استبشر أهالي بلدية الجديدة - البوشرية - السدّ في قضاء المتن الشمالي بانتخاب أوغست باخوس رئيساً للمجلس البلدي، خاتماً بذلك أكثر من عشرين عاماً من سيطرة آل جبارة على البلدية، وهي حقبة شابتها شبهات بالفساد، وتقاسم النفوذ، والاستغلال السياسي، وصولاً إلى «توريث» المنصب حين نصّب الرئيس السابق أنطوان جبارة ابنه سيزار «حاكماً» للبلدية.
قدّم الرئيس الجديد نفسه كوجه إصلاحي، رافعاً سقف التوقعات لدى أبناء البلدة. فقد وعد في برنامجه بـ«مكافحة الفساد»، و«تفعيل أجهزة البلدية»، و«تشجيع الاستثمارات وتعزيز الإيرادات»، مشدّداً على أنه محاط بـ«مستشارين متخصّصين» يمكن الاستفادة من خبراتهم في خدمة الشأن العام. غير أنّ ما لم يُعلنه باخوس هو أنّ هؤلاء «المتخصّصين» ليسوا سوى أفراد من عائلته وأقربائه.
ففي سابقة لم يجرؤ حتى جبارة على الإقدام عليها في بداية ولايته، رغم الدعم الذي حظي به من «رجل المتن القوي» النائب الراحل ميشال المر، حوّل باخوس مبنى البلدية خلال شهر واحد فقط إلى ما يشبه المنزل العائلي.
إذ تستقبلك زوجته عند مدخل البلدية، حيث تولّت مهام استقبال الزوّار، وضبط النظام، والإشراف على الموارد البشرية، وسائر شؤون التوظيف.
عين القوات على الشرطة وعين الكتائب على ملف النفايات
وفي الشق القانوني، استعان باخوس بابْن عمّ والده، الذي استقرّ في أحد المكاتب وبدأ أداء دور غير معلَن في «اصطياد» طالبي الخدمات، بحسب أحد أعضاء المجلس البلدي. أمّا والده، سيزار باخوس، فقد تولّى مهمة الإشراف على ملف الإعلانات ضمن نطاق البلدية – وهو قطاع يدرّ آلاف الدولارات سنوياً في هذه البلدية الكبرى، التي تُعدّ الثالثة من حيث الحجم بعد بيروت وطرابلس.
والمفارقة أنّ هذا الملف كان سابقاً في عهدة سيزار جبارة، نجل الرئيس السابق، لكن من دون إعلان رسمي. أمّا اليوم، فقد انتقل علناً إلى يد سيزار باخوس، وبمعرفة الجميع.
في موازاة ذلك، عيّن الرئيس الجديد أحد أقربائه مهندساً رئيسياً للبلدية، مطيحاً بابْن شقيقة سيزار جبارة، قبل أن يتراجع تحت ضغط العائلة، التزاماً بـ«الديل» المتّفق عليه بين الطرفين.
خلاف على المحاصصة
بعد «غزو» العائلة للبلدية، انتقل «الريّس» إلى ضبط إيقاع المكوّنات الحزبية داخل المجلس البلدي، بهدف تحجيم حزبَي القوات اللبنانية والكتائب والقبض على مفاصل القرار. فما إن انتهى التحالف الانتخابي الظرفي الذي جمع هذه الأطراف، حتى بدأت الخلافات حول المحاصصة والمواقع تتصاعد، وكاد المجلس أن ينهار في أول جلستين.
فـ«التغيير والإصلاح» الذي جمع بين الأعضاء – 7 قوات، 7 كتائب، 3 محسوبين على النائب إبراهيم كنعان، و3 من جماعة «الريّس» – لم يعد كافياً لضبط الطموحات، مع اقتراب الانتخابات النيابية وازدياد شهيّة المتحالفين على مداخيل البلدية وصندوقها.
فالبلدة تُعدّ عاصمة قضاء المتن الشمالي وبوابة بيروت الشرقية، وتضم اثنتين من أكبر المدن الصناعية، ومجمّعاً تجارياً وآخر رياضياً، إلى جانب دوائر رسمية كدائرة النفوس، والاتصالات، ومصلحتَي المياه والكهرباء، ومراكز للأمن العام، وقوى الأمن الداخلي، والدفاع المدني، فضلاً عن مستشفيات ومدارس وجامعات، ومرفأ على مساحة 100 ألف متر مربع، ومكبّ نفايات يدرّ ملايين الدولارات سنوياً. ويُقدّر عدد قاطني الجديدة – البوشرية – السدّ بنحو 150 ألفاً.
ومن بين أبرز المرافق التابعة للبلدية، «مجمّع ميشال المر»، الممتد على عقار مساحته 20 ألف متر مربع، والذي اعتادت البلدية تأجيره لصالح نوادٍ رياضية أو شركات خاصة، ما يدرّ إيرادات كبيرة، وصلت في بداية الأزمة إلى نحو مليون و200 ألف دولار سنوياً.
هذا المجمّع تديره لجنة مستقلّة تُعيّنها البلدية، لكنّ تشكيل اللجنة تعطّل بسبب الخلاف بين الرئيس من جهة، والقوات والكتائب من جهة أخرى، حول هوية رئيسها. إذ يسعى كل طرف إلى فرض مرشحه بهدف استخدام أموال الصندوق بعيداً عن رقابة المجلس، وهو ما بدأ بالفعل.
ففي أُولى جلسات المجلس، أدرج باخوس بنداً لدعم ناديَي «الأنوار» و«البوشرية» للكرة الطائرة بمبلغ 30 ألف دولار. وعندما نبّهه أعضاء المجلس إلى أنّ قانون الموازنة لا يسمح للبلديات بصرف مساعدات مالية من المال العام، سارع إلى استخدام صندوق المجمّع لتمرير التمويل، متجاوزاً المجلس وكل أشكال الرقابة. وهو ما يفسّر التنافس بين مختلف الأطراف للسيطرة على لجنة إدارة المجمّع، باعتبارها من مفاتيح الصرف «الحر»، بلا حسيب أو رقيب.
وإلى ذلك، فَتحت القوات اللبنانية جبهة جديدة، إذ طرحت تغيير اسم «مجمّع ميشال المر»، ما اعتُبر خطوة تصعيدية هدفها تسجيل موقف شعبوي و«المزايدة» وحتى التعطيل. هذا الطرح أدخل المجلس في دوّامة مواجهة جديدة مع باخوس، الذي أدرك سريعاً الارتدادات السياسية والخدماتية الخطيرة لخطوة من هذا النوع.
فأي مَسّ باسم المجمع سيُترجم مباشرة إلى توتّر مع اتحاد بلديات المتن الذي ترأسه ميرنا ميشال المر، ما قد يؤدّي إلى عزل بلدية الجديدة – البوشرية – السدّ عن الدعم والمشاريع في مطلع ولايتها.
وردّاً على الطرح، ذكّر باخوس القوات بأنّ صورة بشير الجميل لا تزال مرفوعة في ساحة الجديدة منذ أيام جبارة، ولم يجرؤ أحد على المسّ بها، رغم القدرة على ذلك وتوافر الذرائع القانونية والإدارية الكافية. فلماذا الإصرار اليوم على افتعال نزاع سياسي واجتماعي؟
معراب غاضبة من الريّس
أمّا المواجهة الثانية بين باخوس والقوات، فاندلعت عند طرح تعيين رئيس للشرطة البلدية، وهو موقع توليه معراب أهمية وتسعى إلى الإمساك به في معظم البلديات التي تمتلك فيها تمثيلاً وازناً. فقد أصرّ الأعضاء الممثّلون للقوات على تعيين جورج حشاش، المحسوب عليهم، استناداً إلى كونه الأعلى رتبة بين زملائه. لكنّ الاعتراض على الاسم من بعض الأعضاء حال دون التوصّل إلى قرار.
غير أنّ المفاجأة وقعت في اليوم التالي، حين أصدر باخوس قراراً تنفيذياً منفرداً بتعيين العقيد المتقاعد جورج توما رئيساً لجهاز الشرطة، ما أثار غضب معراب، بحسب مصادر بلدية مطّلعة.
واتصل الأمين العام لحزب القوات، إميل مكرزل، برئيس البلدية، وأبلغه رفض الحزب لهذا التفرّد، وأنه «من الآن فصاعداً، لن يتمّ التنسيق معه في أي تفصيل».
وجهاز الشرطة في بلدية بحجم الجديدة – البوشرية – السدّ أبعد من مجرّد وظيفة إدارية. فهو، خصوصاً في العقل القواتي، باب أساسي للتوظيف، والإمساك أمنيّاً بالمنطقة، خصوصاً مع حديث باخوس المتكرّر في الإعلام عن نيّته تسليح الشرطة، ما يضاعف حساسية الملف في الحسابات القواتية.
كما أنّ العقيد توما، المعروف بخلافه السياسي والعقائدي مع القوات، يُعدّ من المقرّبين من النائب السابق شامل روكز. وبرّر الريّس قراره أمام القوات بأنّ «الأوامر بتعيينه جاءت من القصر الجمهوري».
الصفعة الثالثة التي تلقّتها القوات جاءت من داخل صفوفها. إذ اندلع خلاف بين العضوين المحسوبين عليها، جوزيف أبي نادر وفانيسا نجم، على رئاسة لجنة الإعلام، ما دفع الرئيس إلى ترجيح كفّة نجم على حساب أبي نادر. القرار لم يرقَ للأخير، فعبّر عن غضبه بتمزيق قرار التعيين أثناء الجلسة.
الخلاف على المحاصصة شمل معظم اللجان، ولا سيّما لجنة المولدات، التي يسعى الكتائبي إيلي واكيم إلى ترؤّسها. والسبب؟ ارتباط اللجنة بمصالح مباشرة لعائلته، إذ يملك والده عدداً من المولدات ويتولّى توزيع المازوت في المنطقة.
في المقابل، اختار باخوس عدم المساس بأي من الموظفين المحسوبين على العهد السابق، لا سيّما أولئك الموجودين في مواقع مالية حساسة كانت محل تحقيقات من قبل التفتيش المركزي. وهو ما أثار امتعاض عدد من أعضاء المجلس، الذين ألمحوا إلى تفاهم انتخابي غير معلن مع جبارة، يشمل الإبقاء على هؤلاء الموظفين في مواقعهم.
في ظل هذا المشهد المتوتّر، تتزايد التوقعات باستقالات قريبة لبعض الأعضاء، نتيجة تراكم الخلافات وتعقّد المشهد الداخلي. خاصة أنّ ملف النفايات - الغائب الأكبر حتى الآن عن التداول - يُعدّ بمثابة قنبلة موقوتة، مرشحة للانفجار في أي لحظة، وسط مؤشرات على تصادم وشيك بين رئيس البلدية ورئيس حزب الكتائب الذي يولي هذا الملف أهمية استثنائية.
تابعوا آخر الأخبار من icon news على WhatsApp تابعوا آخر الأخبار من icon news على Telegramنسخ الرابط :