يقول مادورو، الذي يقود فنزويلا منذ عام 2013، إنّ “بلاده لديها النظام الانتخابي الأكثر شفافية في العالم، وإنّ الشعب الفنزويلي يختار السلام وينبذ الفوضى والعنف”، وهو محقّ، لأنه حاكم تمّ اختياره بناءً على عملية تصويت بمشاركة قطاعات واسعة من الشعب، وجرت تحت إشراف المجلس الوطني الانتخابي (CNE)، وهو هيئة دستورية مُستقلة، وفي ظلّ رقابة قضائية، إذ يمكن الطعن أمام المحكمة العليا، أيضاً التصويت يتمّ عبر آلات إلكترونية، وهو ما يجعل العملية غير قابلة للتلاعب، كما أنّ كلّ عملية اقتراع، تمرّ بمراجعات تقنية علنيّة، بحضور ممثّلين عن الأحزاب، إضافة إلى ما سبق هناك جهات دولية تراقب العملية الانتخابية، لكنها بالتأكيد ليست جهات من النوع الذي يحصل على تمويله من واشنطن والاتحاد الأوروبي، وتخترقه عناصر المخابرات الغربية.

لكن على الجانب الآخر، الولايات المتحدة الأميركية لا يمكن أن تعتبر الانتخابات “نزيهة” إلا إذا كان الفائز مُلتزماً بخدمة مصالحها الاقتصادية والسياسية، ويسير وفقاً للخط الذي يرسمه البيت الأبيض؛ لذا مع كلّ انتخابات تجري في فنزويلا رئاسية أو برلمانية، وتكون النتيجة فوز تيار التشافيزية (نسبة إلى هوجو تشافيز)، يتعالى الصياح في واشنطن، وتبدأ الحفلات الصاخبة في وسائل الإعلام الغربية، بهدف التحريض على النظام الفنزويلي، واتهامه بـ “التلاعب بإرادة الناخبين”، لتكون خلاصة الرسالة الأميركية: “إما أن يأتي إلى السلطة من نرضاه أو نتهمكم بالاستبداد والتدليس”، وهي سياسة أميركية باتت متكرّرة ومملة، وتهدف في النهاية للهيمنة على حكومات العالم وإرهابها وإخضاعها.

لماذا فنزويلا مهمة بالنسبة لنا كعرب؟

منذ عهد هوغو شافيز، ثمّ استمراراً مع نيكولاس مادورو، تمثّل فنزويلا نموذجاً حيّاً لتحدّي المشروع الأميركي وهيمنته على العالم، إذ وقفت كراكاس في مواجهة مباشرة مع واشنطن، معلنة انحيازها لخط الاستقلال السياسي والاقتصادي، ورفضها الخضوع لسياسة القطب الواحد؛ وتجربتها في هذا السياق تمنح الأمل لدول الجنوب والعالم الثالث في إمكانية التحرّر من الهيمنة الأميركية وبناء شراكات بديلة مع قوى مثل روسيا والصين وإيران.

والأهمية هنا ليست نظرية فحسب، بل عملية أيضاً، فكراكاس تواجه اليوم أشكال الضغوط ذاتها التي واجهتها أيّ دولة عربية أو إسلامية قرّرت الخروج من العباءة الأميركية، من حصار اقتصادي خانق، إلى محاولات عزل دبلوماسي، وصولاً إلى التهديدات العسكرية ومحاولات قلب الأنظمة من الداخل.

النزعة التدخّلية الأميركية وصلت في حالة فنزويلا إلى مستوى جعل دونالد ترامب، يعلن عن مكافأة جديدة وصلت إلى 50 مليون دولار لمن يقدّم معلومات تقود إلى “توقيف مادورو”، في سابقة تشبه ممارسات المافيا أكثر مما تشبه العلاقات الدولية، ومنذ أيام أرسلت واشنطن أسطولاً بحرياً ضمّ سفناً حربية ومدمّرة وغوّاصة نووية إلى منطقة الكاريبي قبالة سواحل فنزويلا، بذريعة “مكافحة الاتجار بالمخدّرات”.

أما على الصعيد الاقتصادي فتمّ إلغاء تراخيص تصدير نفط صدرت في عهد بايدن، ومنع عمليات شركات كبرى مثل Chevron، مع فرض تعرفة جمركية بنسبة 25% على الدول المُشترية للنفط الفنزويلي، أما على المستوى السياسي، فتضرب أميركا بإرادة الشعب الفنزويلي عرض الحائط، وتعترف بالمرشّح الرئاسي الخاسر، إدموندو غونزاليس أوريتيـا كـ “رئيس شرعي” للبلاد!!.

تلك السياسات القسرية الأميركية ليست سوى نسخة موسّعة عمّا يعيشه الفلسطينيون تحت الاحتلال؛ إذ تمارس حكومة “إسرائيل” حصاراً خانقاً على الشعب الفلسطيني، وتجويعاً ممنهجاً، إلى جانب أعلى درجات القمع العسكري، في محاولة لكسر إرادته وثنيه عن خيار المقاومة، لكن كما يتحلّى الفلسطينيون بالصمود سيظلّ أبناء سيمون بوليفار راسخون.

وكما أنّ ممارسات “إسرائيل” الإجرامية بحقّ العرب ليست بجديدة، فإنّ النهج الأميركي المتغطرس لا يفاجئ الفنزويليين، حتى إجراءات ترامب الأخيرة، قد وقعت أشياء مشابهة لها خلال فترة رئاسته السالفة، فحينها فُرضت عقوبات واسعة على قطاع النفط الفنزويلي (PDVSA) ما حرم كراكاس من مصدرها الرئيسي للعملة الصعبة، وتمّ تجميد الأصول الفنزويلية في الولايات المتحدة، على رأسها شركة “CITGO” (الذراع النفطي لفنزويلا في أميركا)، كما دعمت واشنطن منصات إعلامية للترويج لرواية “ديكتاتورية مادورو”، وضُخّمت صورة المعارضة، وعلى رأسها الدمية الأميركية: خوان غوايدو، إذ تمّ تقديمه في الإعلام الأميركي والأوروبي خلال عام 2019 باعتباره “الرئيس الشرعي”، بعد أن كانت واشنطن قد رفضت بالمثل نتائج الانتخابات الرئاسية لعام 2018.

لكن ماذا حدث بعد كلّ ذلك؟، اختفى غوايدو من المشهد، وهو يعيش اليوم في منفاه بالولايات المتحدة، حياة منطفئة، بلا تقدير يُذكر، ذلك بعد أن صوّتت المعارضة الفنزويلية على إلغاء الحكومة الموازية التي شكّلها غوايدو، وتمّت إزالته من منصبه كرئيس مؤقت، واليوم هو مطلوب ليمثل أمام قضاء فنزويلا، ويفترض أن يلاحقه الإنتربول، بجرائم تشمل خيانة الوطن، غسل الأموال، والارتباط بالإرهاب؛ على الجهة المقابلة لا يزال الشعب الفنزويلي ملتفاً حول مادورو، مدافعاً عن الثورة البوليفارية رغم كلّ الصعوبات.

صحيح أنّ دونالد ترامب يشعر أنه في وضع جيّد اليوم، خاصة أنّ عودته إلى الحكم في كانون الثاني/يناير الماضي تزامنت تقريباً مع سقوط نظام بشار الأسد، وإدارة ترامب بأكملها لديها قناعة أنّ الأسد قد رحل عن الحكم بسبب العقوبات الاقتصادية القاسية التي فُرضت على سوريا بين عامي 2019 و2020، تحت اسم “قانون قيصر”، ما تسبّب في حدوث شلل اقتصادي للبلاد، أدّى إلى تفكّكها داخلياً، لتسقط دمشق في نهاية المطاف بعد أربع سنوات في قبضة “جبهة النصرة”.

وتحت تأثير تلك الفكرة يريد ترامب تكرار السيناريو ذاته مع فنزويلا، مع الإبقاء على الخيار العسكري، بالضبط كما كان الحال مع سوريا، لكن كما يقول المثل الصيني: “من يتعثّر بحجر مرّة، يتعلّم أن ينظر إلى الطريق”، وقد تعلّم محور الممانعة العالمي الدرس جيداً، ولن يحقّق ترامب أو أيّ من رؤساء أميركا القادمين أهدافهم في فنزويلا.

فنزويلا وفلسطين

من الخطأ الذي لا يغتفر النظر إلى القضية الفلسطينية باعتبارها ملفاً معزولاً عن سياق الصراع العالمي مع الهيمنة الأميركية، فمَن يقف ضد المشروع الأميركي في أيّ مكان في العالم، إنما يقف ضمناً إلى جانب فلسطين؛ وليست مفاجأة أنّ عواصم العالم التي ترفض الانصياع لواشنطن، من بيونغ يانغ إلى كراكاس، هي ذاتها التي دعمت حقوق الشعب الفلسطيني تاريخياً، وتعتبر “إسرائيل” قاعدة متقدّمة للنفوذ الأميركي، وهي ذاتها التي رفضت الغزو الأميركي للعراق في 2003، وندّدت لاحقاً بالهجمة الإمبريالية التي نالت من ليبيا وسوريا في سياق ما عرف بـ”الربيع العربي”، وبالتالي، فإنّ الوقوف مع تلك العواصم هو دفاع عن فلسطين وعموم المصالح العربية، لأنّ معركتها ومعركة العرب واحدة في الجوهر.

عند النظر بعمق أكثر لعلاقة فنزويلا بالقضية الفلسطينية، يمكن ملاحظة أنّ التحوّل التاريخي في دعم فلسطين جاء مع تشافيز، فقبل وصوله إلى السلطة كانت العلاقات بين كراكاس و”تل أبيب” طبيعية، بل ودافئة نسبياً، ففنزويلا صوّتت لصالح قرار تقسيم فلسطين عام 1947، وأقامت علاقات دبلوماسية وتجارية مع “إسرائيل”، وكانت هناك جالية يهودية نشطة في كراكاس ما عزّز الروابط؛ لكن مع تشافيز، انعطفت السياسة الفنزويلية 180 درجة، فالرجل، المتأثّر بتجربة فيدل كاسترو،  وزعماء التحرّر الوطني كافة، وصولاً إلى جمال عبد الناصر، تبنّى خطاباً مناهضاً للإمبريالية، وأقام علاقات وثيقة مع الثورة الإيرانية وسوريا الأسد، واعتبر “إسرائيل” ذيلاً لواشنطن في الشرق الأوسط.

لذا جاءت إدانة تشافيز لـ “إسرائيل” أثناء حرب لبنان عام 2006، وتمّ سحب السفير الفنزويلي من “تل أبيب”، ثمّ في عام 2009، بعد حرب غزة (الرصاص المصبوب)، تمّ قطع العلاقات الدبلوماسية مع “إسرائيل” نهائياً وطرد سفيرها، وهو الوضع المستمر حتى الآن.

إذ واصل مادورو النهج نفسه الذي بدأه تشافيز، فلم تُستأنف العلاقات الدبلوماسية مع “إسرائيل”، وظلت فنزويلا من أشدّ المؤيّدين لفلسطين والمقاومة في المحافل الدولية، ووُصفت “إسرائيل” في الإعلام الفنزويلي مراراً بأنها “كيان استعماري” و”أداة صهيونية”، وعندما اندلعت الحرب بين إيران وبين “إسرائيل”، في حزيران/يونيو الماضي، أعلن مادورو دعمه الكامل لطهران، ووصف نتنياهو بأنه “هتلر القرن الحادي والعشرين”، وساند عبر المنصات الإعلامية الردّ الإيراني، مؤكّداً أنّ الصواريخ الإيرانية أثبتت أنّ “إسرائيل ما هي إلّا  نمر من ورق”.

في المقابل فإنّ زعماء المعارضة الفنزويلية كافة الذين ترعاهم واشنطن، يعلنون تأييدهم لـ “إسرائيل”، بداية من خوان غوايدو، الذي كان قد أعلن في شباط/فبراير 2019 أنه سيعمل على إعادة العلاقات مع “إسرائيل”، وأنه ربما يعترف بالقدس عاصمة لها، وصولاً إلى المعارِضة النشطة حالياً، ماريا كورينا ماشادو، والتي تتلقّى دعماً سياسياً معلناً من البيت الأبيض، فهي تؤكّد أنّ مشروعها السياسي على المستوى الخارجي، يتضمّن إعادة العلاقات الطبيعية مع “إسرائيل”، وتنتقد مادورو بسبب انحيازه لمحور إيران/فلسطين، كما تهاجمه، برفقة، المرشح الخاسر إدموندو غونزاليس، بسبب التحالف مع موسكو وبكين.

اللافت أيضاً، الموقف الإسرائيلي المعادي بشراسة لمادورو؛ فنتنياهو عندما كان رئيساً للحكومة الإسرائيلية في 2019 اعترف رسمياً بخوان غوايدو كـ “رئيس مؤقت” لفنزويلا، وحرّض حينها على إسقاط مادورو، وهذا العام 2025 يتكرّر المشهد نفسه، فبالتزامن مع الحرب على قطاع غزة، تُعلن حكومة الاحتلال دعمها لزعيمي المعارضة في فنزويلا، إدموندو غونزاليس وماريا كورين، ويردّد الإعلام العبري  المزاعم الأميركية ذاتها بخصوص عدم “نزاهة الانتخابات الفنزويلية”، وتتمّ دعوة غونزاليس لزيارة “إسرائيل”، ويُوصف الرئيس الفنزويلي المنتخب مادورو بأنه “حليف لنظام إيران المُجرم”!!.

فلعلّ تلك المواقف الإسرائيلية المعلنة، واللغة الحادّة التي يواظب القادة والسياسيون الإسرائيليون على استخدامها، كافية لأن ترشد المواطن العربي إلى المعسكر الصحيح الذي ينبغي أن ينحاز إليه.