لا يهمّ إن كان البعض في لبنان قد رأى في نتائج العدوان الصهيوني على هذا البلد وفي حرب الإبادة المستمرة على غزة تأكيداً للتفوّق «الحضاري الإسرائيلي»، والذي يمثّل «امتداداً للتفوّق الحضاري الغربي»، على شعوب المنطقة وممثّلها الشرعي الوحيد، أي قواها المقاومة. لا يهمّ لأنّ تقدير الموقف السائد لدى المعنيّين بهذه المدائح، أي إسرائيل وبلدان الغرب، وبالنسبة إلى وضع إسرائيل الحالي، فهو معاكس تماماً لتقييم المدّاحين.
دأب هؤلاء على رصد كل ما يصدر من مواقف ومقالات ودراسات في الغرب، وتبنّي أبرز فرضياته وخلاصاته، واستشراف مستقبل المنطقة والعالم على هدْيه، لكنهم اليوم يتجاهلون تماماً جلّ ما يكتب ويقال عن منطقتنا في مراكز إلهامهم الحضاري، لأنه يتعارض مع أهوائهم وتمنّياتهم. أمّا ما يُقال ويُكتب، وبات يتشكّل من حوله ما يشبه الإجماع بين خبراء ومعلّقين من خلفيّات متعدّدة، فهو أنّ إسرائيل تواجه مأزقاً تاريخياً لا سابق له منذ زُرعت في إقليمنا نتيجة للانقسام المتعاظم داخل «القبيلة الصهيونية» في داخل الكيان وفي خارجه، والمرتبط لدرجة كبيرة بأزمة الثقة المتنامية، والمرشّحة للتزايد، بين حكومة نتنياهو والغرب، حكومات ومجتمعات.
الانقسام الذي نراه في داخل الحركة الصهيونية وكيانها، بينما يخوض الأخير حروباً مفتوحة، وإن بمستويات مختلفة، على أكثر من جبهة («حرب على سبعة جبهات» وفقاً لمزاعم نتنياهو)، هو تطوّر مستجدّ وهامّ ليس من المبالغة وصفه بالتاريخي. بداية، لا بدّ من التذكير بأنّ الصهيونية تعرّف «الأمّة اليهودية» في داخل الكيان وفي خارجه على أنها جماعة عضوية تقوم على رابطة الدم، أي أنها، بكلام آخر، مجرّد امتداد للقبيلة.
يتناقض هذا التعريف مع التعريفات المعتمدة في الفكر السياسي الغربي الحديث، الفرنسي والبريطاني مثلاً، الذي يرجّح مركزية عوامل أخرى عند تعريف الأمّة، كوجود مرجعية ثقافية مشتركة والاندراج ضمن مشروع سياسي موحّد بمعزل عن أصول الأفراد الدينية أو الإثنية، والقبول بالعقد الاجتماعي الذي أجمعت عليه القوى الرئيسية في المجتمع.
صحيح أنّ الصهيونية ضمّت منذ نشأتها تيارات أيديولوجية-سياسية مختلفة لكنها كانت تتحوّل إلى كتلة صمّاء، إلى قبيلة بكل ما للكلمة من معنى، كلّما شنّ كيانها الاستيطاني حرباً عدوانية بهدف التوسّع الجغرافي أو ضرب وإضعاف دول المنطقة وحركاتها المقاومة. ما نراه اليوم من انقسام بين رموزها وقواها السياسية في داخل الكيان وخارجه، بعد أكثر من سنة ونصف من حرب الإبادة ضد غزة، استثنائي بالفعل.
يلجأ معارضو نتنياهو للمسوّغات الأخلاقية عند إدانتهم لسياسته. قتل المدنيين العزّل والأطفال «يُفقد إسرائيل روحها والمبادئ الأخلاقية التي قامت عليها»، حسب تعبير العديد من هؤلاء، ومن بينهم، للمثال لا للحصر، إيهود أولمرت وإيهود باراك، وموشي يعالون، الرجل الذي وَصفَ يوماً الفلسطينيين بـ«السرطان»، ويائير غولان، وغيرهم.
أبدى هؤلاء أيضاً خشيتهم من استغلال نتنياهو لحالة الحرب الدائمة لإحكام سيطرته واليمين المتطرّف على جميع مفاصل الدولة ومؤسّساتها الأمنية والعسكرية تمهيداً لإعادة النظر بـ«طبيعتها الديموقراطية». تعكس هذه المخاوف إدراكاً دقيقاً لنوايا نتنياهو وحلفائه الحكوميين بالنسبة إلى البنية السياسية الداخلية للكيان، غير أنها ليست الدافع الأساسي لاستنفار معارضيه في مقابله راهناً، بل ذعرهم ممّا قد يترتّب عن سياسته من تداعيات على مستقبل العلاقات بين إسرائيل وحاضرها الخارجي، أي الغرب.
مَن يشكّك بدور الغرب كحاضنة لنشأة وبقاء الكيان الصهيوني ما عليه سوى العودة إلى أعمال جميع المؤرّخين الجدّيين، بمن فيهم من الغربيين والإسرائيليين، للتثبّت من هذه الحقيقة. الحضانة البريطانية ومن ثم الفرنسية فالأميركية هي أمر من المفترض ألا يكون محطّاً للنقاش. قد يقول قائل أنّ الكيان لم يعد مجرّد قاعدة عسكرية أميركية أو غربية، وأنه تحوّل إلى لاعب يمتلك قدراً لا يستهان به من الحيثية وهامشاً واسعاً من الاستقلالية وأنّ الحركة الصهيونية في الغرب أضحت جزءاً من المنظومة السياسية والاقتصادية-المالية المسيطرة، غير أنّ هذا الواقع لم يلغِ الدور الحيوي للقوى الحاضنة في حمايته عند اندلاع الأزمات الكبرى.
هذا ما يفسّر مسارعة الولايات المتحدة والقوى الغربية الأخرى إلى إرسال حاملات طائراتها وسفنها الحربية وغوّاصاتها لضمان أمن الكيان بعد عملية «طوفان الأقصى». هذا ما يوضح أيضاً قيام دول التحالف الغربي بالمشاركة الفعّالة، عبر منظوماتها للدفاع الجوي وطائراتها المنتشرة في بعض بلدان المنطقة، في إسقاط الصواريخ الإيرانية التي أُطلقت باتجاه الكيان لمرّتين متتاليتين.
المشكلة اليوم من منظور المعارضين الصهاينة لنتنياهو، في داخل الكيان وخارجه، هي أنّ الأزمة المتنامية بينه وبين الحكومات الأوروبية بفعل حرب الإبادة التي يشنّها، وما ينجم عنها من انقلاب حاسم في الموقف من إسرائيل في أوساط الرأي العام الغربي ونُخبه ووسائل الإعلام الغربية، هي بمجملها عوامل ستؤثّر على مستقبل الحضانة الغربية لها. ارتبطت هذه الحضانة، كما شرح توماس فريدمان في رسالته الموجّهة لدونالد ترامب، بمساهمة إسرائيل في تعزيز استقرار منظومة الهيمنة الاستراتيجية الأميركية في الشرق الأوسط غير أنها أصبحت حالياً قوّة زعزعة لهذا الاستقرار.
هذا ما حدا بفريدمان، الصهيوني العقائدي وأوّل المدافعين عن الكيان منذ عقود، إلى دعوة ترامب إلى عدم اعتبار حكومة نتنياهو حليفةً للولايات المتحدة. هذا المثل دليل بذاته على عمق الشرخ داخل الحركة الصهيونية العالمية الناجم عن سياسة نتنياهو. ولا شكّ أنّ فشل الأخير في حسم المعركة مع المقاومة في غزة سيعظّم من هذا الشرخ ومن الأثمان الناتجة عنه داخلياً وخارجياً.
تابعوا آخر الأخبار من icon news على WhatsApp تابعوا آخر الأخبار من icon news على Telegramنسخ الرابط :