في أبريل الماضي، غادر المستثمر الأميركي في قطاع الغاز الطبيعي جوناثان باس ميناء فورشون في لويزيانا، متوجهاً إلى سوريا. لم تكن وجهته محطة غاز أو منصة نفط بل قصر الشعب في دمشق.
في استقباله كان الرئيس السوري أحمد الشرع الذي لم يألف بعد منزله الجديد، ولا يزال يسعى إلى لفت انتباه دونالد ترمب، الذي كان بدوره يكنس آثار سلفه في البيت الأبيض، ويزين مكتبه بالتحف الذهبية.
قبل وصول باس، زار وفد من إدارة جو بايدن دمشق في أواخر ديسمبر (كانون الأول) 2024 لاختبار القيادة الجديدة، وعندما بدأت إدارة ترمب عملها في يناير (كانون الثاني) الماضي نظرت هي الأخرى بتوجس إلى الساكن الجديد لقصر الشعب. وفي حين ترددت واشنطن تجاه فتح قناة تواصل رسمية مباشرة، كان السيد باس يحاول استكشاف دوره ضمن معادلة سوريا الجديدة.
التقى باس الشرع مرتين، خلال أبريل (نيسان) ومايو (أيار) الماضيين، وخرج للإعلام قائلاً إن الرئيس السوري مستعد للانفتاح على واشنطن ويحلم ببناء "برج ترمب" في دمشق. وعرض رجل الأعمال الأميركي من جانبه على الحكومة السورية خطة لتطوير قطاع الطاقة، وبدأ يضغط على إدارة ترمب لدعم القيادة الجديدة.
وفي حوار مع "اندبندنت عربية"، كشف باس عن رسالة بعث بها الشرع إلى الحكومة الإسرائيلية من خلاله، وفي مضمونها رغبة في التهدئة لا التصعيد، والتفاوض لا القتال، لكن مهمته غير الرسمية أثارت حفيظة الإسرائيليين وبعض المسؤولين الأميركيين.
جوناثان باس: عندما كنت أتفاوض مع الإسرائيليين، قلت لهم ’ماذا تفعلون بحق الجحيم، لقد سلمكم الشرع قائمة من 10 نقاط، فلماذا تهاجمونه؟‘. ضحك الإسرائيليون وقالوا ’بلغه أننا قادرون على الوصول إليه أينما كان‘
ولا يخفي رجل الأعمال الأميركي امتعاضه من فرنسا التي كانت أول دولة غربية تستقبل الشرع. يقول إن الرئيس إيمانويل ماكرون يريد أن تكون فرنسا "الحرس الثوري الجديد وروسيا الجديدة، والصين الجديدة في دمشق"، محذراً، "ماكرون أراد كل شيء، أراد الطاقة وأراد النفوذ، لكن الفرنسيين لا يملكون الشرعية ليملوا على الشرع ما يجب فعله".
أجواء اللقاء مع الرئيس السوري
زار رجل الأعمال الأميركي سوريا ثلاث مرات منذ صعود الشرع، آخرها هذا الأسبوع. ويقول إن الحكومة الجديدة تفتقر الخبرة، لكنها تمتلك نية الإصلاح.
ويستعيد تفاصيل لقائه الرئيس السوري ضمن حلقة جديدة من برنامج "حوارات أميركية"، قائلاً "وجودي في سوريا كان صدفة بحتة. قلت له ’سيادة الرئيس، لا أصدق أنني جالس أمامك في قصر الأسد‘، فرد علي ’بصراحة، وأنا أيضاً لا أصدق‘. لم يكن أي منا يتوقع أن نلتقي وجهاً لوجه. لم أكن أسعى إلى شيء فقد ذهبت كممثل لمنظمة إنسانية أميركية، ولم أكن أتوقع شيئاً إطلاقاً".
لكن زيارة باس تزامنت مع اقتراحه خطة من خمس مراحل لإعادة بناء قطاع النفط والغاز، تتضمن إطلاق شركة أميركية - سورية بمشاركة شركات كبرى، وتأسيس كيان قانوني مدرج في البورصة الأميركية، يسهم فيه صندوق سوري سيادي للطاقة بنسبة 30 في المئة.
وعن انطباعه بعد لقاء الشرع، قال باس إنه يأمل في أن يمتلك الرئيس السوري القوة اللازمة لمواصلة مهمته، لافتاً "ما شعرت به في قلبي وما رأيته في عينيه ولمسته بعد مصافحته، أنه رجل يؤمن بمسؤولية تجاه كل السوريين، يهود ومسيحيين ودروز وسنة وشيعة وعلويين".
وأضاف "عندما تجولت في دمشق، دخلت المتاجر برفقة يهود يرتدون ’الكيباه‘، ولم أجد صورة واحدة للشرع. قلت له ’سيدي، لا توجد صورتك في الفندق ولا في المحال، لم أكن حتى أعلم شكلك‘ فرد قائلاً ’نحن لم نستبدل ديكتاتوراً آخر بديكتاتور‘".
ويصف باس شخصية الشرع قائلاً إنه "الرجل المناسب، لأنه قادم من ماضٍ رأى فيه الكراهية بعينيه، حمل البندقية وكان في الجهة المقابلة لها. وأعتقد أنه في أعماق قلبه أدرك أن حامل البندقية مثل الملاكم الذي يخوض 12 جولة في الحلبة، أما المفاوض فيعيش ليرى اليوم التالي بعد 12 جولة. الشرع أدرك أن مستقبل شعبه سيبنى بالتفاوض لا القتال".
وتواجه الإدارة السورية اليوم تحدياً في احتواء الأقليات، مثل الدروز الذين يشتكون من تهميشهم في السلطة ويخشون تبعات إلقاء السلاح، وهي مخاوف طفت إلى السطح بعد صعود القيادة الجديدة وتجلت هذا الأسبوع ضمن الاشتباكات المسلحة داخل السويداء، بين فصائل درزية وقوات الجيش السوري مما يهدد مستقبل سوريا ووحدتها، خصوصاً بعد التدخل الإسرائيلي بقصف أهداف حكومية في دمشق رداً على العمليات في السويداء.
رسالة سورية إلى إسرائيل
كشف باس أن الرئيس السوري طلب منه فتح قناة تواصل غير مباشرة بين سوريا وإسرائيل، وقال "سلمني الشرع قائمة من 10 بنود وطلب مني نقلها إلى الإسرائيليين. خرجت من القصر وذهبت فوراً للقاء المفاوضين الدروز لأفهم موقفهم، ومن ثم سافرت إلى إسطنبول، وأجلسني الشرع إلى جانب وزير الطاقة السوري لأفهم منه الوضع".
وأعرب رجل الأعمال الأميركي عن استيائه البالغ من الموقف الإسرائيلي، قائلاً "عندما وصلت إلى إسطنبول تواصلت مع الإسرائيليين حاملاً رسالة الشرع، لكنهم لم يُبدوا أية رغبة في سماعها ولم يكونوا سعداء بتواصلي". وكشف عن أن النقاط الـ10 تضمنت العودة لاتفاق فض الاشتباك لعام 1974 ووقف الهجمات الإسرائيلية على سوريا، وإقامة منطقة منزوعة السلاح داخل قطاع غزة.
وأوضح باس أنه أوصل الرسالة السورية إلى المسؤول المعني في وزارة الخارجية الإسرائيلية، قائلاً "قلت للإسرائيليين ’إذا لم ترغبوا في الإصغاء لها، فسأتوجه إلى الإعلام‘. هناك من لم يعجبه ذلك بمن فيهم بعض الأميركيين، لكنني كنت أعلم أن الرئيس ترمب، رئيسي، سيقرأ ما يُنشر في الصحافة".
وأضاف "الشرع قام بخطوة كبيرة هذا الأسبوع عندما عرض منح الجنسية للفلسطينيين، جنسية فعلية لا بصفة لاجئ، وبذلك أخرج حركة السلطة الفلسطينية من المعادلة"، وهي خطوة وصفها بـ"الذكية والكبيرة"، فيما يبدو في سياق الإغراءات المقدمة لإسرائيل ضمن المفاوضات الجارية.
ولفت رجل الأعمال الأميركي إلى أنه فوجئ بالضربة الإسرائيلية على محيط القصر الرئاسي داخل دمشق خلال مايو الماضي، قائلاً "عندما كنت أتفاوض مع الإسرائيليين، قلت لهم ’ماذا تفعلون بحق الجحيم، لقد سلمكم الشرع قائمة من 10 نقاط، فلماذا تهاجمونه؟‘. ضحك الإسرائيليون وقالوا ’بلغه أننا قادرون على الوصول إليه أينما كان‘.
وأضاف "قلت لهم هذه ليست الطريقة التي نبدأ بها المفاوضات. الجميع يمكن أن يستهدف في أي مكان، مثلما فجر شاب نفسه وسط 25 مسيحياً لإيقاف مسار التقدم في سوريا. أي شخص يستطيع أن يحبط (مسار التقدم)، لكن هذا ليس دليلاً على انتصار أي طرف".
ووصف باس الوضع في سوريا خلال تلك الفترة بأنه كان على حافة الانفجار، وقال "ما رأيته داخل الشارع عندما كنت في سوريا أننا كنا على بعد أسبوعين إلى أربعة من حمام دم كبير. كانت هناك مناوشات بين الأتراك والإسرائيليين، وكان كل شيء يتجه نحو حرب أهلية، كما قال ماركو روبيو في جلسة استماع بمجلس الشيوخ".
كواليس اللقاء بين ترمب والشرع
قبل اجتماعهما خلال الـ14 من مايو الماضي لم يكن هناك شيء يربط ترمب والشرع غير مقترح طرحه الأخير ببناء برج ترمب في سوريا، وكشف عنه للمرة الأولى السيد باس عبر "رويترز". ويقول رجل الأعمال إن الرسالة من "برج ترمب" لم تكن متمحورة حول مبنى يستقطب الأثرياء، بل أراد الرئيس السوري مكاناً يحوي مساكن ومكاتب ومساحات تجارية.
ما الذي جرى خلف الكواليس لتتغير السياسة الخارجية الأميركية بهذه السرعة، ويقرر ترمب لقاء الشرع؟
يجيب "ما يمكنني قوله أن هناك شخصين جعلا اللقاء بين ترمب والشرع ممكناً وهما الأميرة ريما بنت بندر (السفيرة السعودية لدى الولايات المتحدة)، وتوم باراك (المبعوث الأميركي إلى سوريا)... أنا أصف توم باراك بالخزاف، لأنه رجل يأخذ كتلة طين ويحولها إلى مزهرية جميلة".
أفضت أول قمة بين رئيس أميركي ونظيره السوري منذ ربع قرن إلى خمسة مطالب قدمتها الإدارة الأميركية لحكومة الشرع، تمحورت حول إقامة علاقات مع إسرائيل ومكافحة الإرهاب والإشراف الكامل على السجون التي يقبع فيها مقاتلو تنظيم "داعش".
وعن أهمية قرار رفع العقوبات عن سوريا الذي أعلنه ترمب بعد طلب من ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان، قال باس "من الظلم استهداف الشعب السوري بالعقوبات، الشعب السوري ذكي ومثقف ومجتهد ويحب وطنه، ويريد أن يصنع فارقاً. لا يريدون القتال وأن تنتهي جثث أبنائهم في أكياس، لقد عاشوا 40 سنة من أكياس الجثت، عاشوا 40 سنة وهم لا يستطيعون التحدث مع جيرانهم أو إخوتهم أو آبائهم أو أمهاتهم، ولا يريدون هذا المستقبل لأبنائهم".
ويعتقد باس أن روسيا حاولت تقويض الجهود الأميركية لاحتضان سوريا الجديدة، عبر توجيه الانتباه نحو أوكرانيا وإثارة إمكانية عقد قمة بين بوتين وترمب في تركيا، وقال "شعوري وقتها أن بوتين كان يحاول تقويض التحرك الأميركي الهادف إلى إخراج الشرع من الظلام، وأن الطريقة الوحيدة التي رأى أنها ستنجح كانت بخطف الأضواء عن اللقاء".
الشرع مد غصون الزيتون لإسرائيل
يوم الأربعاء الـ16 من يوليو (تموز) الجاري وبعد الاشتباكات بين قوات الجيش السوري وفصائل درزية في السويداء، شنت إسرائيل غارة جوية استهدفت مقر وزارة الدفاع السورية وطالت الضربات محيط القصر الرئاسي في دمشق. وهذه هي المرة الثانية منذ مايو الماضي التي تقترب فيها نيران إسرائيلية من مقار القيادة العليا في سوريا.
هل ما زال الإسرائيليون يحاولون اغتيال أحمد الشرع؟
يرد باس "لا، أظن أن الإسرائيليين أدركوا أن الشرع يحظى بدعم الرئيس ترمب والغرب ويمتلك الدعم اللازم ليمضي قدماً ببلده"، موضحاً أن الشرع كان ذكياً باختيار أميركا وشركائها في الخليج، وقال "الجلوس على السور لا يجلب لك إلا الألم ولا يقود إلى نتيجة، لا يمكنك البقاء على الحياد، عليك أن تختار، إيران؟ الصين؟ روسيا؟ أم أميركا والغرب؟".
وعن المفاوضات التي جرت هذا الأسبوع في باكو بين مسؤولين سوريين وإسرائيليين والتي كشفت عنها وكالة الأنباء الفرنسية، يعلق باس "آمل أن تؤدي إلى اتفاق. الشرع مد غصن الزيتون، مده للإسرائيليين من خلالي، ونأمل في أن يؤخذ هذا الأمر على محمل الجد. هذه ليست مكافأة سياسية لولاء الدروز تجاه إسرائيل، بل مكسب سياسي للمنطقة بأكملها".
وأضاف "الرئيس السوري دخل هذه المفاوضات بنية التوصل إلى اتفاق، وآمل أن يدخلها الإسرائيليون بالنية نفسها، وأعرف أن الأميركيين منخرطون بجدية لإصلاح هذا الوضع، وإيقاف القتل ونزف الدم داخل الشرق الأوسط".
مضايقات من مسؤولين أميركيين
تتقاطع الأدوار التي يلعبها باس بين السياسي والتجاري مما يثير الغموض والأسئلة حولها، ويعترف بتعرضه لمضايقات من مسؤولين في إدارة ترمب بسبب علاقته بالحكومة السورية وزياراته المتكررة إلى تركيا، وقال "تعرضت لتهديدات كثيرة من أشخاص نقلوا إلى الأمم المتحدة... لا أستطيع تسميتهم. لكن ما يمكنني قوله أن التعرض لنيران صديقة كان محبطاً".
ويعود رجل الأعمال الأميركي إلى اختصاصه، قائلاً "الأمر متروك لنا جميعاً للمضي قدماً، وعلينا أن نتوقف عن سؤال ’ماذا ستقدم لنا سوريا‘. في الأسبوع الماضي فحسب تحدثت مع أكثر من 130 شركة أميركية، وكان سؤال هذه الشركات الأميركية هو ’من سيدفع؟‘ وأنا أقول لهم ’المسألة ليست من سيدفع المال، بل من سيستثمر في الشعب السوري، ومستقبل سوريا‘. علينا أن ندرك أن مستقبل هذه المنطقة مرهون بمستقبل شعوبها، والطريقة الوحيدة للتغيير هي عبر الاستثمار في الوظائف والفرص".
تابعوا آخر الأخبار من icon news على WhatsApp تابعوا آخر الأخبار من icon news على Telegramنسخ الرابط :