بمجرد ذكر اسمها، تُرفع حالة التأهب في غرف العمليات. فقبل أن تفرد أجنحتها، تكون قد بعثت برسالة سياسية مدوية. إنها طائرة الشبح الصينية “جي-35″، التي كسر مجرد تسريب نية مصر لاقتنائها توازنات سياسية وعسكرية راسخة، وأربك حسابات الحلفاء قبل الخصوم. هذا التسريب وحده قلب معادلات تحالفات قديمة، ونسف مسلّمات كانت واشنطن تظنها خارج مرمى المفاجآت.
وأطلق تقرير نشرته مجلة نيوزويك أول إنذار فعلي: “حليف واشنطن التاريخي يفكر في اقتناء مقاتلة شبحية صينية”. سؤال يفرض نفسه: إلى من توجه القاهرة هذه الرسالة؟ ولماذا الآن؟ ولماذا الصين تحديدًا؟ هل نحن أمام صفقة سلاح عادية أم تحوّل استراتيجي يعيد تموضع مصر إقليمياً؟ هل يجري تفاوض أم أننا على أعتاب قطيعة؟
لفهم هذا القلق الغربي، لا بد أولًا من فهم ما تمثله طائرة جي-35.
فهي ليست مجرد مقاتلة من الجيل الخامس، بل منظومة قتالية متكاملة. تتخفى، تهاجم، تنجو، وتعمل بمحركين يمنحانها قدرة مناورة أكبر وبقاء أطول في سماء المعركة مقارنةً بـ F-35 الأمريكية. يمكنها الإقلاع من حاملات الطائرات، والاختفاء عن شاشات الرادار. تحمل أسلحتها داخل هيكلها، وتخوض الحرب قبل أن يتم رصدها.
أما السؤال الأهم: لماذا تتجه مصر إلى هذا الخيار الآن؟
الجواب في الواقع أكثر من واضح. القاهرة انتظرت طويلاً، لكن الدعم الأمريكي ظل مشروطًا ومحدودًا. طائرات F-15 لم تصل، وF-16 باتت متقادمة، والمساعدات العسكرية تحولت إلى إجراءات إدارية لا تليق بمكانة دولة كمصر. فالقاهرة لا تبحث عن بندقية بل عن سيادة، وردع، وحرية اتخاذ القرار العسكري.
في قلب البحرين المتوسط والأحمر، ووسط بؤر توتر متصاعدة، لا تملك مصر رفاهية انتظار الإذن لترد. حين تنظر القاهرة إلى جي-35، فهي لا تختار سلاحاً فحسب، بل تفرض معادلة جديدة على العالم: لن نكون رهينة لسلاح مؤجل ولا قرار مرهون.
ولإسرائيل، تقول مصر بشكل غير مباشر: امتلاككم للإف-35 لا يمنحكم السماء وحدكم، وقدرتنا على الردع ليست محل مساومة.
اللافت أن الطائرة الصينية خضعت لاختبارات تشغيلية فعلية في أجواء مصرية، بمشاركة طيارين مصريين وخبراء دوليين، ما يجعل دخولها الخدمة المصرية مجرد مسألة وقت.
ما يحدث اليوم بين القاهرة وواشنطن ليس أزمة طارئة، بل نتيجة تراكمات من التأجيل والتقييد. الوعود الأمريكية لم تُنفذ، والتحديثات تحوّلت إلى مجرد صيانة شكلية. بينما تُرسل الطائرات الأحدث لحلفاء الصف الأول، بقيت القاهرة في خانة الانتظار، حتى قررت أخيرًا أن تعيد تعريف علاقتها بالغرب من الخارج، لا من الداخل.
التوجه نحو جي-35 ليس مجرد صفقة سلاح، بل رسالة سياسية مفادها أن التحالفات القديمة فقدت توازنها، وأن مصر لم تعد تقرع باب واشنطن وحدها. من باريس التي منحتها الرافال، إلى سيول التي شاركتها التصنيع، إلى برلين التي فتحت خطوط التكنولوجيا، وأخيرًا إلى بكين، صاحبة مفاتيح الجيل الخامس.
الهندسة العسكرية الجديدة التي ترسمها القاهرة ليست تسوقًا للسلاح، بل إعادة تشكيل للقرار الاستراتيجي، وتوزيع جديد لأوزان القوى في المنطقة.
ثم جاءت التجربة القاسية لتختبر هذا التحوّل: غزة تشتعل، أزمة سد النهضة تتفاقم، وتهديدات المتوسط تتصاعد. وفي كل مرة، وجدت مصر نفسها وحدها، بينما واشنطن تدير ظهرها وكأن شيئًا لم يكن.
هل هذه شراكة؟ شراكة تسلّح إسرائيل وتقيد مصر؟ شراكة تكافئ من يهدد وتعاقب من يسعى للدفاع عن نفسه؟
مصر لا تُعلن العداء، لكنها تقول بوضوح: من لا يثق بنا حليفًا، فلا يفرض علينا سقفًا.
السؤال الذي يقلق الآن مراكز القرار في واشنطن: هل تخسر الولايات المتحدة شريكها الأهم في الشرق الأوسط؟ وهل تسمح بأن تتحول القاهرة إلى بوابة استراتيجية لصعود الصين في المنطقة؟
في تل أبيب، ارتبك المشهد. كل صفقة تسليحية متقدمة تُقابل هناك بسؤال تقليدي: هل تهدد تفوقنا النوعي؟ لكن حين تكون الشراكة مع الصين، والطائرة من الجيل الخامس، والدولة المعنية هي مصر، فإن السؤال يتحول إلى ذعر.
جي-35 ليست مجرد مقاتلة جديدة. إنها إهانة استراتيجية لكل سنوات الاحتكار الإسرائيلي لتقنية F-35. ولأول مرة منذ عقود، يظهر تهديد جوي حقيقي لا يُصنّع في تل أبيب، ولا يُضبط في البنتاغون، بل يُبنى في بكين ويقترب من القواعد المصرية.
الصين لا تعادي إسرائيل، لكن الأخيرة لا ترى الخطر فقط في النوايا، بل في القدرة. ومصر، بموقعها وجيشها وتاريخها، تملك ما يحوّل أي قدرة إلى واقع استراتيجي فعلي.
منذ دخول F-35 إلى الخدمة الإسرائيلية، بُنيت عقيدة الردع على أساس واحد: نحن من نملك السماء. لكن بمجرد تفكير مصر في اقتناء جي-35، فهذا يعني أن هذه الهيمنة الجوية باتت قابلة للكسر، وأن احتكار السماء قد يقترب من نهايته.
تسريبات إسرائيلية كشفت بالفعل عن قلق عميق داخل أجهزة الأمن، ليس فقط من التقنية الصينية، بل من التحول الاستراتيجي في نهج القاهرة.
مصر لم تعد تطلب الإذن من أحد، بل تختار ما يناسب مصالحها، دون اعتبار لشروط الحلفاء. وفي وزارة الدفاع الإسرائيلية، إدراك متزايد بأن دخول جي-35 إلى مصر لن يكون مجرد تعزيز عددي، بل نقلة نوعية في التوازن الجوي الإقليمي.
أما القلق الحقيقي، فهو في الرسالة السياسية: إذا قررت الصين تصدير أقوى مقاتلاتها إلى دولة كانت لسنوات حليفًا رئيسيًا لواشنطن، فذلك اختراق يصعب السكوت عنه. وإذا قبلت مصر، فهي تعلن ضمنيًا أنها لم تعد تقبل بدور الزبون المضبوط بسقف سياسي معين.
السؤال الذي يطرح نفسه الآن في تل أبيب: هل ستظل واشنطن تراقب بصمت بينما تبني بكين لنفسها موطئ قدم في الشرق الأوسط عبر بوابة القاهرة؟
وماذا لو فتحت هذه الصفقة أبوابًا أوسع: تدريبات، قواعد مشتركة، رادارات، نقل تكنولوجيا؟ حتى وإن لم يتحقق ذلك غدًا، إلا أن مجرد مناقشته بدأ يفرض نفسه في غرف مغلقة داخل إسرائيل وواشنطن.
المنطقة اعتادت على تفوق جوي إسرائيلي غير قابل للمساءلة. لكن عندما تقتني دولة كبرى مثل مصر مقاتلة شبحية حديثة، تتغير قواعد اللعبة. حتى لو لم تتفوق جي-35 نظريًا على F-35، فإن مجرد وجودها في معادلة الشرق الأوسط كفيل بأن يُعلن: المعركة الجوية لم تعد محسومة.
تابعوا آخر الأخبار من icon news على WhatsApp تابعوا آخر الأخبار من icon news على Telegramنسخ الرابط :