لم تتوقّف محاولات النائب فؤاد مخزومي للهيمنة على بلدية بيروت وتحويلها إلى أداة سياسية طيّعة بين يديه، خصوصاً مع اقتراب الانتخابات النيابية. وبات موجودا في مركز قرار البلديّة كـ«الآمر الناهي»، زارعا مستشاريه وعيونه في إدارات المجلس لمراقبة كل شاردة وواردة، في محاولة لتثبيت موقعه كلاعب أول في القرار المحلّي للعاصمة.
بعد رفض المجلس البلدي، قبل نحو شهر، هبة غير مشروطة تقدّمت بها «مؤسسة مخزومي» من دون تحديد موضوعها، عاد النائب البيروتي ليحاول الالتفاف على القرار. وأختار هذه المرّة، الدخول من «الشبّاك» عبر تقديم أجهزة ومعدّات مكتبية لفوج الحرس البلدي في الكرنتينا، في خطوةٍ رأى فيها الأعضاء محاولة جديدة لفرض الهبة نفسها كأمر واقع، ومن خارج الأطر الإدارية والرسمية، وحتى من دون إبلاغهم مسبقاً أو حتّى ابلاغهم بالامر.
وقد أشار عدد من الأعضاء إلى أنّ هذه الأجهزة «لا ترقى إلى مستوى الهبة» بالنظر إلى قيمتها المالية الضئيلة، معتبرين أنّ ما جرى لا يُبرّر «كل هذه الطنّة والرنّة»، ولا سيّما أنّ هبة مماثلة قدّمتها جمعية تُدعى «جمعية ابن إنسان» شملت سبع سيارات لفوج الإطفاء في اليوم نفسه، مرّت من دون إثارة ضجيج أو تغطية إعلامية.
المفارقة أنّ هذا «التبرّع» جاء قبل ساعات فقط من انعقاد الجلسة الرسمية للمجلس البلدي أمس، وعلى جدول أعمالها وضع البند الخاص بالهبة. ورأى بعض الأعضاء في التوقيت تجاوزاً صارخاً لصلاحيات المجلس وللشخصية القانونية المستقلّة للبلدية، إذ لم ينتظر النائب انعقاد الجلسة ولا تصويت الأعضاء على قبول الهبة، بل أقدم على تقديمها بشكل أحادي، وسط مراسم تشريفات لافتة واستقبال رسمي وإعلامي واسع في مقر حرس البلدية في الكرنتينا.
ولم يتوقّف الأمر عند هذا الحدّ، إذ استغلّ مخزومي قاعة البلدية قبل ساعات من انعقاد الجلسة لعقد مؤتمر صحافي مطوّل، بدا فيه كأنه يستعرض أوراق ترشيحه المبكر للانتخابات المقبلة تحت عنوان «الزعامة البيروتية». قدّم نفسه كصاحب رؤية إنمائية بديلة، متحدّثاً عن مشاريع نفّذتها مؤسّسته في السنوات الماضية، ومعلناً عن أخرى جديدة قال إنها ستُنفّذ «بالتعاون مع بلدية بيروت»، من دون أن يشير إلى مناقشتها أو حصوله على موافقة المجلس.
ومن بين المشاريع التي أعلن عنها: تأهيل إشارات المرور، وتحسين شبكات الصرف الصحي، وتطوير الطرقات. هي مشاريع بدت كأنها قيد التنفيذ، بينما الواقع أنّ المجلس لم يُبلّغ بها رسمياً ولا نوقشت على طاولته. واعتبر مراقبون أنّ هذه التحركات لا تعدو كونها محاولة لترويض المجلس عبر تقديم «رشاوى معنوية»، في وقت كانت جمعيات أخرى، مثل «جمعية إرادة»، قد نفّذت مشاريع مماثلة في بيروت وخارجها من دون تغطية إعلامية أو استثمار سياسي.
وفي ختام مؤتمره، وجّه مخزومي رسائل سياسية مبطّنة إلى تيار «المستقبل»، داعياً أعضاء المجلس إلى اعتبار ولايتهم «فرصة لكتابة صفحة جديدة من العمل البلدي المنتج والشفّاف، بعيداً عن وعود الماضي التي لم تُنفّذ»، في إشارة واضحة إلى تحميل خصومه السياسيين مسؤولية تراجع أوضاع العاصمة.
غضب الأعضاء من التجاوز
خطوة مخزومي لم تمرّ من دون اعتراض واسع داخل المجلس، الذي عقد جلسته الثانية منذ انتخابه، واستمرت أكثر من أربع ساعات. وعبّر أعضاء عن استنكارهم الشديد لما حصل، معتبرين أنّ «ما أقدم عليه النائب، بالتواطؤ مع بعض المسؤولين، لا يجوز أن يتكرّر خارج الأطر القانونية». وأكّدوا أنهم لا يعارضون الهبة كمبدأ، بل طريقة تقديمها التي وصفوها بـ«المستفزّة»، مؤكّدين أنّ «الهبة كان يمكن أن تمرّ بهدوء ومن دون اعتراض، لو تمّ اعتماد المسار الإداري الصحيح».
وبحسب مشاركين، فقد حاول رئيس البلدية إبراهيم زيدان الدفاع عن الخطوة باعتبارها مبادرة دعم لفوج الحرس، قبل أن يعود ويقرّ بأحقّية ملاحظات الأعضاء، خصوصاً أنّ الغالبية منهم وعلى اختلاف انتماءاتهم الحزبية، عبّروا عن استيائهم الشديد ممّا حصل.
اعتراض على الصفقات وشتائم!
لكنّ هذا البند لم يكن الوحيد الذي أثار الجدل ضمن جدول الأعمال المؤلّف من 39 بنداً، إذ انقسم الأعضاء حول عدد من البنود المالية، خاصة تلك المتعلّقة بالموافقة على سلف خزينة مخصّصة لرشّ المبيدات، وأدوية للقوارض، وأعمال النكش والتعشيب والتشحيل للأشجار في العاصمة. واعترض البعض على الأسعار المقدّمة، مطالبين بالتدقيق فيها بسبب ارتفاعها اللافت. واعتبروا أنّها صبّت في النهاية لصالح المتعهّد خليل زيدان، وهم يعتقدون بأنّه سيلتزمها من الباطن.
الجلسة التي شابتها الكثير من التوترات، كشفت حجم الفساد المتجذّر داخل مفاصل البلدية، رغم محاولات عدد من الأعضاء التمسّك بالشفافية (على رأسهم عماد فقيه وسعيد حديفة ومحمد بالوظة) وهؤلاء رفضوا تمرير الصفقات «كما كان يحصل سابقاً»، وأصرّوا على خضوعها لتدقيق شفاف يحول دون هدر المال العام.
الأعضاء المسيحيون طالبوا باعتماد المناصفة في توزيع الخدمات البلدية بدلاً من الثلثين بثلث
وعلمت «الأخبار» أنّ إشكالاً وقع قبيل الجلسة بين العضو سعيد حديفة وبعض الموظفين، بعدما أصرّ على الاطّلاع على تفاصيل العروض المقدّمة من زيدان. إلا أنّ الموظفين تمنّعوا وطلبوا منه التواصل مباشرة مع المتعهّد، ما أدّى إلى تلاسن وتدافع وتبادل للشتائم، قبل أن يتدخّل المعنيّون لفضّ الإشكال. وقد روى حديفة ما حصل لزملائه في الجلسة، مؤكّداً ضرورة إخضاع العروض للتدقيق قبل التصويت عليها.
وفي ما خصّ بند الموافقة على العرض المقدّم من شركة «بترولاين»، وافق الأعضاء عليه بشرط أن تكون «الموافقة الأخيرة» قبل استدراج عروض جديدة من شركات متخصّصة، وفحص المواد بدقّة، ولا سيّما أنّ رفض العرض قد يؤدّي إلى إطفاء إنارة عدد من أنفاق العاصمة.
خلاف على المبيدات: بين العجلة والتدقيق
وانقسم الأعضاء حول عروض رشّ المبيدات وأدوية مكافحة الجرذان، إذ رأى البعض، ومنهم بالوظة، أنّ هذا الملف لا يحتمل التأجيل، في ظلّ اجتياح الجرذان بعض الأحياء. واعتبروا أنّ تأجيله لن يؤدّي إلى عروض أفضل، خاصة في ظلّ ضعف خبرة البلدية في تقدير نوعية الأدوية والكمّية المطلوبة.
في المقابل، أصرّ أعضاء آخرون، من بينهم فقيه وحديفة، على منح مهلة عشرة أيام للتدقيق في العروض، نظراً لارتفاع أسعارها. ولفتوا إلى أنّ نوعية المبيدات أهم من السعر، مشيرين إلى حوادث سابقة أدّت إلى وفيات بسبب مواد سامة، ومؤكّدين أنّ عدم التأكّد من خلوّ الأدوية من مواد مسرطنة قد يعرّض السكان إلى مخاطر صحية جسيمة.
وشدّد الأعضاء المعترضون على ضرورة التعامل مع شركات متخصّصة ومعروفة في السوق، والتأكّد من صحة بياناتها وسجلّاتها التجارية، بعدما اشتبهوا بأنّ بعض الشركات المقدمة للعروض ليست سوى شركات هندسية ومقاولات تفتقر إلى أي خبرة في هذا المجال، وتلجأ إلى تقديم عروض فقط لتُرسى عليها المناقصات.
وقد اقتنع المجلس بوجهة النظر هذه، وجرى تأجيل البتّ بهذه البنود إلى الجلسة المقبلة التي ستُعقد بعد عودة رئيس البلدية من السفر، لإعطاء الوقت الكافي للتدقيق في الشركات والعروض.
التوتّر الطائفي يُعيد الانقسام إلى الواجهة
الشرخ الطائفي داخل المجلس لم يَغِب عن الجلسة، إذ برز خلاف بعد مطالبة الأعضاء المسيحيين، وقبل انعقاد الجلسة، باعتماد المناصفة في توزيع الخدمات البلدية. هذا الطرح ولّد أجواء توتّر داخلي، وأوحى بأنّ «التجانس» الذي ساد في الانتخابات بدأ يتآكل.
فقد اشتكى الأعضاء المسيحيون، على اختلاف انتماءاتهم، من العرف القائم الذي يقضي بمنح ثلثي الخدمات لبيروت الثانية، وثلث فقط لبيروت الأولى، معتبرين أنه يشكّل «ظلماً ممنهجاً». في المقابل، رفض الأعضاء المسلمون أي تعديل لهذا العرف، مبرّرين ذلك بالكثافة السكانية العالية في بيروت الثانية، وبأنها تحتاج خدمات أكثر.
الخلاف نفسه تكرّر في لجنة «القيم التأجيرية»، إذ أصرّ المسيحيون على تولّي الاحياء ذات الغالبية المسيحية، والمشاركة أيضاً في إدارة الاحياء ذات الغالبية المسلمة. وهو ما قوبل باعتراض من الطرف الآخر، وانتهى بإبقاء التوزيع وفق الصيغة المعتمدة سابقاً.
ورغم التوتّرات، أقرّ المجلس بند الأخطار الذي يعدّ إنجازاً لإتاحته رفع رواتب عناصر الحرس والإطفاء. كما أُقرّ قرار بتغيير اسم شارع الاستقلال إلى «شارع الدكتور سليم الحص»، تكريماً لرئيس الحكومة الأسبق.
نسخ الرابط :