«عندما تحاضر ... في العفّة». هذه هي حال «قنوات الثورة على الفساد» ودعاة «الدولة القوية» مع ما يتوجّب عليها تجاه الخزينة العامة. فما أقرّه مجلس الوزراء أمس بصورة رسمية، لم يعد مجرّد أوراق مركونة في أدراج المجلس الوطني للإعلام أو وزارة الإعلام.
والفضيحة الكبرى أنّ هذه القنوات نفسها، المملوكة من شخصيات وقوى تتربّع في قلب السلطة منذ عقود، هي من تهيمن على السوق الإعلاني التقليدي، ولا تزال تتلقّى دعماً مفتوحاً، حتى من جمعية مصارف لبنان التي لا تزال تواصل حجز أموال المودعين. وهي نفسها التي سبق أن منحها الحاكم السابق لمصرف لبنان رياض سلامة قروضاً سخية بضمانات وهمية، لم تُوظّفها في تطوير منتجاتها أو بنيتها، بل وُضعت في المصارف لتحقّق أرباحاً من الفوائد الخيالية. واليوم، فوق كل تلك الممارسات، تتحضّر هذه القنوات نفسها لعقد اتفاق في ما بينها على «تسعيرة» موحّدة، تفرضها على المرشحين للانتخابات النيابية المقبلة، في ابتزاز معلن ومكشوف.
التهرّب من دفع المستحقّات ليس سلوكاً طارئاً على وسائل الإعلام. وفي الأحوال العادية، تُعالج حالات التعثّر وفق آليات واضحة، لكنّ الانهيار المالي جاء ليمنح هذه المؤسسات فرصة ذهبية لخفض قيمة متأخراتها، وهو ما استفادت منه وسائل إعلامية وتجارية عديدة، فيما واصلت «قنوات العفّة» التمنّع عن الدفع، علماً أنّ قيمة المتوجّبات لا تعادل اليوم سوى 5% من قيمتها الفعلية. والمفارقة الفاضحة أنّ إحدى هذه القنوات تبيع الدقيقة السياسية بثلاثة آلاف دولار، فيما ترفض تسديد بضع عشرات الآلاف من الدولارات!
الملف برمّته أُدرج أمس بنداً على جدول أعمال مجلس الوزراء الذي ناقش «تمنّع عدد من المؤسسات الإعلامية عن دفع المستحقّات»، استناداً إلى كتاب رسمي وجّهه المجلس الوطني للإعلام المرئي والمسموع إلى وزارة الإعلام. وأبرز المجلس نسخاً عن مراسلات متكررة أُرسلت إلى هذه المؤسسات للمطالبة بتسديد الاشتراكات المتوجّبة عليها، من دون أي تجاوب، رغم المطالبات المستمرة من وزارة الإعلام.
وقال وزير الإعلام بول مرقص إن القرار اتُّخذ وسيُنفَّذ في أقرب وقت ممكن. فيما أوضح رئيس المجلس الوطني للإعلام المرئي والمسموع، عبد الهادي محفوظ، لـ«الأخبار» أن «غالبية المستحقّات المالية تعود إلى ما قبل الأزمة الاقتصادية وتبدّل سعر الدولار، ما يُلزم وسائل الإعلام بالدفع وفق السعر القديم، في حين تلجأ بعض هذه المؤسسات إلى التحايل على الخزينة العامة بتسديد مستحقّاتها على أساس السعر الحالي».
تصدّرت قنوات mtv
وlbc و«الجديد» وnbn قائمة المتهرّبين من دفع المتوجّبات بينما التزمت «المنار»
و«النور» و«لبنان الحر»
أما الأهم، وفقاً لمحفوظ، فهو تصريح المؤسسات الإعلامية عن مصادر تمويلها الاستثماري، الذي يُفترض أن يأتي من مصدرين: الإعلانات والصناعة الدرامية. غير أنّ هذين المصدرين غير متوافرين في لبنان حالياً، ما يرجّح أن يكون التمويل الأساسي آتياً من جهات خارجية أو من زعماء الطوائف أو رجال أعمال. وهذا يفرض على المؤسسات تقديم كشف كامل وشفّاف عن كيفية تمويل نفسها، كما يستدعي من الحكومة اتخاذ قرارات واضحة في هذا السياق، بما في ذلك تحديد سعر الصرف المعتمد لتسديد المستحقّات ومحاسبة المخالفين».
وباستثناء «المجموعة اللبنانية للإعلام» التي تضم قناة «المنار» وإذاعة «النور»، إلى جانب «لبنان الحر للإنتاج والبث»، وإذاعة «الفجر»، و«راديو دلتا»، و«ميكس أف أم»، و«البشائر»، و«سترايك»، و«صوت النجوم»، و«صوت الجديد»، و«راديو سيفان»، تمتنع جميع المحطات التلفزيونية المُصنَّفة فئة أولى، وكذلك الإذاعات، عن تسديد اشتراكاتها منذ سنوات، في مخالفة فاضحة لقانون الإعلام، ومن دون أن تُتخذ بحقها أي إجراءات ردعية، رغم الصلاحيات التي يتيحها القانون للوزارة بوقف بثّ هذه المحطات عند تخلّفها عن الدفع.
المفارقة أنّ محطات «المؤسسة اللبنانية للإرسال إنترناشيونال» (LBCI) وتلفزيون «الجديد» و«قناة المر» (MTV)، التي تنتج برامج تزعم فيها محاربة الفساد وفضح المخالفين للقانون والفاسدين الذين يهدرون أموال الدولة، هي نفسها في طليعة المخالفين، إذ تتعمّد منذ سنوات الامتناع عن دفع ما يتوجّب عليها للخزينة، ما يحرم الدولة من إيرادات هي بأمسّ الحاجة إليها، علماً أنّ عائداتها الإعلانية والسياسية تتجاوز 30 مليون دولار سنوياً.
وتبلغ المستحقّات المترتّبة على LBCI نحو مليار و600 مليون ليرة (نحو 19 ألف دولار)، وهو المبلغ نفسه المترتّب على «قناة المر» وعلى OTV، مقابل نحو 21 ألف دولار من الاشتراكات المتوجّبة على قناة «الجديد» وعلى تلفزيون «المستقبل» وإذاعة «الشرق» التابعيْن لرئيس الحكومة السابق سعد الحريري. وحلّت في المرتبة الأولى قناة NBN التابعة لرئيس مجلس النواب نبيه بري بمبلغ يقارب 3 مليارات و131 مليون ليرة (نحو 35 ألف دولار).
واللافت أنّ بعض هذه المحطات لم تكتفِ بعائداتها الإعلانية الضخمة وبيع الهواء للسياسيين وأصحاب الأجندات بملايين الدولارات، بل حصلت أيضاً في السنوات الأخيرة على قروض مدعومة من مصرف لبنان. لكن، حين يتعلّق الأمر بخزينة الدولة، تتحوّل مقاربتها إلى التمنّع عن الدفع والالتفاف على القانون، بحثاً عن مخرج يتيح لها الحصول على إعفاء مالي من مستحقّاتها المتوجّبة.
ويتّضح من كتاب محفوظ إلى مرقص بتاريخ 10 تموز الماضي، أنّ المحطات المخالِفة لا تكتفي بالامتناع عن تسديد مستحقّاتها، بل تمتنع أيضاً عن التصريح نصف السنوي عن حسابها الاستثماري كما يفرض القانون 382/94 والمرسوم 7997/96، ولا تكشف كذلك عن مواردها المالية الناتجة من الإعلانات أو الإنتاج الدرامي أو الدعم الخارجي، سواء أتى من طائفة أو رجل أعمال.
ومن هنا، اقترح محفوظ في كتابه «اتخاذ قرار سياسي واضح من السلطة التنفيذية، لأنّ المؤسسات الإعلامية عموماً تعتبر نفسها فوق القانون»، مذكّراً بأنّ «الفضاء ملك للدولة اللبنانية، ولا يمكن استخدامه إلا بالشروط التي تفرضها الدولة، التي تملك الحق في وقف بث أي مؤسسة إعلامية تخالف هذه الشروط».
ويبدو أن مجلس الوزراء، مجتمعاً أمس «تهيّب» اتخاذ أي إجراء مباشر بحق تلك المؤسسات، مكتفياً بتكليف وزارة الإعلام مجدّداً بـ«إبلاغ المؤسسات المُرخّص لها والمتخلِّفة عن تسديد الرسوم المتأخرة، بوجوب دفعها تطبيقاً للقانون». كما فوّض المجلس الوطني للإعلام المرئي والمسموع «تكليف شركات تدقيق ومحاسبة مُحلَّفة بإنجاز الحساب الاستثماري العائد لكل مؤسسة، ورفع التوصيات القانونية المناسبة إلى الحكومة عبر وزارة الإعلام».
تابعوا آخر الأخبار من icon news على WhatsApp تابعوا آخر الأخبار من icon news على Telegramنسخ الرابط :