كتب رشيد حاطوم
في دائرة تُختزل فيها أزمات لبنان، تشهد بيروت الثانية معادلة انتخابية فريدة، يحكمها "الامتناع المُحسوب" وتُحركها تحولات مجتمعية عميقة. هنا، لا يخوض الجميع كل المعارك، لكن كل امتناع هو في جوهره معركة أخرى.
استراتيجية "اللقاء": الامتناع كأعلى درجات الحكمة
يتبنى حزب الله استراتيجية بالغة الدقة،ويخرجها الرئيس بري تتركز على الامتناع الطوعي عن معركتين حاسمتين:
• المقاعد السنية: امتناعٌ يُقرأ كـ "تقدير للرئيس سعد الحريري ومواقفه الوطنية"،بحسب ما اشاد به رئيس كتلة الوفاء للمقاومة محمد رعد واحترام للسياق التاريخي الحساس في العلاقة السنية الشيعية. وهو أيضاً حرص على عدم منح فرصة لـ "بيادق ما يُسمى المجتمع المدني" كوضاح صادق وغيره، الذين قد يحولون المعركة إلى ساحة لمشاريع خارجية.
• المقعد الدرزي: امتناعٌ يأتي "تقديراً للجميل" لوقوف رئيس الحزب التقدمي الاشتراكي وليد جنبلاط إلى جانب المقاومة في محطات مصيرية. إنه قرار بعدم "زكزكته" يحمل رسالة وفاء لتحالف هش لكنه ضروري، ويحافظ على توازن طائفي بالغ الحساسية.
مقابل هذا الامتناع، يركّز الحزب كل طاقته على ضمان المقعدين الشيعيين وكسب معركتي المقعد الإنجيلي والمقعد الأرثوذكسي، والذي يتم التداول بالتحالف مع الحزب السوري القومي الاجتماعي تعبيرا عن وفائه بوقوفه الى جانب المقاومة اضافة الى استحالة تحالف الحزب مع التيار الوطني الحر, في تحوُّل تكتيكي من التوسع الأفقي إلى التعمق الرأسي.
تمرد العائلات: نهاية "التمثيل بالمظلة
لكن أبرز ما تكشفه المعركة في بيروت الثانية هو التمرد الدرزي الداخلي. فقد طفح كيل عائلات دروز العاصمة الأصليين، وقرروا أن "قصارهم طال".
بات واضحاً أن هذه العائلات لم تعد تقبل بمنطق "التمثيل بالمظالة"، حيث يُمنح المقعد لشخصية من خارج نسيجها الاجتماعي. وهي تُشعر الزعيم تيمور جنبلاط بضغوط غير مسبوقة، مفادها أن اللعبة القديمة انتهت.
العائلات تؤكد أنها ليست بحاجة إلى وصاية، فلدينا عشرات الكفاءات من أبناء البيروتيين الدروز المؤهلين لتمثيلهم تمثيلاً حقيقياً. إنها معركة هوية ووجود قبل أن تكون معركة مقعد.
خلاصة الاستراتيجية: الامتناع لكسْر القواعد
بينما تمتنع القوى الكبرى عن معارك، تندلع معارك جديدة من الأسفل. بيروت الثانية تثبت أن السياسة اللبنانية لم تعد لعبة موازين القوى التقليدية وحدها، بل أصبحت ساحة لتمرد الهويات المحلية وصراع الأصالة ضد الوصاية.
في هذه الدائرة، يصبح الامتناع أقوى أسلحة الأقوياء، والتمرد آخر أوراق الضعفاء. والنتيجة؟ معركة واحدة بعشرين وجهاً، تختبر قدرة اللبنانيين على إعادة اختراع سياساتهم من داخل شرنقة الطوائف.
| لمتابعة أهم وأحدث الأخبار انضموا إلينا عبر قناتنا على واتساب (channel whatsapp) .اضغط هنا
نسخ الرابط :