أين اختفى جمهور أم كلثوم؟

أين اختفى جمهور أم كلثوم؟

 

Telegram

 

أين اختفى ذاك الجمهور البديع الذي كان يحضر حفلات أم كلثوم؟ لماذا تبدد وذاب كقطعة ثلج؟ ما أسباب الخراب الذي لحق بالطبقة الوسطى وبالذوق الرفيع وبالتعايش الكبير؟

نستعيد بعضاً من ذاك الزمن النادر المتميز كلما جلسنا أمام جهاز التلفزيون للاستماع إلى أغنية من أرشيف أم كلثوم الفني المرئي، بالأبيض والأسود.

مرات عدة، يسرقني الجمهور الحاضر في جلسته الحضارية أكثر مما تشدني الأغنية بجمالياتها العالية. نعم جمهور أم كلثوم فرجة ثانية وأساسية تضاف إلى فرجة الأداء الفني الاستثنائي للسيدة أم كلثوم.

لست موسيقياً لأتحدث عن فن أم كلثوم، ولكني سأحاول أن أقرأ سوسيولوجياً وسيميائياً هذا الجمهور الحاضر لسهراتها وكأنه يحضر لصلاة صادقة لا سياسية مظهرية.

يقدم لنا جمهور أم كلثوم، وبصدق تاريخي، وبعفوية شعرية عالية، صورة واضحة عن قوة الحضور الذي كانت تمثله الطبقة الوسطى في المجتمع المصري خلال الخمسينيات والستينيات، مما ينطبق إلى حدّ ما على شعوب بلاد الشام وشمال أفريقيا، تلك الطبقة التي يعول عليها تاريخياً في قيادة التحول وفي الحفاظ على التماسك الاجتماعي، وفي حماية الذوق العام وفي حراسة ودعم الإنتاج الثقافي والإبداعي والوقوف إلى جانب المثقفين والمبدعين بكل تنوعاتهم واختلافاتهم التي تدفع نحو التقدم والعصرنة والمراجعات والأسئلة الجريئة.

وأتأمل تفاصيل صالة الحفل المليئة بجمهور، بوجوه مبتسمة وملامح عميقة مستبشرة وبحركات وإيماءات تراوح ما بين التحفظ والانطلاق والحرية، جمهور مشدود إلى صوت أم كلثوم ووقفتها، مشدود إليها بحبل روحي من جنون أو صلاة، وأمام هذه الصورة الخالدة تتولد، لمن يعود لهذا الأرشيف الفني المرئي، متعتان الأولى تحققها أم كلثوم وهي تتألق كعادتها وكما في كل أغانيها، والمتعة الثانية هي في هذا الجمهور الذي يحضر حضوراً استثنائياً في فضاء عمومي وبتركيبة بشرية قد لا تتكرر.

أول ما يثيرنا سوسيولوجياً في تركيبة هذا الجمهور، هو الاختلاط، فالقاعة تكاد تكون متساوية من حيث حضور الجنسين، الرجال والنساء، والمقاعد متقاربة والجالسون متقاطعون، لا يوجد مربع للنساء ومربع للرجال كما يحدث اليوم في بعض البلدان، وهذا الاختلاط يعكس مستوى من النضج الحضاري والأخلاقي، فالجميع يستمتع بلحظة فنية تقدمها له السيدة أم كلثوم، وهو يشترك مع الذي أو التي تجلس إلى جواره في هذه الفرجة الفنية من دون اعتبار لأمور أخرى هي من هوس المرضى جنسياً.

وتعكس هذه الصورة بصدق، بهذا الاختلاط والجلوس المتقاطع كثيراً من النبل الإنساني والأخلاق العالية وتحرر الرجل الشرقي من هوس الجنس والمرأة المتاع.

وهذا الحضور المختلط يؤكد أن هذه الطبقة الوسطى كانت في الفترة ما بين الخمسينيات والستينيات، تحمل مشروعاً معاصراً للحياة تبدو فيه المرأة عنصراً حاسماً، ويمثل حضور المرأة بكل أنوثتها واحترامها في هذا الفضاء العام أو العمومي مؤشراً إلى علاقة سليمة وناضجة بين الرجل والمرأة في الطبقة الوسطى التي هي المعول عليها في كل تغيير اجتماعي أو سياسي إيجابي.

 

لماذا يخطئ المثقفون؟... دور التنوير في مجتمعات ملتهبة
ما يثير أيضاً، من الناحية السيميائية الدلالية، والذي يكمن في جملة من العناصر المكونة لصورة جمهور أم كلثوم، خلال الخمسينيات والستينيات، هو نوع الهندام، الرجالي والنسائي على حد سواء، فلباس الرجال يكاد يكون موحداً، طقم أسود وقميص أبيض وربطة عنق، لباس لا يعكس الثراء ولكن يرمز إلى الذوق الجمالي وإلى احترام المقام واحترام وتقدير الشريك في هذا المقام، وهذا الهندام هو سمة خارجية تحيل على مضمون اجتماعي طبقي وثقافي أيضاً، وحين ندقق النظر في دلالات هندام المرأة في جمهور أم كلثوم، سنجده يعكس العفة في المعاصرة والحشمة في الحداثة أو بدايتها، فالمرأة خلال الخمسينيات والستينيات كانت تخرج إلى الفضاء العام أو العمومي مدججة بثقتها بنفسها وبأخلاقها وبثقافتها، مما يجعل اللباس يتراجع من ناحية شكله وطبيعته، بمعنى آخر المرأة في الفضاء العام كانت محتمية بثقافتها وأخلاقها وثقتها بنفسها وليس بعباءتها أو خمارها. لذلك لا نجد هناك أي حرج في عيون المرأة من جمهور أم كلثوم صادر عن لباسها، قصيراً كان أو طويلاً.

اليوم تقاس عفة المرأة بطول فستانها وبلون خمارها وبحذائها الرياضي!

وكانت عفة المرأة تكمن في شخصيتها وفي فكرها لا في لباسها كما هو اليوم، إذ قلّت الأخلاق وضاعت الحشمة في مجتمع قائم على التستر بلباس، رجالي ونسائي، تستر مظهري يريد أن يخادع ويخدع.

وتجاوب الجمهور بنسائه ورجاله مع أداء السيدة أم كلثوم يكاد يكون فردياً، يعكس الحرية الفردية في ارتشاف لحظة المتعة الفنية، فالجميع معلق في صوت أم كلثوم بصورة فردية حرّة، وهذا التعلق فيه كثير من النبل والحضارة والحرية، بعيداً من الهرج والتهريج والصخب، وهو مؤشر على سلطة الذوق العام الذي كانت تتمتع به الطبقة الوسطى برجالها ونسائها.

القاعة بنسائها ورجالها غاصة، وبعضهم وقوف، ولا وجود لحرس ولا لبوليس ولا لعسكري، ومع ذلك كل شيء منظم وكل شيء مهندم، لا فوضى ولا اعتداءات ولا تحرش بالنساء، مما يؤكد أن الطبقة الوسطى هي القادرة على حمل مشروع التغيير الإيجابي.

نعود اليوم لأرشيف أم كلثوم المرئي، لا لنستمتع بأغانيها فقط، ولكن لنقرأ هذا المجتمع من خلال طبقته الوسطى التي كانت تتكئ على مشروع النهضة العربية الأولى التي قادتها طبقة من المثقفين المتنورين الذين كانت عينهم على الغرب من جهة، وعلى تراثهم من جهة ثانية، إذ كانوا يدركون بأن ليس هناك تقدم نحو المعاصرة وامتلاك الثروة الإنسانية في العلوم والطب والعمران والمؤسسات والنظم السياسية من دون تفكيك ألغام الماضي الذي يريد أن يسرق الحاضر والمستقبل من الإنسان العربي.

وهذا الحضور بنسائه ورجاله، ومعظمهم هم أزواج، أي العائلة، بكل أناقته ومدنيته، يشير إلى مرحلة الحلم الذي كانت تحمله الطبقة الوسطى والمؤطر بأفكار النهضة التنويرية قبل أن تنهزم أمام الصحوة الإسلامية التي قضت على مشروع المعاصرة ونصبت السلفية الماضوية بكل أنواعها الجهادية والعسكرية والفكرية والسياسية رقيباً على المجتمع، مما أدى إلى اغتيال الطبقة الوسطى وتفكيكها، بالتالي انهيار الحلم من جهة، وسيادة الانتحار والأحزمة الناسفة وشيطنة المرأة والخوف من الآخر من جهة ثانية.

وفي لحظة انتصار الصحوة الإسلامية بتنظيماتها السلفية على مشروع النهضة العربية التنويرية اختفى جمهور أم كلثوم في دلالاته السياسية والحضارية والجمالية وظهر جمهور التوجس والتوحش والتحرش. 

تابعوا آخر الأخبار من icon news على WhatsApp تابعوا آخر الأخبار من icon news على Telegram

نسخ الرابط :

(يلفت موقع “iconnews ” انه غير مسؤول عن النص ومضمونه، وهو لا يعبّر إلا عن وجهة نظر كاتبه أو مصدره)

:شارك المقال على وسائل التواصل الإجتماعي

 

Telegram