منذ أن طرح المبعوث الأميركي توماس برّاك ورقته على الحكومة اللبنانية كخريطة طريق لسحب سلاح حزب الله...
انشغلت الأوساط السياسية والإعلامية في بيروت بجدلٍ واسع حول مضمونها ومآلاتها.
فبينما تتمسّك الحكومة اللبنانية بالورقة على أمل فتح نافذة حلّ...
تبدو إسرائيل رافضة أساساً لأي التزام بها، بل ومستفيدة من استمرار الوضع القائم.
*أين الإعلام اللبناني من هذا الواقع؟*
في موازاة استمرار العدوان الإسرائيلي العسكري على لبنان، تُخاض حرب بأدوات أخرى من أجل إعادة تعريف الأشياء والمصطلحات.
تدور رحاها في نشرات الأخبار وتصريحات الديبلوماسيّين، حيث تُستبدل كلمة «المقاومة» بـ«الميليشيا» و«الشرعية الشعبية» بـ«الشرعية الدولية».
*هذه ليست صدفة لغوية، بل خطّة متكاملة:* تغيير المعنى قبل تغيير الواقع.
فحين تقول «نزع السلاح» بدل «تجريد المقاومة»، تكون قد عبرت نصف الطريق نحو تحقيق الهدف.
وخلال الأسابيع الماضية، تبنّت بيانات رسمية لبنانية نفس القاموس السياسي الأميركي:
الحديث عن «حصرية السلاح بيد الدولة» و«الامتثال لقرارات المجتمع الدولي».
هذه اللغة ليست محايدة؛ إنها تنقل المعركة من إطار الدفاع عن الأرض إلى إطار ضبط الداخل وفق شروط خارجية.
وعليه، انتقلت الحرب إلى جبهة أخرى أكثر خفاءً وتأثيراً: جبهة الإعلام والحرب الناعمة.
حيث تُستخدم الشاشات والمنصّات الرقمية مع الخطاب الموجّه، لتفكيك بيئة المقاومة وزرع الشكوك والانقسامات بداخلها.
*حرب ناعمة بخطاب صلب*
من المعلوم أنّ الحرب الناعمة هي إستراتيجية تقوم على إضعاف الخصم عبر أدوات ثقافية وإعلامية ونفسية، بدلاً من المواجهة العسكرية المباشرة.
في الحالة اللبنانية، تُترجم هذه الحرب عبر خطاب إعلامي متواصل يربط سلاح المقاومة بالفوضى الاقتصادية، ويقدّمه كعائق أمام الإصلاح والدولة.
منصات تلفزيونية وصحافية ومواقع إخبارية، تعمل بخطاب يبدو في ظاهره «تحليلات سياسية» أو «تغطية إخبارية»
لكنه في العمق يندرج ضمن هندسة وعي جماعية تتبنّى السردية الغربية والخليجية في توصيف حزب الله
وقد كشفت العديد من التقارير والتحقيقات الدولية أنّ بعض وسائل الإعلام اللبنانية تعتمد على تمويل مباشر أو غير مباشر من جهات خارجية...
سواء عبر برامج دعم إعلامي أو عبر شراكات مع مؤسسات دولية.
هذا التمويل لا يقتصر على دعم تقني أو تدريبي، بل غالباً ما يرتبط بشروط تحريريّة أو بتوجّهات سياسية تتقاطع مع أجندات المموّلين.
ولا يمكن فصل التمويل عن الخط التحريري. الجهات المموِّلة، سواء كانت حكومات أو مؤسسات...
تدرك أنّ النفوذ الإعلامي في لبنان يعني التأثير على الوعي الجمعي، وبالتالي على الخيارات السياسية للناخب والمجتمع.
وبذلك، يتحوّل الإعلام إلى أداة ضمن منظومة الحرب الهجينة، إذ تلتقي الضغوط الاقتصادية بالعقوبات السياسية، مع خطاب إعلامي مُصمَّم لإضعاف شرعية المقاومة الشعبية لسلاح حزب الله.
فإذا كان سلاح المقاومة هو الهدف النهائي، فإنّ تحطيم صورته في عيون حاضنته هو المعركة الأخطر.
هذه المعركة لا تُكسب بصاروخ، بل بخبر عاجل، أو تقرير، أو حملة «هاشتاغ» على وسائل التواصل الاجتماعي.
ولذلك، إنّ فهم طبيعة هذا التمويل الإعلامي وتحليل خطابه، ليس ترفاً بحثياً، بل ضرورة لفهم خريطة الصراع على لبنان اليوم.
*شرعية على المقاس*
الشرعية في الشارع اللبناني ليست غامضة أو صعبة الاكتشاف: نصف مليون صوت انتخابي مُنح للمقاومة، رغم كل القيود الطائفية والانتخابية.
هذه شرعية شعبية لا يملك الخارج إبطالها. لكنّ واشنطن وتل أبيب تقدّمان تعريفاً مختلفاً:
الشرعية هي أن تكون الحكومة «منضبطة»، تلتزم التمويل الخارجي المشروط ببرنامج عمل مستورد، وتنفّذ ما يسمّى «إصلاحات» تبدأ بتسليم السلاح.
بهذا المنطق، يتحوّل تجريد طائفة بأكملها من عناصر قوّتها إلى عملية سياسية «مشروعة» و«حضارية».
*من وادي الجحير إلى وادي المصطلحات*
بعد حرب تموز 2006، كان الصراع واضحاً: جبهة في الجنوب، ومعركة مع عدو مباشر.
اليوم، الجبهة هي نشرات الأخبار، والعدو هو المفردة التي تغيّر المزاج العام.
من وادي الحجير، حيث رُسمت معادلة الردع بالنار، إلى وادي المصطلحات حيث تُرسم اليوم معادلة الردع بالكلمات...
هناك محاولة لنقل الصراع من ساحة يملك فيها المقاومون اليد العليا، إلى ساحة تملك فيها القوى الدولية التفوّق المطلق.
فإذا نجحت عملية إعادة صياغة الخطاب، سيأتي نزع السلاح كنتيجة طبيعية، وكأنه قرار داخلي لا إملاء خارجي.
أمّا إذا فشلت، فستظلّ «المقاومة» مصطلحاً كامل الشرعية، في وجه أي محاولة لشيطنته أو تحييده.
المسألة، إذاً، ليست إن كان السلاح سيبقى أو يُنتزع، بل إن كانت الكلمة التي تصفه ستبقى «مقاومة» أم ستتحوّل إلى «ميليشيا».
في لبنان اليوم، الكلمات أخطر من الرصاص. مَن يسيطر على القاموس، يسيطر على الشرعية.
ومَن يسيطر على الشرعية، يرسم مستقبل البلاد. وبين «الشرعية الشعبية» و«الشرعية الدولية» يتحدّد مصير لبنان:
إمّا أن يُكتب بأيدي أبنائه، أو أن يُملى عليه من خارج حدوده.
تابعوا آخر الأخبار من icon news على WhatsApp تابعوا آخر الأخبار من icon news على Telegramنسخ الرابط :