حيفا أكبر من كندا!

حيفا أكبر من كندا!

Whats up

Telegram

ليس الأمر ضرباً من الحنين المؤلم للمكان، أو لنقل «نوستالجيا» الفقد القسري فحسب، ثمة روح غير مرئية تَغوص في أحمالها وتفاصيلها بين حجارةٍ مرصوفة تُعبِّد الطريق إلى الماضي وغراب ينعق ممزقاً علم الوهم السائد، وحالماً بعودة المستقبل السحيق.

حتى الساعة، لم تكن هناك قراءة تنتهج البحث بعمقِ صهيلِ البَوح البُكائي على فَقْد سحرِ المكان، فهناك سر لا يدركه حتى من أفشاه ذاته، حيث سحق الخطاب السياسي براعة الحس الفطري وطغى صوت البكاء العويلي والبنادق العنترية على صُراخات الأطفال وبطونِ الأمهات المبقورة بمنجل يهوه، وسيوف كل سفلة العالم المكتنزة اللامعة بمال الرشوة، وتعاليم الإجرام الذكي المشفوع بإعلانات التلفيق وتواريخِ الوهم بشتى مفرداته المتوحشة والإنسانية الزائفة وأفلام الأكشن وروايات الجنس والتعذيب ونياشين العمالة والكراسي...
 

ليس الفَقْدُ هنا كأيِّ فقدٍ ذُكر في كتاب، ولا كأيٍّ مما لم يذكر حتى، فالمكان في بقعة ما غيرُ المكان في أخرى، والرحيل عنه ضِمن صفقة قسرية منظمة يختلف عن تركه للولوج في بلدان أكثر اتساعاً أو أرحب رزقاً.

 

 

أجملُ من كل ما كتبه المحترفون في صَوْغ الحُروف وسبكِ الرواية عبارتان، واحدة قرأتُها ذات يوم، وأخرى سمعتها من جوف حلق غصَّة امرأة حيفاوية مكثتْ في كندا منذ الستينيات بعد هجرتها الثانية من لبنان إلى مونتريال، الأولى عبارة كتبها ببساطة معلنَةٍ أديبٌ هو جهاد صالح، في إهدائه لرواية له في الثمانينيات كاتباً «إلى أمي، التي لا تزال تصرُّ على أن شاطئ حيفا أجمل من شواطئ البحر المتوسط». الثانية، وهي الأعمق، التقطُها شخصياً، شفهياً من فم أم حسين، عاشت نصف حياتها الأخيرَ في مونتريال بكندا، لكنها مكثت منذ ستة آلاف عام في فلسطين، ولم تدرك عمر ذاكرتها الحقيقية عقلياً لكنها عاشت تلك الحِسِّية الرهيبة التي تنغزُ بِرُمحها صدرَ الفلسطيني- صَوْبَ المكان. صديقي البروفسور في الرياضيات -ابن أم حسين- وباعتياديةٍ بسيطةٍ، خلال حديث عن مدينة بعيدة، يذكر لأمه كم أنَّ كندا واسعةٌ بمساحتها الجغرافية فتردُّ وتصحح له: «لا يُمَّا... حيفا أكبر» ها هو يضحك لسذاجتها وأنا أبكي لسذاجتنا!
يبدو سحرُ المكان مهيمناً لدى الروحانية الجوانية للفلسطينيين، أعني غيرَ المُسيَّسين،غيرَ المثقفين، والذين هم ليسوا بقادة أو كوادر في معمعة العمل الوطني، تلك مسألة خارقةٌ في وَهْجها الدافعِ نحو قراءةٍ أخرى لا تميد صوبَ المألوف ولا تستعيد التكرارَ المُملَّ أو تستعمل مفردات الخطابة الغبية المسبوكة في مشاغل أروقة السياسة المتخشبة.

لا يعرف الفلسطينيُّ العادي مكاناً قَطُّ إلا ويقارنه بالـ «هناك»، فالـ «هنا» مُجرَّد مكانِ لجوءٍ مؤقت

هل ترغب أو تريد العودة إلى «نحف»؟، نحف -للعلم فقط- هي قرية في أعالي عكا، قريةُ أجداد كاتب هذه السطور التي لمْ يرها قطّ إلا في وجنات أمه وحَنقِ أبيه الذي ما انفك يشتم جيوشَ الزعماء العرب وخياناتهم بالتشارك مع الإنكليز والعصابات الصهيونية، وعلى كتفه علامة شاهدةٌ، حرق قديم نتج من شراء بندقية من الجيش العربي، بعد أن باعت له أمُّه الصفديةُ سواراً ذهبياً على شكل أفعى ليحصل على طلقات وبندقية كي يحمي شرفَ حضن أمه، وفي صدّ الهجوم على «البروة» الواقعة أعلى «نحف»، أطلق أول طلقة من طلقاته العشرين التي حصّلها مع البندقية لقاء سوار الأفعى، فانفجرت به لا بالإرهابيين الصهاينة. وظل كتفه حتى وفاته ودفْنِهِ في مقبرة مخيم اليرموك يبدو كأن خريطة تشكَّلتْ من بُقعة زيت ملتهب تُشابه تضاريسَ جبال الجليل، والتي سأل عن سببها مُغسِّل الموتى فردَّ ابنُ عمه بأنها شاهد على خيانة الأنظمة فصمت المغسل فجأةً كالمغسول المُسجَّى...
لا يعرف الفلسطينيُّ العادي مكاناً قَطُّ إلا ويقارنه بالـ «هناك»، فالـ «هنا» مُجرَّد مكانِ لجوءٍ مؤقت، لهذا نجد بأن حَميميَّة المخيم بكل زواريبه التي نسخوا على جدرانها أسماء مدن وقرى الفَقْد، والتي أريد لها أن تبقى متعفنة الرائحة هديمة السُّقوف ومتينةَ الفوضى، كي لا تُذكِّرَ أحداً ببيارات يافا وروابي القدس وصَدْحيَّهَ الأقصى ورنينَ أجراس كنيسة القيامة وسائر دروب العاشقين ونغماتها.
 

في القدس، سيدة المعاني، وعاصمة الحلم القادم المتكامل الأبدي وحتى المُصغَّر السطحي المرحلي كما حَبكتْهُ غباواتُ السياسة، ثمة رجل وامرأة لم يشهدا النكبة، يعيشان في بيت داخل حي قديم مُتوارثٍ، تتسلَّقُ على جدرانه من الخارج نباتاتٌ تبدو ظاهرياً للزينة، مع باب بقوس حجري. هناك يدفع منذ عشرين سنة رجالٌ من جنسيات مختلفة بعضهم من المستوطنين اليهود الذين حاولوا في السابق وفشلوا في الترغيب بالمال الوفير لقاءَ البيت، تبعهم أوروبيون، ثم بعضٌ من فصيلة الخونة، وأخيراً -منذ سنوات ستْ- عرض وكيل نظام دولة خليجية حكامها «إبراهيميون!» ستة ملايين من الدولارات لقاء المنزل الذي لا يساوي عقارياً المئتي ألف دولار فطردتْهُ المرأة الأربعينية شرَّ طردة!
لم يعش الجيلُ الجديدُ في المكان قبل النكبة، جُلُّ من هم في الخارج، وُلدوا وترعرعوا في بيوت الذاكرة، ومنْ هم في الداخل ولدوا ليجدوا بلادهم قد سُمِّيتْ دولياً باسم آخر، فلم يشهدوا سحر حيفا ولا هدوء يافا أو ذاقوا حلاوة عنب الخليل، لكنهم شربوا عبر جينات حسية ماءَ النبعة العذب من أعالي جنين ونابلس، وتوضؤوا بابتهالات شاعرٍ كنعاني قُرب ترشيحا، كما ساحوا مع يسوع المعذب المدمَّى في حواري القدس وشاركوا دبكةَ الصبايا في قرى بيت لحم.
المسألة ذَهولةٌ مُذهلة، مُحيرة إن استقينا مفردات وتصنيفات علم الاجتماع والفلسفة ونظريات علم النفس، لا أدل عليها من روايات من هم في مثل سني، أعني مَنْ منعتهُ ديموقراطية وقيم الحرية من رؤية قلعة وحواري عكا وشاطئ يافا، لكنه ما زال ولا يزال يصف المكان كمُعايشٍ سابقٍ ولحظي!
ليس الفلسطيني مُصاباً بمُتلازمة الـ «نوستالجيا»، المسألةُ أعمقُ وأقسى وأقهرُ من ألمِ الفَقْدِ وحتى من لهيب صَهْرِ الحديد في الأتون، فقد نجح الحديدُ في القتل البارعِ لكنه فشل في إزاحة المكان من جوانح طيور الغد وجدرانِ الذاكرة، يُمْكِن اختصار كل ذلك في تلك العبارة العميقة الحارقة الجارفة التي قالتها أم حسين الكندية بكل بساطة ووضوح وانسيابية: «حيفا أكبر من كندا»!

تابعوا آخر الأخبار من icon news على WhatsApp تابعوا آخر الأخبار من icon news على Telegram

نسخ الرابط :

(يلفت موقع “iconnews ” انه غير مسؤول عن النص ومضمونه، وهو لا يعبّر إلا عن وجهة نظر كاتبه أو مصدره)

:شارك المقال على وسائل التواصل الإجتماعي

Whats up

Telegram