موظفًا مدنيًا، وتخنق البلديات، وتعلّم الناس أن الحياة اليومية يمكن أن تكون هدفًا.
 
بليدا ليست وحدها، وإبراهيم سلامة ابننا جميعًا.
| لمتابعة أهم وأحدث الأخبار انضموا إلينا عبر قناتنا على واتساب (channel whatsapp) .اضغط هنا
نسخ الرابط :