لا حدود لـ«سلبطة» المصارف: عقود مفخّخة بألغام قانونية

لا حدود لـ«سلبطة» المصارف: عقود مفخّخة بألغام قانونية

 

Telegram

 

تعمد المصارف اللبنانية إلى تفخيخ عقود المودعين ببنود استنسابية تعسّفية تشرعن سلب ودائعهم وتمنعهم من المقاضاة أو تحويل الأموال، في استغلال ممنهج ومفضوح.

في كل مرة نعتقد أن الانحدار قد بلغ مداه، يتبيّن أن لا قاع لسلوك النظام المصرفي، الذي يواصل إذلال المودعين بقرارات تعسّفية واستنسابية. فبعدما أمضى سنوات الأزمة يتصرّف بأموال الناس من دون أيّ سند قانوني، ها هو اليوم يحاول شرعنة مخالفاته من خلال إدراج شروط ملغومة في العقود، تُخضع حقوق المودعين لمزاج الإدارة. ووفقاً لهذه الشروط، يصبح منح المودع حق التصرف بوديعته خاضعاً حصراً لإرادة المصرف التي تقرّر متى وكيف يُسمح له بالوصول إلى أمواله.

ومع لجوء المودعين إلى القضاء لتحصيل ودائعهم، وظهور مؤشرات قضائية لصالحهم، شعرت المصارف بأن خسائرها باتت محتملة، فاستنفرت لإيجاد وسيلة جديدة تقطع الطريق أمام هذا المسار القانوني. وبما أن إبقاء المودعين تحت هيمنتها من دون غطاء قانوني لم يعد مضموناً، اختارت المصارف استراتيجية جديدة: فرض الأمر الواقع عبر عقود مفخّخة تُشرعن بها ممارساتها، وتحوّل السطو على الودائع من تجاوزٍ للقانون إلى «سلبطة» موثّقة وموقّعة.
ففي العقود المُعدّلة التي تفرضها المصارف اليوم على العملاء، تبرز بنود تنطوي على نية صريحة بحرمان المودع من حقوقه. على سبيل المثال، يفرض مصرف MEAB على العميل توقيع تعهّد بـ«عدم مطالبة المصرف بإجراء أي تحويل إلى أي جهة خارج لبنان، بأي عملة ومهما كان سبب التحويل»، وبالموافقة على «حق المصرف بأن يمتنع عن تنفيذ أي حوالات إلى الخارج دون الحاجة إلى تبرير ذلك، بما فيها الحوالات العائدة لأسباب طبية أو لتأمين المصاريف الدراسية أو المعيشية لأيّ كان خارج الأراضي اللبنانية». بل يمنح المصرف نفسه الحق المطلق بقبول الحوالات أو رفضها من دون أي مبرّر، مع تأكيد أن تنفيذ أي حوالة لا يترتّب عليه أي حق مكتسب للعميل.

ومثل ذلك، يشير عقد العميل لدى مصرف BLC، مثلاً، إلى أنّه «لا يحق للعميل إلزام المصرف بتقديم أي خدمات مصرفية خارج نطاق الأراضي اللبنانية تتعلق بوديعته أو بجزء منها ولا سيما منها المطالبة بإجراء تحاويل مصرفية إلى مصارف خارجية أو إصدار شيكات لتحصيلها من الخارج ما لم يوافق المصرف على ذلك لتمتّعه بسلطة استنسابية مطلقة في هذا المجال». والأمر نفسه لدى بنك لبنان والمهجر BLOM الذي ربط أي تحويل خارجي من حساب العميل بتقدير المصرف، مع احتفاظه بحق الرفض التام أو الجزئي من دون تقديم أي تبرير.

لكنّ الأخطر من كل ما سبق، هو إدراج بعض المصارف بنوداً تنزع من المودع حقه في مقاضاة المصرف، وفي ذلك إنهاء أي أمل لدى المودعين بتحرير أموالهم.

عدد كبير من المودعين «ابتلعوا» الخديعة في البداية، خصوصاً أن رواية موحّدة قُدّمت لهم للحصول على تواقيعهم، عبر الإيحاء بأنّ الأمر لا يعدو كونه إجراءً روتينياً و«تحديثاً لمعلومات العميل»، من دون الإشارة إلى أي تعديل جوهري في العقد.

الذريعة الأكثر تداولاً كانت تتعلّق بالحسابات الخاملة («account dormant»)، حيث يُطلب من العملاء تجديد بياناتهم تحت طائلة شطب حساباتهم، وتُلغّم العقود الجديدة بتعديلات خفيّة، تتعامل معها المصارف كأنها غير موجودة، فتُطمئن العميل بأن العقد لم يتغيّر، وكل ما في الأمر مجرد تحديث معلومات.

بما أن كثيرين لا يملكون الوقت أو القدرة على قراءة العقود الكاملة، وقعوا في الفخّ ووقّعوا فعلياً على صكّ «تنازل» عن ودائعهم، قبل أن يتنبّه البعض إلى الأمر منذ نحو شهرين، مع عودة عدد من المغتربين إلى لبنان وسعيهم إلى تحديث ملفاتهم، إذ لفتت بعض البنود الإشكالية انتباههم، ما دفعهم إلى استشارة محامين قبل التوقيع، وإبلاغ جمعيات المودعين بالمخالفات المدسوسة في العقود.

المحامي وديع عقل أكّد أنه اطّلع على عدد كبير من العقود المصرفية التي تكشف إدراج نصوص جديدة تهدف، بخلاصة واضحة، إلى «تبخير» الودائع، مشيراً إلى أن مكتبه يحتفظ بنحو 700 عقد، بعضها وقّعها أصحابها ووقعوا في الفخ، وعقود أخرى نجا أصحابها في اللحظات الأخيرة. لكن في الحالتين، يتجلّى نمط متكرر لنظام مصرفي يُدير البلاد منذ عام 2019 وفقاً لمصالح مالكيه، من دون أي اعتبار لمصير أموال الناس وجنى أعمارهم. وهو نظام بات يتصرّف بفائض من القوة، يدفعه إلى تقنين سلب الودائع عبر فرض شروط مجحفة ومدسوسة ضمن العقود.
ويلفت عقل إلى ثلاث آليات رئيسية تعتمدها المصارف لفرض هيمنتها، أولاها إخضاع المودعين لاستنسابيتها في التعامل مع طلباتهم، فإمّا أن تنفّذ ما يطلبون أو لا تفعل»، وثانيتها منع المودعين من تحويل أموال إلى مصرف آخر، خصوصاً إلى خارج لبنان بما يقطع الطريق على أي محاولة لتحرير الوديعة ولا سيما أن غالبية الودائع كانت تُحرّر إلى مصارف خارجية وبالعملة الصعبة». أما الثالثة، فهي «حرمان المودعين من حق اللجوء إلى القضاء عبر إدراج بنود صريحة تمنعهم من ملاحقة المصرف قانوناً، وبالتالي تقطع آخر خيط أمل لتحصيل الحقوق، علماً أن دعاوى قانونية كثيرة استندت إلى قوانين النقد والتسليف والتجارة والعقود غالباً ما انتهت لصالح المودعين»، بحسب عقل.

أما الأخطر، فهو «تمادي المصارف في هذا السلوك التعسّفي حتى تجاه الحسابات الفريش»، إذ بدأت بعض البنوك – مثل Société Générale – إدراج بنود تمنع العميل من المطالبة بوديعته في حال حدوث «أزمة» أو صدور «تشريع جديد». وهو قيد فضفاض وخطير، لأنه يفتح الباب أمام المصرف لتحديد ما يُعتبر «أزمة» وفقاً لتقديره الخاص، ما يعني أن لا ضمان لأي حق حتى في الحسابات التي يُفترض أنها خارج نطاق الأزمة المصرفية.

وينبّه عقل المودعين إلى ضرورة توخّي الحذر وقراءة العقود بدقّة قبل التوقيع عليها، لما تتضمّنه من فِخاخ قانونية قد تكلّفهم ودائعهم. لكنه، في المقابل، لا يغلق الباب أمام من وقّعوا فعلاً على هذه العقود، مشيراً إلى إمكانية الخروج من هذا الفخ بالاستناد إلى قانون حماية المستهلك، الذي يوفّر للمودع مخرجاً قانونياً، إذ ينصّ على عدم جواز إلزام أي شخص بعقد أو مستند لم يتسنّ له الاطّلاع عليه بشكل كامل.

بمعنى آخر، حتى بعد التوقيع، يمكن للمودع الطعن في صحة العقد إذا ثبت أنه وقّعه تحت ضغط أو من دون علم مُسبق بكامل مضمونه، ما يتيح له المطالبة بإبطاله جزئياً أو كلياً أمام القضاء.

تابعوا آخر الأخبار من icon news على WhatsApp تابعوا آخر الأخبار من icon news على Telegram

نسخ الرابط :

(يلفت موقع “iconnews ” انه غير مسؤول عن النص ومضمونه، وهو لا يعبّر إلا عن وجهة نظر كاتبه أو مصدره)

:شارك المقال على وسائل التواصل الإجتماعي

 

Telegram