من أنطون سعادة إلى توم براك: هل تغيرت خرائط المشرق أم وظائف الدول؟

من أنطون سعادة إلى توم براك: هل تغيرت خرائط المشرق أم وظائف الدول؟

بعد عقود من تفكيك الكيانات على أسس طائفية وإثنية، تسعى واشنطن اليوم إلى هندسة الإقليم بطريقة تُبقي على صورة الدولة وتعيد توظيفها، لا بوصفها كياناً سيادياً مستقلاً بل كأداة في منظومة إقليمية قابلة للتطبيع وإعادة توزيع النفوذ. وفي هذا الإطار، لا يبدو الحديث عن الدولة المركزية عودة إلى الصيغة الوطنية الكلاسيكية، بل خطوة وظيفية لترويض الفوضى وتنظيم التفكك.

 

Telegram

 

تشهد المقاربة الأميركية لمنطقة المشرق العربي تحولاً لافتاً يشي بأن مرحلة "التفكيك" التي سادت بعد احتلال العراق عام 2003 آخذة في الأفول، لمصلحة مقاربة جديدة تسعى إلى إعادة ترميم "الدول المركزية" في سوريا والعراق ولبنان، ولكن ضمن ترتيبات سياسية وجغرافية جديدة. وهذا التحول لا يعني العودة إلى صيغة "سايكس–بيكو" الكلاسيكية، بل أقرب إلى مراجعة مدروسة لها تتيح تعديل الحدود ومناطق النفوذ من دون المساس بالبنية الشكلية للدول ككيانات سياسية قائمة.

وفي هذا الإطار، تستحضر التصريحات الأميركية الأخيرة بصورة غير مباشرة إرث المفكر اللبناني أنطون سعادة، الذي دعا إلى وحدة بلاد الشام على أسس علمانية ومدنية تتجاوز العصبيات الطائفية والحدود المصطنعة. غير أن ما يطرحه اليوم المبعوث الأميركي الخاص توم براك بدعوته إلى إنهاء الميليشيات وبناء أنظمة مركزية لا يندرج في إطار مشروع وحدوي أو قومي، بل في سياق وظيفة استراتيجية تهدف إلى إعادة ضبط النظام الإقليمي، والحد من تمدد الجماعات غير النظامية، وتسهيل التطبيع السياسي والاقتصادي مع إسرائيل.

تجربة العقدين الماضيين، خصوصاً بعد تبني ما يُعرف إعلامياً بـ"نظرية برنارد لويس"، والتي قامت على تفكيك الكيانات الوطنية إلى مجتمعات طائفية وإثنية، أظهرت أن هذا المسار أدى إلى نتائج عكسية، فقد تحولت هذه المجتمعات إلى قوى عدوانية غير منضبطة خارجة عن سيطرة الدولة، وتدار غالباً عبر ولاءات لمحاور إقليمية متصارعة. ومن هنا، تتجه واشنطن اليوم إلى مقاربة معاكسة تعيد الاعتبار للدولة المركزية ولكن بصيغة مقيدة عبر ضبط أمني مشدد، وتعديلات موضعية في البنى الإدارية أو الحدودية، وتطويع اقتصادي يفتح الباب أمام شراكات إقليمية تقود تدريجاً إلى فضاء تعاون تطبيعي.

 تستحضر التصريحات الأميركية الأخيرة إرث المفكر أنطون سعادة الذي دعا إلى وحدة بلاد الشام (موقع ويكيبيديا)
تحذير براك أعاد إلى الأذهان المشروع القومي لأنطون سعادة ولكن من زاوية أميركية لا قومية​​​​​​​ (موقع ويكيبيديا)
السويداء نموذجاً
تتجلى هذه المقاربة في النموذج الذي يُرسم لمحافظة السويداء جنوب سوريا، إذ تتزامن الاشتباكات المحلية مع ضربات إسرائيلية على دمشق، وتتردد في الكواليس أفكار عن تحويل السويداء إلى منطقة عازلة ذات طابع درزي تخدم كعمق استراتيجي لإسرائيل. ومن هنا لا يستبعد أن تطرح صيغ مماثلة لاحقاً على الحدود اللبنانية–السورية، خصوصاً في مناطق نفوذ "حزب الله"، بما يفتح الباب أمام هندسة جديدة للمنطقة لا تلغي الدول بل تعيد تشكيلها، وتحافظ على المراكز الرسمية بشرط تحجيم القوى الخارجة عنها.

بهذا المعنى لم تعد وحدة المشرق هدفاً قومياً بل أضحت مشروعاً وظيفياً يعيد توزيع النفوذ ويسهل الاندماج الاقتصادي–الأمني مع إسرائيل. ويبدو أن ما يجري اليوم يعد المرحلة الأخيرة من مراحل "ما بعد التفكيك"، التي لا تلغي الخرائط بل تخفض من مناعتها، وتبقي على الشكل مقابل إخضاع المضمون. 

وفي هذا السياق، يرى المحاضر في العلوم السياسية بجامعة "إكستر" هيثم هادي نعمان أن "الإقليم يشهد اليوم مرحلة دقيقة من التحولات السياسية والاستراتيجية، في ظل إعادة الولايات المتحدة صياغة مقاربتها تجاه منطقة بلاد الشام. فقد تخلت واشنطن بصورة تدريجية ولافتة عن دعم ما عرف طويلاً بـ"سياسة المجتمعات"، وهي السياسة التي شجعت على ترسيخ الهويات الطائفية والإثنية داخل الدول لمصلحة مشروع جديد يقوم على إعادة الاعتبار للدولة المركزية، كضامن للاستقرار وممر إلزامي لأية تسوية إقليمية مقبلة". 

ويشير إلى أن "هذا التحول تجلى بوضوح في تصريح براك الذي حذر من أن استمرار السلاح الخارج عن الشرعية في لبنان لا يهدد التوازن الداخلي فحسب، بل قد يقود إلى زوال الدولة بصيغتها الحالية، ودفع البلاد نحو اندماج وظيفي في كيان جيوسياسي أوسع يشمل أجزاء من بلاد الشام. تحذير براك أعاد إلى الأذهان المشروع القومي لأنطون سعادة ولكن هذه المرة من زاوية أميركية لا قومية، توظف الفكرة الوحدوية لأغراض إعادة الهندسة السياسية، لا لتحقيق حلم حضاري جامع".

AFP__20250719__679X6T4__v1__MidRes__SyriaConflictMinoritiesIsrael (1).jpg
مقاتلون من العشائر في الحي الغربي من مدينة السويداء ذات الأغلبية الدرزية، 19 يوليو 2025 (أ ف ب)
ويلفت نعمان إلى أن "الولايات المتحدة على مدى العقدين الماضيين وتحديداً منذ اجتياح العراق عام 2003، دعمت مشاريع فيدرالية في أكثر من دولة مستندة إلى خطاب حماية الأقليات وتعزيز التوازن الديمقراطي. غير أن نتائج هذا النهج جاءت معاكسة للتوقعات، إذ أنتجت كيانات شبه مستقلة تديرها ميليشيات محلية ترتبط مباشرة بعواصم إقليمية ودولية، مما أدى إلى تقويض مفهوم الدولة الوطنية في العراق وسوريا ولبنان"، مشيراً إلى أن "التحول الأميركي بات ملموساً في الموقف من "قوات سوريا الديمقراطية" شمال شرقي سوريا. فبعدما شكلت هذه القوات ذراعاً محلية للنفوذ الأميركي، بدأت واشنطن طرح فكرة دمجها في إطار "دولة سورية جديدة"، مما يشير إلى تراجع رهانها على الفيدراليات الهوياتية واعتمادها خيار الدولة الواحدة القابلة للتفاوض مع القوى الكبرى".

فكرة واحدة وغايات مختلفة
في السياق اللبناني، يرى نعمان أن "واشنطن تتعامل مع مسألة سلاح ’حزب الله‘ باعتبارها مشكلة لم تعد تقتصر على الداخل اللبناني، بل تحولت إلى تهديد يتجاوز الحدود ويضع الكيان اللبناني أمام احتمالات وجودية"، لافتاً إلى أن "كلام براك يعكس هذا المنحى، إذ اعتبر أن استمرار السلاح خارج مؤسسات الدولة قد يدفع بالبلاد إلى فقدان سيادتها السياسية والاندماج في كيان أكبر تعاد من خلاله صياغة الخريطة الجيوسياسية لبلاد الشام بصورة تتجاوز اتفاق (سايكس–بيكو)، ويلبي حاجات توازنات جديدة تتشكل في الإقليم".

ويشير إلى أن "هذا المسار ترافق مع تفكك واضح في وظيفة سياسة المجتمعات، إذ أفرزت هذه السياسة ما يمكن وصفه بالمجتمعات المسلحة، أي جماعات دينية أو إثنية تحولت إلى ميليشيات تديرها قوى خارجية تحت تسميات شرعية. وفي سوريا، تلقت بعض المجموعات العلوية والدرزية دعماً مباشراً من موسكو. وفي لبنان، انفتحت بعض القوى المسيحية والسنية على علاقات مع باريس وبعض العواصم الخليجية. وفي العراق، بات ’الحشد الشعبي‘ قوة فوق–دولتية تتلقى دعماً إيرانياً وتتعامل مباشرة مع موسكو".

 

الدولة الوطنية والطوائف الدينية
ويضيف "أمام هذه الوقائع تبين لصناع القرار في واشنطن أن مشاريع الفيدرالية والهويات الجزئية لم تكن أدوات لبناء الدولة، بل وسائل لإضعافها وتعميق الانقسامات. وبناءً عليه أعادت الإدارة الأميركية تقييم سياساتها، فرجحت كفة الدولة المركزية على رغم هشاشتها، باعتبارها الخيار الواقعي الوحيد لحماية مصالحها وتحقيق استقرار نسبي في المنطقة".

ويشير نعمان إلى أنه "ما بين المشروع القومي الذي حلم ببلاد الشام ككيان موحد، وتحذير توم براك الذي يلوح باندماج قسري للبنان في كيان جديد إن لم تحل أزمة السلاح، يمكن القول إن الفكرة لم تمت بل أُعيد توظيفها في سياق مختلف. فبين الحلم والتهديد تتجدد مقاربة بلاد الشام لا كخيار وحدوي ثقافي، بل كأداة ضغط سياسية لإعادة ترتيب ميزان القوى، بما يتيح للغرب التفاوض مع دول مركزية واحدة، لا مع مجموعات متنازعة تتبع لأجندات متناقضة. وهكذا، تبدو نهاية سياسة المجتمعات وشيكة تمهد لمرحلة صراع جديدة في الشرق الأوسط عنوانها شكل الدولة ووظيفتها، لا فقط حدودها وتوازناتها".

وهم الوحدة وهندسة التفكك
لم يكن التحول في السياسة الأميركية تجاه المشرق مجرد تبدل ظرفي في الأدوات أو الأولويات، بل جاء كمؤشر إلى إعادة تموضع استراتيجية أوسع تسعى من خلالها واشنطن إلى فرض معادلة جديدة تضبط من خلالها التفكك الذي أصاب بنية الدولة الوطنية، لا سيما في الدول الهشة كلبنان وسوريا والعراق. فبعد أعوام من التكيف مع جماعات مسلحة ومحاور متضاربة، يبدو أن الرهان اليوم يتجه نحو استعادة مركزية الدولة، لا عبر مشروع وحدوي، بل عبر ضغط وظيفي يعيد تشكيل الخريطة من بوابة الأمن، لا من بوابة القومية.

وبدوره، يرى الأستاذ في العلوم السياسية والشؤون الدولية في الجامعة اللبنانية الأميركية عماد سلامة أنه "من الواضح أن ما يجري تداوله في الكواليس اليوم، ليس مشروعاً توحيدياً بالمفهوم القومي، بل أقرب إلى رؤية أميركية تهدف إلى إعادة صياغة المشهد السياسي والأمني في المشرق لمصلحة استقرار أكبر ونفوذ أميركي أوسع"، لافتاً إلى أن "الولايات المتحدة، تاريخياً، تفضل التعامل مع كيانات وطنية ضمن دول مركزية ذات مؤسسات قوية، بدلاً من كيانات ضعيفة تهيمن عليها جماعات مسلحة مرتبطة بمحاور إقليمية، لأن هذه الأخيرة تجعل من المنطقة ساحة صراع مفتوحة، توظف فيها الجماعات المحلية كأدوات نفوذ من قوى كإيران وإسرائيل، وهو ما يضعف الهيمنة الأميركية ويعقد مصالحها الاستراتيجية".

AFP__20250719__679U9NL__v1__MidRes__IsraelSyriaConflictGolanDruze.jpg
أفراد من الطائفة الدرزية في إسرائيل بانتظار فرصة لرؤية أقاربهم على الجانب السوري (أ ف ب)​​​​​​​
وفي معرض تشريحه للحال اللبنانية، يشير سلامة إلى أن "لبنان كغيره من الدول الضعيفة في الإقليم ’سوريا والعراق واليمن‘، يشكل نموذجاً حياً على دولة مغلوب على أمرها أمام الانقسامات الطائفية، وتسيطر على قرارها قوى مسلحة غير نظامية"، معتبراً أن "هذه الفوضى جعلت لبنان تاريخياً ساحة لتصفية الحسابات الإقليمية والدولية، مما دفع الولايات المتحدة أحياناً إلى الاعتماد على سوريا لضبط الوضع فيه، سواء لكبح الفصائل الفلسطينية في الماضي أو لموازنة المعارضة المسيحية في محطات تاريخية معينة".

ضغط أم إعادة وصاية؟
في هذا السياق، يندرج تصريح المبعوث الأميركي توم براك حول احتمال "اندماج لبنان في كيان سياسي أوسع"، كإشارة إلى احتمال إعادة عقارب الزمن إلى الوراء، إذ يرى سلامة أنه "لا يستبعد التفكير في إعادة إحياء الدور الأمني السوري في لبنان لكبح الوجود المسلح الشيعي، إذا ما عجزت الدولة اللبنانية عن الاضطلاع بهذا الدور بنفسها. لكن هذا الطرح ليس مشروعاً وحدوياً بقدر ما هو أداة ضغط ورسالة تحذيرية للأطراف الداخلية والخارجية بأن استمرار الوضع على ما هو عليه يهدد الكيان اللبناني كما هو".

ويلفت سلامة إلى أن "الأمر مرتبط كذلك بعملية إعادة تركيب الإقليم، خصوصاً بعد الضربات العسكرية التي تلقاها ’حزب الله‘، والحديث عن محادثات أمنية بين إسرائيل وسوريا تهدف إلى إخراج النفوذ الإيراني من المنطقة أو في الأقل تقليصه. غير أن من السابق لأوانه الجزم بمدى جدية وقدرة التنسيق الأمني بين الولايات المتحدة والدولة اللبنانية وسوريا وإسرائيل، على تجريد الحزب من سلاحه من دون توفير ضمانات سياسية جدية تحمي توازن القوى الداخلي في لبنان وتمنع انفجار الأوضاع".

ويؤكد سلامة أن "لبنان بات اليوم أمام مفترق طرق يتطلب حلولاً جدية تقيه خطر العودة إلى زمن الوصاية أو الانزلاق نحو حروب جديدة، والحل الوحيد يكمن في استعادة الدولة اللبنانية لمركزيتها وسلطتها الحصرية على السلاح والأمن، لأن استمرار تشرذم القوى الطائفية والمسلحة يعني بقاء البلد ورقة في لعبة الأمم".

أما عن حضور طيف أنطون سعادة ومشروعه في الخطاب الحالي، فيرى سلامة أن "رؤيته لا تترجم بمجرد وحدة جغرافية أو سياسية شكلية، بل كانت تحمل مشروع تكامل اقتصادي واجتماعي يضع حداً للتشرذم الطائفي الذي يعوق بناء الدولة. ومن هنا، لا يمكن تحقيق أي مشروع وحدوي أو حتى استقرار حقيقي في المشرق ما لم يحسم موضوع حصرية السلاح وبناء دولة مدنية قوية قادرة على فرض القانون على كامل أراضيها".

ويعد سلامة أن "ما يطبخ اليوم أقرب إلى أداة ضغط لإعادة هندسة التوازنات الداخلية والإقليمية، أكثر منه مشروعاً توحيدياً حقيقياً. ومصير لبنان سيظل معلقاً بين مشاريع الخارج وإرادة الداخل في بناء دولة قوية، ما لم يحسم ملف السلاح خارج الدولة كمدخل ضروري لحماية الكيان اللبناني من مشاريع الوصاية أو الاندماج القسري في خرائط جديدة".

تابعوا آخر الأخبار من icon news على WhatsApp تابعوا آخر الأخبار من icon news على Telegram

نسخ الرابط :

(يلفت موقع “iconnews ” انه غير مسؤول عن النص ومضمونه، وهو لا يعبّر إلا عن وجهة نظر كاتبه أو مصدره)

:شارك المقال على وسائل التواصل الإجتماعي

 

Telegram