صناعة الجهل، صناعة الهزيمة

صناعة الجهل، صناعة الهزيمة

 

Telegram

 

عمد الاحتلال الإسرائيلي منذ تأسيسه على استهداف المؤسسات التعليمية والثقافية الفلسطينية، أسوة بسياسة الانتداب البريطاني القائمة على التجهيل، بخلاف سياسة الفرنسيين التي عمدت إلى فرنسة المجتمعات المحتلة كما جرى مع المغرب العربي؛ إذ يعلم الاحتلال جيداً أهمية المعرفة على أبناء شعبنا الذي يسعى إلى التحرّر من براثن الاحتلال، ولم يبدأ الأمر عند اعتقال الطلبة إبان الانتفاضة الأولى أو منع إدخال الكتب قبل ذلك أو حتى  تدمير المدارس لاحقًا، فالأمر يمرّ عبر خطط استراتيجية ممنهجة نحو تعطيل العقل الفلسطيني وإشغاله بسفاسف الأمور والقضايا الفرعية ثم التحكّم بطبيعة الموظفين والمناهج التعليمية والأنشطة اللامنهجية أو المنهجية اللاصفية.
ورغم أنّ الفلسطيني كان ولا يزال ساعياً نحو تجاوز تلك المعضلات العظيمة من خلال تحويل السجون إلى مراكز تعليم مثلاً؛ وإنشاء مدارس وفصول دراسية بين الركام؛ وبين خيام النازحين، وصولاً إلى الدراسة عند بعد، وإتمام رسائل الماجستير والدكتوراة عبر الزووم داخل البيوت المدمّرة أو الخيام الملتهبة؛ فالحرب بيننا وبين الاحتلال مستمرة في مواجهة التجهيل بالتعليم، وتجاوز تعطيل الأولويات بإعادة توجيه البوصلة نحو المعرفة، لأنّ نجاح الاحتلال في تجهيل الأمة سيقود نحو صناعة مجتمعات عاجزة عن اتخاذ أيّ قرار أو الدفاع عن حقوقها أمام غول الاستيطان والتهويد، ثمّ القبول بالظلم كأمر طبيعي يعني تفشّي الاستسلام والخنوع وغياب المشروع الجماعي.
وذلك وصولاً إلى إنتاج جيل لا يعرف تاريخه ولا يؤمن بمستقبله، ولذلك عمد الاحتلال في الحروب السابقة إلى استهداف المكتبة الوطنية في مدينة غزة ثمّ المراكز الثقافية كالمسحال والمعالم الأثرية الهامّة مثل بيت الغصين وكذلك الدينية مثل المسجد العمري. كما عمد خلال هذه الإبادة إلى استهداف الأكاديميين والجامعات، وركّز على المباني العلمية والمختبرات، حيث طالت الصواريخ رؤساء الجامعات والأكاديميين والمفكّرين والأدباء، في محاولة لقتل الكلمة وإغراق التاريخ بالأكاذيب من خلال الرواية الصهيونية (البروبوغندا) التي بات ينظر لها عرب وفلسطينيون من أبناء جلدتنا، ممن استمرأ الخيانة.
وصناعة الهزيمة لا تبدأ من ميدان المعركة بل من الوعي، وحين سئل فولتير عمن سيقود العالم، قال: “الذين يعرفون كيف يقرأون”، و”قارئ اليوم هو قائد الغد”، لذلك قام الاحتلال منذ عقود كما أسلف المقال في بثّ سموم داخل المجتمع الفلسطيني لأجل تحقيق مبدأ “فرّق تسد”، حتى داخل المناهج التعليمية التي صنعتها السلطة الفلسطينية، تحت إشراف الاتحاد الأوروبي والذي ضغط باتجاه أن تكون تلك المناهج متماهية مع متطلّبات المانحين الذين يرفضون فكرة الحديث عن فلسطين كدولة محتلة، أو الدعوة نحو الحرية وشرعنة المقاومة بأشكالها كافة، وعلى رأسها المقاومة المسلحة.
وقد أخبرني صديق عمل كوزير للتربية والتعليم مؤخّراً، كيف طلب منه الاتحاد الأوروبي تغيير بعض الفصول أو المواضيع داخل بعض المواد التعليمية، فرفض الوزير معلّلاً: لماذا لا يذهب الاتحاد الأوروبي للضغط على “دولة” الاحتلال أيضاً لتعديل وتغيير بعض المواد التي تدعو إلى قتل العرب أو انتهاك الحقّ الفلسطيني، فردّ رئيس البعثة الأوروبية آنذاك بصلافة: إنهم -ويقصد “إسرائيل”- لا يطلبون أيّ دعم مالي منا كي نطالبهم بأيّ شيء، بينما أنتم من يطلب ذلك، وعندما تقدرون على طباعة مناهجكم وتمويل مؤسساتكم التعليمية بأنفسكم، فإننا لن نطلب منكم شيئاً.
في الجانب الآخر، ما زلت أذكر كيف كان يقوم الاحتلال باعتقال طلبة الثانوية العامة ومحاصرة المدارس إبان الامتحانات النهائية ثم منعهم من السفر لمواصلة تعليمهم واعتقالهم مرة أخرى عبر المعابر إبان الانتفاضة الأولى. بينما يحاول ذلك الاحتلال الاستعماري والإحلالي اليوم إقناع الضحية أنه لا يستحقّ الانتصار، حيث تجد الفلسطيني بعد هذه السياسات يدين نفسه، ويحمّل أخيه المسؤولية عن الدم النازف، كترسيخ لفكرة أنّ الهزيمة جاءت بسبب المقاومة، وأنّ التحرّر من براثن الصهاينة أمر مستحيل.
بل وزيادة على ذلك يحاول الاحتلال إحلال نفسه بصورة أو بأخرى على أنه الصديق وتقديم نفسه كمنقذ وملاذ آمن، بطرق كثيرة، ليس آخرها إلقاء المناشير على المواطنين في المخيمات، تدعوهم للتعاون مع ضباط المخابرات من أجل القضاء على المقاومة أو معرفة أعضاء وحدة سهم التي تسعى لضبط الميدان، والمعضلة الأكبر أنّ بعض أدعياء الثقافة والنخب السياسية المرتزقة، التي كانت في سدّة الحكم يوماً، ولم تحقّق لفلسطين سوى الخيبات المتراكمة، تجدهم عبر أقلامهم يزايدون على مشروعية المقاومة المسلحة، وتنبري ألسنتهم بالهجوم السافر على فكرة التحرير في ظلّ تهالك رسمي وخذلان شعبي عربي، بينما لا تسمع لأحد منهم أيّ صوت عندما تبدع المقاومة في حرب العصابات ضدّ جنود الاحتلال.
لقد روّج الإعلام العربي مؤخّراً أنّ المقاومة عبث، وتجاهل الدم الذي لا يتوقّف، بينما كانت المؤسسات الإعلامية الفلسطينية والصحافيون والكتّاب تحت مرمى النيران، سعياً نحو إنتاج أمة مهزومة من الداخل، مواصلاً حرب الإبادة ضد المدارس، بالقصف أو الحرق، لأنّ الخطة المركزية والاستراتيجية لهذا الاحتلال تقوم على التجهيل كسلاح استراتيجي.
وإزاء ذلك مطلوب من الشارع الفلسطيني، في غزة تحديداً أن يعيد الاعتبار للمعرفة، من خلال تعزيز فكرة المقاومة، وإنشاء فصول دراسية داخل الخيام، وتنوير الجيل بقراءة التاريخ، والأخذ بيد الأطفال نحو النهضة رغم كلّ عوامل الإبادة الحاصلة.
تابعوا آخر الأخبار من icon news على WhatsApp تابعوا آخر الأخبار من icon news على Telegram

نسخ الرابط :

(يلفت موقع “iconnews ” انه غير مسؤول عن النص ومضمونه، وهو لا يعبّر إلا عن وجهة نظر كاتبه أو مصدره)

:شارك المقال على وسائل التواصل الإجتماعي

 

Telegram