وضع الأقليات الدينية في مناطق سيطرة هيئة تحرير الشام: دارسة قانونية وسياسية معمقة
وضع الأقليات الدينية في مناطق سيطرة هيئة تحرير الشام:
دارسة قانونية وسياسية معمقة
بقلم الدكتورة رشا ابو حيدر
تشكل الأقليات الدينية في سوريا، كالمسيحيين والعلويين والدروز والشيعة والأك ارد، جزءًا أساسيًا من النسيج الاجتماعي والتاريخي للبلاد، وتمثل هذه المكونات رهانات حيوية في أي عملية سياسية أو قانونية تهدف إلى إعادة الاستق ارر والتعايش. ومنذ اندلاع الن ازع السوري عام 2011، تعرضت هذه الأقليات لمخاطر متعددة نتيجة تفكك الدولة المركزية وظهور سلطات غير معترف بها دوليًا، مثل هيئة تحرير الشام )التي يقودها أحمد حسين الشرع، المعروف بأبو محمد الجولاني(، التي تسيطر على مناطق واسعة في شمال غرب سوريا، وتتبنى أيديولوجية سلفية جهادية تؤثر على ممارساتها تجاه هذه الأقليات.
تتناول هذه الد ارسة موضوع وضع الأقليات الدينية تحت سلطة هيئة تحرير الشام، مركزة على التحليل القانوني الدولي والمحلي لمسألة حقوق الإنسان وحقوق الأقليات، إضافة إلى التحليل السياسي للسياقات التي تحكم العلاقة بين الهيئة والأقليات الدينية، وسبل حماية حقوق هذه الفئات في ظل حالة الن ازع المسلح الداخلية المستمرة. وتحاول الد ارسة الإجابة على أسئلة مركزية، منها: مدى الت ازم الهيئة بمبادئ القانون الدولي لحقوق الإنسان والقانون الدولي الإنساني؟ هل تمارس الهيئة سياسات تمييزية أو اضطهادية تجاه الأقليات؟ وما هو الدور الذي يمكن أن يلعبه المجتمع الدولي في حماية هذه الفئات؟
الإطار النظري والقانوني لحماية الأقليات الدينية
تعتبر حماية الأقليات الدينية أحد المبادئ الجوهرية في القانون الدولي لحقوق الإنسان، وتؤكد عليها المواثيق الدولية المختلفة، التي تحرص على ضمان التمتع الكامل بحقوق الإنسان دون تمييز على أساس الدين أو العقيدة. ويكفل العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية، وخاصة في المادة 27 منه، حقوق الأقليات في التمتع بثقافتهم والدين والمعتقد، مع التأكيد على عدم حرمانهم من ممارسة شعائرهم الدينية بحرية. بالإضافة إلى ذلك، تعد اتفاقيات جنيف الأربع، خاصة المادة 3 المشتركة، جزءًا لا يتج أز من القانون الدولي الإنساني الذي يحكم الن ازعات المسلحة، ويوجب احت ارم حقوق المدنيين وحمايتهم من أي شكل من أشكال التمييز أو الإيذاء.
في سياق الن ازعات المسلحة الداخلية، تفرض على جميع أط ارف الن ازع، سواء كانت دولًا أو “سلطات أمر واقع” غير معترف بها دوليًا، الت ازمات بموجب القانون الدولي الإنساني لضمان حماية السكان المدنيين، بما في ذلك الأقليات الدينية. وتشكل هذه الالت ازمات أساسًا قانونيًا لمساءلة تلك الأط ارف عن أي انتهاكات محتملة، حتى وإن لم تكن سلطة شرعية أو دولة.
كما أن مفهوم “سلطة الأمر الواقع” يمثل حالة خاصة في القانون الدولي، حيث تتحمل الجهات التي تسيطر على أ ارضٍ ومسؤولية إدارية وقضائية عن السكان المحليين مسؤوليات قانونية مباشرة بموجب القانون الدولي، رغم غياب الاعت ارف الرسمي، وهو ما ينطبق على هيئة تحرير الشام في المناطق التي تسيطر عليها. الخلفية التاريخية والسياسية للأقليات الدينية في سوريا
تمثل الأقليات الدينية في سوريا أحد مكونات النسيج الاجتماعي المعقد والمتعدد الأبعاد، حيث تعيش طوائف مثل العلويين والمسيحيين والدروز والشيعة ضمن بيئة اجتماعية دينية متعددة تمتد جذورها عبر قرون. تاريخيًا، كانت هذه الأقليات تتمتع بدرجات متفاوتة من التعايش والتفاعل مع الغالبية السنية، رغم وجود توت ارت طائفية بين الحين والآخر. ومع قيام الدولة السورية الحديثة، ساد نموذج ديمق ارطي مركزي تهيمن عليه الأغلبية السنية، لكن مع ضمانات نسبية لبعض حقوق الأقليات، على الأقل في المستوى الرسمي.
مع اندلاع الن ازع السوري عام 2011، تحولت العلاقة بين هذه الأقليات والسلطات المركزية والمناطق المختلفة إلى حالة من التوتر الشديد، خصوصًا مع تصاعد الطابع الطائفي في الص ارع. فقد ت ارفقت السيطرة المتقطعة لفصائل جهادية سلفية مثل هيئة تحرير الشام مع مخاوف حقيقية لدى الأقليات من التمييز والاضطهاد ،ما دفع إلى نزوح أعداد كبيرة من هذه الطوائف، أو التعايش في ظل ضغوط اجتماعية وأمنية مت ازيدة.
تحليل وضع الأقليات في مناطق سيطرة هيئة تحرير الشام
تشير العديد من التقارير الحقوقية والميدانية إلى أن هيئة تحرير الشام تفرض نظام حكم يستند إلى تفسير ضيق وأحادي للشريعة الإسلامية وفق المنظور السلفي الجهادي. ويتجلى ذلك في السياسات التي تنتهجها تجاه الأقليات الدينية، والتي يمكن تلخيصها في عدة نقاط رئيسية:
1. التمييز والاضطهاد المباشر أو غير المباشر: حيث تتعرض طوائف مثل العلويين والشيعة والمسيحيين لمضايقات وقيود على ممارسة شعائرهم الدينية، بالإضافة إلى حالات توثيق لتهجير قسري واعتقالات تعسفية.
2. إقصاء سياسي واجتماعي: لا يُسمح للأقليات بالمشاركة الفاعلة في المؤسسات الإدارية أو العسكرية التابعة للهيئة، مما يعزز من حالة التهميش.
3. تقييد الحريات الدينية والثقافية: تشمل حظر أو تقييد الاحتفالات الدينية، وتحويل بعض الكنائس أو الأماكن الدينية إلى وظائف أخرى، أو منع تعليم المعتقدات الدينية الأخرى.
4. فرض إيديولوجيا موحدة: يُفرض على السكان المحليين تبني النمط السلفي الجهادي، الأمر الذي يحد من التنوع الديني والثقافي، ويعزز سيطرة الهيئة على المجتمع.
التحليل القانوني لمسؤولية هيئة تحرير الشام تجاه الأقليات
وف قًا لمبادئ القانون الدولي الإنساني والقانون الدولي لحقوق الإنسان، تقع على عاتق جميع أط ارف الن ازع، بما في ذلك السلطات غير المعترف بها رسميًا مثل هيئة تحرير الشام، مسؤوليات قانونية واضحة تجاه حماية المدنيين والأقليات. وتعد أية ممارسات تمييزية أو اضطهادية ضد الأقليات خرقًا لهذه الالت ازمات، وتشكّل انتهاكات جسيمة قد تدخل ضمن نطاق الج ارئم ضد الإنسانية أو ج ارئم الحرب في بعض الحالات.
بالرغم من عدم الاعت ارف الدولي بهيئة تحرير الشام كدولة أو سلطة شرعية، فإن القانون الدولي الإنساني يفرض عليها، بصفتها سلطة أمر واقع، احت ارم حقوق الإنسان الأساسية، ومنع التمييز الديني، وحماية حرية المعتقد والممارسة الدينية. كما تتحمل القيادة مسؤولية جنائية شخصية في حال تورطها في هذه الانتهاكات.
دور المجتمع الدولي والمنظمات الحقوقية
يلعب المجتمع الدولي دوارً حيويًا في رصد أوضاع حقوق الإنسان وحماية الأقليات في سوريا، عبر المنظمات الحقوقية الدولية، ووكالات الأمم المتحدة، وبعض الدول الفاعلة. ولكن يواجه هذا الدور تحديات كبيرة ،منها:
• صعوبة الوصول إلى مناطق السيطرة الفعلية للهيئة بسبب الوضع الأمني والمعقد.
• رفض الهيئة لأي تدخل أو رقابة دولية.
• تصنيف الهيئة كمنظمة إرهابية، ما يحد من آليات التواصل والتفاوض.
ورغم هذه العقبات، تظل ضرورة فرض رقابة دولية ومحاسبة قادة الفصائل المسلحة على أي انتهاكات بحق الأقليات أولوية قانونية وأخلاقية.
في ضوء ما سبق، تتضح الحاجة الماسة إلى:
• تعزيز آليات الحماية القانونية للأقليات في مناطق الن ازع السوري، عبر تفعيل دور الأمم المتحدة والمنظمات الحقوقية.
• إد ارج حماية الأقليات كجزء لا يتج أز من أي تسوية سياسية أو اتفاق سلام مستقبلي.
• الضغط الدولي على الفصائل المسلحة لوقف الانتهاكات، وضمان حق الأقليات في ممارسة شعائرها وعيش كريمة.
• دعم المجتمعات المحلية لتعزيز التعايش والتسامح الديني والاجتماعي.
إن ضمان حقوق الأقليات الدينية في سوريا ليس فقط مطلبًا إنسانيًا وأخلاقيًا، بل هو أيضًا ركيزة أساسية لأي استق ارر سياسي طويل الأمد، يتجاوز الن ازعات الطائفية والمذهبية إلى بناء دولة المواطنة الحقيقية.
تابعوا آخر الأخبار من icon news على WhatsApp
تابعوا آخر الأخبار من icon news على Telegram
(يلفت موقع “iconnews ” انه غير مسؤول عن النص ومضمونه، وهو لا يعبّر إلا عن وجهة نظر كاتبه أو مصدره)
:شارك المقال على وسائل التواصل الإجتماعي