تُبنى التسويات العادلة في السياسة الدولية على التبادلية، لا على الشروط الأحادية.
لكن ما تفعله الولايات المتحدة في لبنان يُظهر أن هذه القاعدة لا تطبق عندما يكون الطرف الآخر ضعيفًا. ما يحدث اليوم مع المبعوث الأميركي توم براك ليس مفاوضات، بل تجسيد عملي لنموذج خطير: ما يمكن تسميته بـ”نظرية الخضوع القسري بلا عائد”.
نظرية كهذه، قد تكون مستحدثة وذات مصاديق لا تحصر في سياسة الولايات المتحدة: أجبر طرفًا ضعيفًا على تغيير جوهري في موازين القوى، مثل نزع سلاحه، من دون أن تُقدّم له القوّة المهيمنة الأميركية أي عائد مادي وأمني أو حتّى رمزي.
الهدف ليس تحقيق تسوية، بل فرض التفوق وترسيخ التبعية وإضعاف الطرف الآخر ومنعه من تحقيق أي توازن محتمل.
هذا ما تطلبه واشنطن من لبنان: أن تنزع الدولة اللبنانية سلاح المقاومة، كشرط مسبق لأي دعم اقتصادي، ومن دون أي ضمانات أنها ستلتزم بذلك، عدا عن إنهاء الانتهاكات “الإسرائيلية”، والانسحاب من الأراضي المحتلة، وحتّى وقف إطلاق نار بشكل دائم.
تصرّ الإدارة الأميركية أنها لا تستطيع فرض شيء على “إسرائيل”، ما يعني أن حرية العمل العسكري “الإسرائيلي” في لبنان ستبقى مفتوحة، وفقًا لمصلحة “تل أبيب” وحدها، وما تقرره هي وترغب فيه بلا رادع. بعبارات أخرى: “نُريدك أن تُضعف نفسك، لكننا لا نضمن أن المعتدي سيُقلّل من عدوانه”.
الأمر لا ينحصر في غياب “الإرادة” لدى أميركا و”إسرائيل”، بل في وجود خيار إستراتيجي واضح، وهما تفضلان الحفاظ على حالة “التوازن المكسور”. وهي حالة يُسمح فيها لـ”إسرائيل” بالتحرك عسكريًا بحرية، بينما يُطلب من لبنان الالتزام بشروط لا تنطبق على القوّة المهيمنة.
هذه المقاربة تدار بـ”ذكاء” عبر أداتين تستخدمان معًا:
– التهديد من الخارج، إذ عبّر براك وحذر من خطر وجودي جديد: سورية بعد سقوط نظام الرئيس السابق بشار الأسد، التي قد تطالب بمصالح إستراتيجية في لبنان، وربما أيضًا بإعادته إليها. والشرط الوحيد لتفادي هذا المصير هو نزع سلاح حزب الله.
– الترهيب من الداخل، إذ إن أطرافًا لبنانية موالية لأميركا تُطلق تهديدات غير مباشرة: إذا لم يُنزع السلاح، فقد تُقدم، أو قطعًا ستُقدم، “إسرائيل” على شن حرب جديدة ضدّ لبنان.
في المقابل، يسرب براك نفسه أن لا نية حالية للحرب، فيُبقي لبنان في حالة تردّد وخشية وربما “هلع”، من المستوى السياسي، وصولًا إلى عموم الجمهور اللبناني وبيئة حزب الله تحديدًا: خوف من الحرب، وخوف من العزلة، وخوف من المستقبل.
وهذا التناقض ليس عبثًا، بل إستراتيجية متعمدة، وتتمثل في الحفاظ على حالة الذعر العام لدفع الدولة الضعيفة إلى القبول بما لا يُقبل، ليس لأنها مقتنعة، بل لأنها منهكة ومتردّدة وخائفة.
هكذا نموذج في المقاربة فاشل لا محالة، لأنه مبنيّ على الاستسلام المسبق. والدول والكيانات، لا تُضعف نفسها طواعية، ما لم تكن متأكدة من أن الطرف الآخر، سيقدم ما يوازن هذا التنازل.
وربما لا يوجد في جعبة الآخرين ما يوازي “نزع السلاح”.
في غياب هذا التوازن، لا يتصورنّ أحد أن يُضعف حزب الله نفسه وينزع سلاحه، بل ستتعزز لديه أهمية هذا السلاح، كضمانة وحيدة أمام عدوان محتمل لا يُحاسب عليه أحد، سواء كان عدوانًا إسرائيليًا من الجنوب، أو عدوانًا من سورية الجديدة من الشمال.
السياسة الأميركية تعمل على تحميل لبنان عبء المعادلة التي تريد أن تفرضها عليه، بينما تبقي على شريكها الإقليمي حرًّا في تحديد قواعد اللعبة.
وهذه ليست وساطة، بل هي استمرار لسياسة الهيمنة عبر الشروط الأحادية. ونظرية “الخضوع القسري بلا عائد”، كما أسميناها سابقًا، تفسر لماذا يجب على لبنان رفض هذه المبادرات: هي لا تقدم تسويات، بل تقدم تبعية مطلقة ورضوخًا. وتبقي لبنان مطالبًا بأن يقدم كلّ ما لديه، على أن لا يحصل في المقابل على شيء.